القفص/ عزة بو قاعدة

القفص

قصة قصيرة

 

حدَّق العصفور حوله، نظر يمينا، شمالا، إلى أعلى، إلى أسفل، انتفض، تصدمه أعمدة القفص وقع في براثين الشك والقلق …!

داخل القفص الواسع حبوبٌ ملونةٌ شهيةٌ مغرية، وماءٌ عذبٌ يقطِرُ من أنبوبٍ لا ينضب! .

آمن أنه في نعمة خُصَّ بها عن باقي الطيور، فمن يسلم من قتل الصيادين وبطش المتناحرين، فإنَّ الجوع والعطش يقضيان على أغلبها، في تلك البلاد التي عَلت سماؤها دخانَ الحرب وحمل هواؤها رائحةَ الموت واكتست الأرضُ ثوبا أحمر في كل الفصول،

قد هزَّه الرعب بعيدا؛ طار إلى ما وراء البحار، كمعظم العصافير!، أنقذته مجموعةٌ من حماة الطبيعة، وجدته على وشك الغرق في بركة ماء تقع على الحدود…!

التف حوله الأطباء من كل جانب، تعلو وجوههم الشفقة والرأفة بحاله…خصوه بفائق العناية لما عرفوا أنه طائر لاجئ من الشرق…! اهتموا به وعالجوا جراحه لأيام طويلة.

في حديثهم كانوا يشفقون عليه وعلى موطنه المنفجرةُ منه ينابيع الدماء …!

منذ قُرعت طبول الحرب المجنونة وحلمُ الهجرة يراود الجميع، آلاف الطيور التي شدت الرحال في كل اتجاه …تبحث عن أرض السلام… أرضِ الحرية والأمان …!

وكما توقع كان قراره صائبا، بل محظوظا جدا عندما مضى في تلك الرحلة يسابق المسافات.

منذ أن خرج من غرفة العلاج وأصواتها تطوق سمعه…أربكه صداها… وكأنها أصيبت بداء الجنون…! لم يفهم شيئا مما يحصل معها …يحدق إلى أقفاصها في صمت وشرود ولا أحد يأتيه بالخبر اليقين !، كانت الطيور في حالة غريبة…قلقة.. متوترة… قد حيرته صرخاتُها المبحوحة … منذ مدةٍ وهي على هذه الحال…

إلى أن جاء ذاك اليوم… حين أبصر

طائرا أمام قفصه ضعيفا يترنح وكأنه مخدر …! نظر إليه بعين الشفقة؛ ذكره بأيام بائسة داخل الوطن …!

قال: هل أتت بك عواصف الوطن! ماذا حصل هناك أكثر من حرقهم لوجه السماء…! وتجويع ضعاف النفس…وتقييدهم لنا ولحرياتنا… تبا وألف تبا!

لا تقلق يا ابن البلاد…هذه أرض السلام وسماؤها تمطر رحمة… وقلوبهم تشفق على اللاجئ، لا عليك سوف يساعدونك ويقدمون لك العلاج… ويطعمونك أيضا … لقد نجوت يا صديقي…!

ارتسم في حدقة عينييه المتعبتين حزنٌ عميق، عمق البحار…

بصوت أجشّ قال: أنا طائر حقير… سيء… نتن، أنا طائر الخيانة…!

تطلع إلى العصفور يعلوه اليأس، يحاول النهوض ولا يستطيع،

كان يحاول أن يفهم ما يحدث مع الطائر الغريب…! أخذ يزعزع باب القفص…ولكن دون جدوى والقضبان من حديد…

فجأة أطلق الطائر ما يشبه ضحكة هستيرية تحرك خلالها في جنون وهو يقول

_ آه منا نحن الطيور! ،

سأله العصفور والخوف قد تملك كيانه

_ من أنت…؟ …ماذا يحصل معك؟!

_الطائر: وهل مثلي يذكر له اسم …!  إنني رقم وأنت وهم أرقام…جميعنا في تلك السجلات اللعينة نشكل عمليات حسابية شديدة الدقة!، رفرف العصفور في قلق وقال:

_ أعلم أنك مصدوم…فقط انتظر مرورهم من هنا و…، حينها رفع الطائر جناحيه وكانا مبتورين بالكامل،

أصابه الرعب بصوت متقطع

قال: يا إلهي….

قال الطائر: هذه نتيجة عبوري لحدود وطني…! هذا المصير الذي اخترته لنفسي…تخليت عنه في أزمته … وظننت به الظنون… إننا ندفع الثمن يا صديقي…إنه أغلى ثمن!

نحن محضُ تجارب… وبضاعة…نحن أحجام منسية أيها الغبي مثلي…! لقد اخترنا الهرب نحو الغرب واختارونا صيدا سهلَ المنال … لمعت عيناه تنذر بآخر دمعةٍ تقفُ على عتبة الندم،

وقف الطائر منتصباً لثواني ثم هوى أرضا، مات وبقت عيناه مفتوحتين تسردُ الحكايا المدفونة وراء البحار،

صرخَ العصفور ملء فيه… وقبل أن يدركه الصباح أُدخل مختبر التجارب.

 

 

 

بقلم: عزة بو قاعدة

 

 

  • Related Posts

    زهرة الوقت/ بقلم: سالم الياس مدالو

    زهرة الوقت – قصص قصيرة جدا – سالم الياس مدالو   1- زهرة الوقت زهرة الوقت اضرموا النار فيها وحينما اشرقت الشمس فروا فروا صوب كهوف عريهم وخزيهم يجرون اذيال…

    كانط في المقهى / ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

    كانط في المقهى يكشف بيتر مولن الأسرار الشخصية للفلاسفة. ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف   كنت في ستيمنغ نيكرز في  شارع مكتبة المدينة، المقهى المفضل لدي. عندما أقول “أنا”، أعني…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    You Missed

    متى تفهموها صح؟ / بقلم: خالد السلامي

    متى تفهموها صح؟ / بقلم: خالد السلامي

    إنّما قاتلَ اللهُ الحربَ ما أبشعَها/ بقلم: فراس حج محمد

    إنّما قاتلَ اللهُ الحربَ ما أبشعَها/ بقلم: فراس حج محمد

    كتبْتُ إليكَ مِن نَبضي وقلبي/ بقلم: هدى الجاسم

    كتبْتُ إليكَ مِن نَبضي وقلبي/ بقلم: هدى الجاسم

    حتى إشعار آخر / د. بقلم: ريم  النقري

    حتى إشعار آخر / د. بقلم: ريم  النقري

    قراءة في “ثورة غباء” للكاتبة نزيهة اليدالي الحسن/ بقلم: بوسلهام عميمر                          

    قراءة في “ثورة غباء” للكاتبة نزيهة اليدالي الحسن/ بقلم: بوسلهام عميمر                          

    قراءة في القصة القصيرة “سر في صورة” للقاص الفلسطيني محمود سيف الدين الإيراني/ بقلم: فراس حج محمد

    قراءة في القصة القصيرة “سر في صورة” للقاص الفلسطيني محمود سيف الدين الإيراني/ بقلم: فراس حج محمد