الشاعر خلدون جاويد
هذا وطننا .. وطن القيامة .. فمن يدافع عنه غيرنا؟
خلدون جاويد: شاعر ينشد الأمل ويعشق الحياة في ثنائية حب نقية، يرى فيها الوطن في عيون الحبيبة والحبيبة في فضاءات الوطن. لم يستكن ولم يهادن وبالشعر يقاوم، على الجرح يتكئ وينز من قصيدته الفرح، وفرة من العطاء ودواوين تنتظر الصدور. أعجب بوالده كثيراً حد الهيام والافتتان، وأعجب بالشعر الذي يقرأه ويغنيه وبحافظته الرائعة، كان يستلهم هذا الجمال ويمني النفس بأن يكتب مثل هذه الروائع. لم يكن لمدينته التي ولد فيها علاقة بتكوينه الشعري، ولا حتى لمدينة بغداد ذاك الفضل، لكن بغداد أضافت له في واقع الحال. كان يقرأ الرصافي والكاظمي وعلي الشرقي والجواهري، فصاغ قصيدته الأولى ومنها انطلق في تزين العقد. كان تركيزه على الشعر أكثر منه على الفكر والسياسة: “الشعر هو كل حياتي، أو هو الهالة التي أدور فيها، ذهبت إلى بدر شاكر السياب وإلى نزار قباني اللذين أثرا بي تأثيراً كبيراً، وحاولت أتشبه بهما بالكتابات الأولى، عدا الديباجة الرصافية والجواهرية، التي كنت أستلهمها في الكتابة”.
أسر القصيدة
كان هناك وفاء غير طبيعي للشعر في حياة خلدون، فكان يترك الدراسة ويذهب إلى الشعر، ويكتب في كل ليلة قصيدة حتى في ليلة الامتحان، وكان يعاقب على هذا من قبل والده، الذي اكتشف ذات مرة قصيدة غير مكتملة، كان خلدون قد وضعها في كتاب الجغرافية، كتبها عن صديق له فقد حياته إثر حادث سير، فقرأها والده واكتشف أن القصيدة جيدة وأعجبته فقال له: (لو لم تكن هذه القصيدة جميلة لعاقبتك ذاك العقاب! أكملها). أعجب خلدون بالتشكيل الشعري لأنه جميل ويعطي ويعلم ويثور اللغة، ولكنه لم يدخله في حياته: “لأني كنت أسير في أسار القصيدة الرصافية في ملاحقة الحدث اليومي التأريخي، بمعنى أني لن أخرج من التأريخ، لكني أيضاً أدبج قصيدتي بجماليات التشكيل وهذا ضروري، لأنه يجب أن تكون القصيدة ضفيرة ما بين التشكيل وبين التأرخة، وبين الموقف المضاد أي القصيدة المضادة، وأنا هذا ديدني طيلة الفترات الطويلة، وأصدرت دواوين وكتابات في هذا المنحى”.
أول الغيث
إن القصيدة التي أشرت لخلدون شاعراً، كتبها في بغداد في نيسان عام (1973)، واعتبرها القصيدة الأولى وكانت بعنوان: (لمشمسة العينين). قرأها في قاعة (ساطع الحصري) في كلية التربية في مهرجان الربيع. كانت قصيدة ثورية تبجل الحزب الشيوعي العراقي، وثورة السودان وقتها، ومدينة الناصرية العراقية: “كان الجو ملغوماً في القاعة وقد سخر الجمهور من بعض الشعراء. فقلت لصديقتي التي أصبحت فيما بعد زوجتي، أني سوف أنسحب ولا أقرأ ولا أريد أن أتعرض إلى السخرية. فقالت لي لا، عليك أن تذهب لأن قصيدتك قوية، وفي كل الأحوال أعتبر نفسك تقرأها لي أنا فقط. فسرت في الممر حتى صعدت إلى المسرح وأنا العاشق الولهان قلت: (إذا كانت قصيدتي سبباً في شتمي، فإني سأحتضن كل شتائمكم في قلبي، وذلك لأني أغني قصيدتي إلى تربة الناصرية، التي أول ما نبتت عليها وفي بلادي ثورة الاشتراكية الحمراء).
فصعد إلى المسرح شخص من الاتحاد الوطني لطلاب العراق، ووضع أمامي ورقة مكتوب عليها، (ليس هكذا يا صديقي!). لم أعر أي اهتمام لذلك وقرأت قصيدتي التي كان مطلعها: “مدن الشرق لا تخافي فوجهي نصبوه للعاشقين صليبا / عربات النزيف تلهث في رأسي زهوراً من الدخان لهيبا / وإذا يحرقون كل حديد الأرض ناراً في جثتي لن أذوبا / أنا فيتنام كالفرات بلادي كل شبر في الناصرية كوبا”.
شمعة تضيء الجزائر
غادر خلدون العراق مكرهاً في ربيع عام (1979) باتجاه بلغاريا ومكث فيها بضعة أشهر، ومنها إلى الجزائر إلى مدينة في قلب الصحراء، تبعد عن العاصمة ثلاثة ألاف كيلومتر تقريباً، حيث عين فيها مدرساً وعاش فيها لأكثر من ثماني سنوات: “كان لدي الكثير من الوقت للقراءة، كرست جله للرواية الجزائرية. وقد أعجبت بأسماء روائية مهمة وكبيرة منها: (الطاهر وطار، رشيد بو جدرا، وأمين الزاوي). وقد تأثرت أيضاً بعدد من الشعراء الشباب وبقصائدهم الثورية، لأنهم يمثلون الإرث الثوري لآبائهم وأجدادهم، والملاحم البطولية التي سجلوها ابان الاحتلال الفرنسي لبلدهم الجزائر. فكانت قصائدهم تسحرني كما أسحرني الشعر الفلسطيني، وبنيت قصيدتي على هذا النحو وبدأت أتشبه بقصائد هؤلاء الشعراء الشباب”.
إضافة إلى هذا كان خلدون يقرأ الصفحات الثقافية في كل الصحف اليومية التي تصل إلى تلك الولاية، وكان يكتب نقداً لبعض القصائد المنشورة فيها. إضافة إلى كتابة الكثير من القصائد ونشرها في العديد من الصحف منها: (جريدة النصر، الشرق الجزائري، الوهرانية، الجمهورية، وجريدة الشعب). كان معروفاً على الصعيد الثقافي في الجزائر، حتى أن الإعلامي الجزائري (عبد القادر دعميش)، الذي يعمل الآن في قناة الجزيرة. كتب عنه مقالاً بعنوان صادم: (خلدون جاويد شمعة تضيء الجزائر قاطبة)، وذلك لكثرة ما كان جاويد يمطر الجرائد بقصائده.
هذا العتاب
بعدما تجاوزت شهرته الجزائر، قرر خلدون السفر إلى سوريا عام (1988)، وعمل لدى شاعر العرب الأكبر (محمد مهدي الجواهري)، وكتب الكثير من الشعر الجميل في دمشق. من أشهر ما كتب قصيدته الرائعة، التي طفقت شهرتها الآفاق بعنوان: (هذا العتاب)، الذي يمدح فيها الجواهري ويهجوه في آن واحد: “أتشعر أم أنت لا تشعر بأن سكوتك ذا مضجر”. وقد نشرت في جريدة النداء اللبنانية وتردد صداها في دمشق. إضافة إلى مطولات عديدة تجاوزت أبياتها المائة في بعض القصائد. لم يطل بخلدون المقام في دمشق، حتى غادرها متوجها إلى موسكو عام (1989)، ومكث فيها ثمانية أشهر، حتى استقر به المطاف في مدينة كوبنهاجن في الدانمارك.
النمو الفلسفي والفكري
تجاوز إعجاب جاويد بالثلاثي اللبناني الرائع، (جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي)، إلى حد التأثر بهم، وخصوصاً بالشاعر الفيلسوف جبران خليل جبران: “بدأت أستلهمه وأسعد به في فترة لاحقة، عندما بدأ عندي النمو الفلسفي أو الفكري، الذي هو أرقى قليلاً من الفهم الشاعري والذائقة الشعرية. وإذ كان هناك شاعر مهم جداً كان اسمه (فؤاد الخشن)، إنه شاعر غير معروف والذين يعرفونه قلة من المهتمين، لكنه شاعر رائع للغاية، وكنت أقرأ له كتاب اسمه: (الآلهة وعشتروت)، أثر بي كثيراً”. ومن الشعراء المصرين عدا (أحمد شوقي وحافظ إبراهيم)، أثر به شاعر رائع هو: (علي محمود طه)، “حتى أعجبتني الشاعرة (لميعة عباس عمارة)، في لقاء لها عندما قالت: (إن الشاعر الذي لا يقرأ علي محمود طه، لا يعرف الشعر وجماليته)، وأنا قرأت له ضمن قراءاتي عندما كنت شاباً”.
البوصلة الشعرية
أما الشعر الفلسطيني فقد أعجب جاويد به كثيراً، وكثيراً ما قرأ لهؤلاء الشعراء العظام مثل: (توفيق زياد، سميح القاسم، محمود درويش، عزالدين المناصرة، وأبي سلمى). وكانت القصيدة الفلسطينية وقتها: “هي البوصلة الشعرية الفكرية العظيمة، وهي بحد ذاتها ثورة ثقافية. وكان الشعر الفلسطيني شعر محرض وأنيق وجميل، وفيه من الجدة ما يضاهي أو يتغلب على الأدونيسية في وقتها. كانت الأدونيسية واقع الحال، وفي معظمها ضوئيات أكثر مما تستهدف الواقع، أي أنها ليست قصيدة تأريخية. القصيدة الفلسطينية هي قصيدة الحالة والتحريض والثورة وتحريك التأريخ. بينما هنا القصيدة الأدونيسية تعيش مثل نحلة في عالم اللغة، ومن ذلك كان الإعجاب بالجدة. بينما القصيدة الفلسطينية ليس فيها من الجمال الضوئي ما يرقى إلى القصيدة الأدونيسية، ولكن فيها من الجمال المبدئي والأخلاقي والهيليني والبطولي والتحريضي. هذه هي قوتها، فهي هرم شاهق في التأريخ”.
القصيدة الهيلينية
لم تخرج قصيدة خلدون من إطار القصيدة العمودية إلى فضاءات الشعر الحديث، بالرغم من تأثره بشعراء القصيدة الحرة: “القصيدة العمودية أسيرتي، فهي تأسروني وموسقاتها تعطيني هيبة وقيمة ومنبرية ومهرجانية وهيلينية وبطولية، كأنما أريد أن أفتح فيها فتوحات في التأثير على الآخر، لأن القافية كما يقول الجواهري: (إذا كان الشطر قوياً وصداه أقوى في القافية والتواشج الشعري ما بين الشطر والعجز، فإنه يؤثر تأثيراً بالغاً بالمقابل بحيث يحفظه لجماليته)، فأنا أنحو هذا المنحى ولذلك أحب هذه القصيدة العمودية. عدا هذا لدي ديوان كبير جداً يحوي أكثر من مائتي قصيدة حرة مموسقة على الطريقة السيابية في الحفاظ على الموسيقى، وأيضاً كتبت قصائد نثرية عديدة وأنشر بعضها بين الحين والآخر”. لدى جاويد أكثر من (760) إسهامة في (الحوار المتمدن) عدا المقالات وأغلبها نقداً روائياً. وبالرغم من أسره في القصيدة العمودية، لكنه لم يقاوم إغراءات القصيدة الحرة.
وعندما سأل الجواهري عن الشعر الحر قال: (ويبقى الشعر شعراً مهما اختلف الإناء)، ولكن لدى (إليوت) إجابة مغايرة حول الشعر الحر، حيث يعتبر: (أن في الشعر الحر دلالة على عدم قدرة الشاعر على كتابة القصيدة العمودية وهروبه إلى القصيدة الحرة). ولا تخلو القصيدة العمودية المقيدة بالقافية من الحشو أحياناً، حتى عند كبار الشعراء، فهناك من طوع القافية لقصيدته، وهناك من سحبت القافية قصيدته إلى الوقوع في شرك الحشو أحياناً، كما قال الجواهري (كل ارتفاع له انخفاض). إذن “لا يمكن أن تأتي القصيدة العمودية كقمم متلاحقة، ومن يبحث بعين العارف بين النصوص لأية قصيدة حرة، يجد أيضاً هناك قمة وهناك منخفض”.
هجاء ورثاء الجواهري
طبع جاويد ديوانه الأول: (كتابة على صليب وطن) في سوريا، وصدر ديوانه الثاني في لبنان: (شكراً من الكامب)، والثالث (البقايا)، والرابع (الحنين إلى البيت)، وكلها قصائد حرة. ومن ثم ديوان عمودي كبير بعنوان: (قم يا عراق). كل هذه الدواوين صدرت في التسعينات من القرن الماضي. وفي بداية الألفية الثانية، كتب خلدون مذاكرات بعنوان: (لماذا هجوت الجواهري ورثيته). بعدها قصص وخواطر بعنوان: (شمعة ذكرى إلى أم عراقية) في عام (2003)، ثم ديوان جديد في عام (2015)، وهو عبارة عن بيت شعر: (هذي العمائم لا تطاق جرب أصيب به العراق). بعدها ديوان آخر يحمل عنواناً جميلاً، وهو عن بيت شعر أيضاً، وتكمن جماليته في كونه على شكل صليب، كتب الشطر الأول منه على الذراع الأفقي للصليب، والشطر الثاني على عمود الصليب: (قم يا عراق فقد تناهبك الوبا حطم صليبك ما خلقت لتصلبا) في عام (2016). لدى جاويد أكثر من سبع مخطوطات لدواوين أخرى ينوي طباعتها تباعاً، ويتراوح عدد القصائد في كل ديوان من دواوينه (من 30 إلى 101) قصيدة: “أرتب قصائدي وأنقحها وأضع تواريخها وأبوبها وأنظفها، وأتصل بصديقي المصمم ليضع التصميم المناسب، وأتناول الثاني والثالث وهكذا، فكل دواويني جاهزات كطائرات على المدرج”.
درة العقد
خاض خلدون جاويد غمار الحقل الروائي، وطرق أبواب الرواية الفضائحية تحديداً، وأنجز منها روايتين، وهو لا يرغب بالنشر الآن، ويتحفظ حتى على ذكر العناوين لأسباب يقول عنها خاصة جداً: “لا أستطيع نشرها الآن، لأنها تتناول الحياة السرية لأسماء وأشخاص معينة، وقد أودعت الروايتين مع مبلغ من المال، لدى شخص يُعتمد عليه، يقوم بنشرها من بعدي”. وهو بذلك متأثراً بالجملة للشاعر الجزائري الكبير (واسين الأعرج)، الجملة الفاتنة المفهورة بالمحسنات البديعية والمفهورة بالغرابة والدهشة.
ينوي جاويد لملمة قصصه وخواطره في مجموعة قصصية ثانية يرسلها للطبع، قد لا تخرج عن مسار قصائده الوطنية والوجدانية: “أنا الآن كالمجنون أعمل ليلاً ونهاراً، وأعمل في كل لحظة، وكل لحظة تطالبني بأن أسدد للوطن ديناً برقبتي، أريد أن أُرجع للوطن قليلاً من الضوء والحب والافتتان، فكيف لي أن أهدأ وأنا أراه يحترق ويقتل في جنون طائفي ومذهبي، فهذا وطننا وطن القيامة فمن يدافع عنه غيرنا؟، أنا أتمسك بالأمل وأرى أن العراق سينهض من تحت الركام قصر الزمان أم طال”. لقد نهلت قصيدة جاويد من حب الأرض وتغنت بعشق الحبيبة: “وأصبحت قطعة ذهبية على فود المرأة، أي قلادة على صدرها، تمازجت في موشور متداخل”. كما يقول الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، (عن الورود أدافع شوقاً إلى شفتيك، وعن تراب الشوارع خوفاً على قدميك).
بقلم: محمد المنصور