الرئيسية / قصة / صوت من الأعماق/ بقلم: لمياء نويرة بوكيل

صوت من الأعماق/ بقلم: لمياء نويرة بوكيل

صوت من الأعماق/ بقلم: لمياء نويرة بوكيل

خاص واحة الفكر Mêrga raman 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم يكف منذ أن غادر فراشه عن تناول القهوة، فنجانا تلو آخر، يبتلع أسودها العلقم، ولا يفلح في طرد تلك الصور المائجة القاتمة من رأسه الثقيل ولا في إسكات أسئلته المبهمة …

انصرف إلى غرفة الاستحمام يطلب شيئا أقوى يعيده إلى صحوه ومعتادة.

استوى بجذعه تحت ذراع الدش ثم راح يحرك رأسه بأناة يمينا فشمالا. تضرب سياط الماء المتدفق فروة رأسه فناصيته فقفاه حتى يغمر السيل كامل جسمه المقشعر من فرط البرودة…

طالت به الحال وهو يستجمع بأسه وذاكرته ويحاول التأليف بين تلك الصور، وفك لغز تلك الأسئلة التي لا يتوقف طنينها كساعة منبهة، أو جرس كنيس لا يسكت: “ألا يكفيك. إلى متى…؟ متى سترجع؟ “…

أدار صنبور الماء إلى أقصاه ينشد طوفانا يغمره فيغرق ذلك الكابوس الذي لا يغادر رأسه، حتى انتبه إلى أنه أسرف في الماء، وتذكر كيف كان يثور فتفلت منه الشتائم القاسية حين يسرف أحدهم: ” أوقفوا الماء … اللعنة عليكم، أليس ما تأتونه حراما؟؟”

فاجأه وقع تلك الكلمة حتى اقشعرّ بدنه:” حرام ؟؟ وهل تعرف أنت الحلال والحرام؟”….

انطوى على جسمه المبلل الملفوف بفوطة الاستحمام برهة من الزمن شعر خلالها بعودة ذهنه. راح يستذكر ما سبق من ليله وعجيب ما رأى وسمع بمنامه، ويعيد ترتيب الصور والأحداث كأنه يرتب قطع بازل مشوشة.

يذكر أنه نزل من سيارته البالية متثاقلا ليظل أمام باب بيته ساعة عذاب من الزمن، يحاول إدخال المفتاح في الثقب فلا ينجح، يأخذه الدوار خطوات إلى اليمين ثم إلى الشمال ومرات إلى الخلف، فيجتهد في استعادة توازن جسمه ويشد القبضة بيده اليسرى على يده اليمنى لتثبت وتصيب مرماها، ثم يسدد مفتاحه كمحارب عنيد يشهر سلاحه في ساحة الوغى ويهجم عليه متوعدا:

ــ “يا ولد الكلب، إلاّ ما نعْمِيلكْ عينك ”

لكن ذلك الثقب بعينه الواحدة كان لئيما ماكرا يتراقص به بخفة ويراوغ طعنات المخمور ….

جن الرجل وراح يسدد طعنته القاتلة فيصطدم الحديد بخشب الباب الصلب فيلتوي إصبعه ويفقد توازنه ويتقهقر إلى الوراء ليسقط أرضا وقد خان الدوار عزمه وسحب الزلزال من تحته ثبات رجليه.

رفع رأسه إلى الطابق العلوي فلاحظ انطفاء النور فجأة. صاح:

ـ ” اللعنة، لعنة الله عليك، يا بنت الكلب، تضحك عليّ؟ زيد اضحك زيد، باهي هكّا توة؟؟ أنا كي الكلب وحدي وإنت كي الكلبة وحدك؟ آش ربحنا ، تفوه عليك”

وإذا تلك العمارات الباسقة حوله ترتج من فرط القهقهة والسخرية، كأنها أشباح خبيثة تسخر من بؤسه وتكشف للعالم حاله، وترتفع ضحكاتها وهي ترجّع الصدى:

ــ يا لك من بائس معاقر للخمر، عد إلى ندمائك ودع لحيّنا وقاره وهدوءه.

ــ طبعا ستغرق في نوم طويل كدأبك كل ليلة وتصحو لما ينتهي الدوام فتجد أنك قد أضعت رزقك.

ــ ضيعت عشّك الدافئ، وزوجتك الطيبة، وأضعت عطف أولادك .. .

تملكه الغيظ فاستجمع قواه لينهض ويفتح الباب ويلج إلى بيته. استوى على أربع يجاهد جسمه الواهن حتى يتمكن من الوقوف، لكنه لم يجد المفتاح فراح ينبش في جيوبه حتى فقد توازنه من جديد وقد غلبه التجشؤ فالقيء والسعال وفلتت من جسمه كل السوائل النتنة فغرق فيها وفي بؤسه ووحدته وجثمت عليه كوابيس دونما رحمة ..

لما بان الخيط الأبيض من الأسود، عاد إلى وعيه. نهض يجر أطرافه المتيبسة من أثر برودة بلاط الأرضية وصلابته، وسرى إلى بيته الكئيب.

غشت أنفه رائحة الرطوبة الكريهة. دفع بثيابه المتراكمة فوق سريره يفسح لنفسه مساحة يستلقي عليها فتبعثرت ثيابه أرضا ..

ألقى بنظرة بائسة إلى دولابه المشرعة أبوابه، فشعر بالمرارة وهو ينتبه إلى الأدباش المتدلية من أدراجها. حدثته نفسه بألم: “ذات يوم كان بيتك نظيفا يفوح مسكا وعطرا، وكانت أثوابك نظيفة مطوية ومرتبة، وكنت تشم روائح الأطباق التي تحبها قبل أن تدير المفتاح في باب بيتك … ذات يوم كان بيتك يضج صخبا ومرحا ومشاكسة:

– بابا، جيت … مواه … بابا، نستنى فيك توحشتك راني ..

– بابا هيا جُعنا، نستناو فيك ما فطرناش ..

من يكلمه اليوم؟ من ينتظر قدومه؟ من يعد فطوره؟ من يقاسمه طعامه؟ من يستر عيبه ويداوي مرضه ويغطي عراءه؟

من يصبر على قرفه وإهماله وتبذيره وقلة معروفه؟ من؟

ظل كذلك تمخضه الحيرة وتعتصره الخيبة حتى أخذه النعاس إلى آخر ساعات العصر …

نزع عنه فوطته المبللة وارتدى ثيابا جديدة وتلك الأسئلة المبهمة تنمو مرتوية من عذابه وحيرته. أحس بجوع يقطع أحشاءه وعطش دوري يعرف كيف يرويه ..

وهو في سيارته عند المفترق، شده شفق الغروب البديع المهيب الذي يزين الأفق المديد فراح يتأمله في انتظار الضوء الأخضر. همّ بإشعال رفاف السيارة منبها بالاستدارة إلى اليسار حيث جلسة الرفاق من الندماء، إذ بصوت رخيم منبعث من اليمين يرتفع في رحب السماء مناديا “حيّ على الصلاة”..

 

لمياء نويرة بوكيل، تونس

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman