داليدا …. الإحساس واللحن والصوت
بأي حرف ثوري اكتب عن داليدا ….
سؤال لطالما حيرني ووضعني أمام اختبار صعب فبين القلم والذاكرة جسر بلا بداية ونهاية ربما فكريا وفلسفيا يمكن الربط بينهما لكن كيف يمكن اجتياز الفراغ المسكون في المسافة …. عشقا
فرغم مرور وقت طويل على رحيلها لكن ما زال تأريخها الفني مزدهر ومتألق كونها صاحبة الإحساس المرهف واللحن العذب والصوت الساحر وهذا صفات نادرة من الصعب أن تتواجد في أي مغني أو مغنية في الوقت الحاضر فجيل العمالقة رحل ورحلت معه الكثير من الأنغام والألحان وما يحدث الآن على الساحة الفنية ما هو إلا تجديد رمزي لمظاهر سابقة واستحداث مفاهيم جديدة للفن رغم بعدها عن معانيها الحقيقية لكن هذا لا ينطبق بشكل مطلق على العاملين في مجال الصوت والموسيقى فبين ثنايا الزمن تظهر أصوات جميلة تحمل نقاء الكلمة وصفاء اللحن لكن لا يمكن مقارنتها بالماضي ……
لكن يولاندزا كريستينا جيجل وتي (داليدا) اسطورة غنائية صنعها الماضي الجميل والحاضر ينقل صورتها الحية الى القلوب والعقول ورغم انتحارها بجرعة زائدة من المهدئات في 1987 فأن صوتها ما زال يتنقل بين أروقة الفن كنغمة هادئة تأبى الانتحار فإيقاع موسيقاها تخطت الزمن والمكان وأحاسيسها المنفردة الخاصة بها لم تخرج عن قاعدة الواقعية لأنها كانت تغني بصدق وتبث بلغات عديدة لهفة العشق الهارب والغائب والمجهول …….
فالغناء قبل كل شيء احساس ولحن وما أن يتجسد الاثنان في فكر وفلسفة المغني أو المغنية حينها ستكتمل الأغنية في أبهى حلة وستأخذ بونا شاسعا في خيال المستمع لها هنا اللغة لا تخضع لمقياس العنصر الموسيقي، فداليدا طرحت أغاني عديدة وبلغات متنوعة بالعربية والفرنسية والايطالية لكن هذا التنوع اللغوي لم يصنع نجاحها وتميزها بل أضافت بريقا وشعاعا إبداعيا لأعمالها الغنائية والتي تصنف ضمن خانة الإبداع الفردي لشخصيتها المنفتحة على ثقافات كثيرة بينما الإحساس واللحن كانا لهما الأثر الأكبر في الترويج لأغنياتها فأدائها واختيارها لمجموعة من الايماءات والحركات والماهية التي من خلالها طرحت رسالتها الفنية وطريقة وصولها لذهن المستمع كل هذا صنع لأعمالها الغنائية الخلود الذي وأن طال الزمن ستبقى حاضرا في المشهد الغنائي الغربي والشرقي …..
لذا فأحساس ولحن وصوت داليدا هو المنفى الاختياري للروح عندما تتخبط في خيوط العبث والفوضى في اليوميات فأغانيها فسحة للسفر الى الخيال كي يحظى القلب والعقل بالهدوء بعيدا عن السخف الذي ينقله الواقع المتعفن لما يسمى بالحياة ….
فالحياة بالنسبة لداليدا كانت عبارة عن عدة كلمات حيث كتبت حروفها الأخيرة قبل أن تنتحر ( سامحوني الحياة لم تعد تحتمل ) هنا يتضح المغزى الفكري والفلسفي لشخصيتها الفنية الفريدة فهي لم تتخذ من الأغنية وسيلة لصعود سلم المجد فحسب بل سلكت هذا الدرب لأنها كانت مؤمنة بأن الغناء ما هو إلا جسر حقيقي يصل ما بين الإحساس واللحن والصوت لذا واصلت مسيرتها الغنائية المزدهرة بالأضواء والنجومية وهي تتخذ منها عنوانا لمعاناتها في العشق والمأساة التي تصدرت واجهة يومياتها فأسلوبها الغنائي فريد من نوعه ونادر جدا لا سيما في وقتنا الحاضر والفترة التي عاشت فيها لأن القلائل من المشاهير استطاعوا ان يضعوا بصمة حقيقة لأعمالهم فلطالما كان الهدف هو الشهرة والمال بينما داليدا لم تغني كي تحصل على كل هذا بل كان هدفها أسمى بكثير فصراعها كان مع الإحساس واللحن والصوت لأنها خاضت تجربة حقيقة في عالم الفن هنا تكمن قيمتها كونها مغنية وفنانة ومبدعة من الطراز الرفيع اتخذت اصعب الطرق في فلسفة الغناء والفن كي تصل الى عقول وقلوب الملايين.
ايفان زيباري
شاعر وكاتب