شوك صغير/ بقلم: فداء الحديدي
تهوي برأسها إلى المكتب، تنهمر الدموع من عينيها كنهر جريح، تنهدات من روحها شهقاتها تتعالى كهدير موج متراكم فوق شاطئ حزين، تنظر إلى صورة طفل، تحضنها، تعود إلى البكاء من جديد، يد رقيقة تداعب خصلات شعرها الداكن كليل مظلم. صوت هامس يطرق أذنيها , جعل بريق عينيها يخمد شيئا فشيئا كجمر متّقد في مدفأة مشتعلة …كنسمة ربيعية هادئة أطلّت صديقتها برقة لتضم يديها , تساعدها على الوقوف للخروج , و هي ترفع لها رأسها بهدوء من على طاولة المكتب .
تأخذ يدها برفق إلى ذلك الطريق، حيث التقت به أول مرة، الأشجار المتزاحمة يختبئ خلفها ضباب البرد القاسي، الرذاذ يسقط بقوة على نافذة السيارة، عيونها تنظر بحزن وقسوة، كقسوة الريح على المطر، كقسوة المطر على أوراق الشجر، كأنها تلاحقه .. تعاقبه على الحياة .
الموسيقى تتعالى في داخل السيارة، تعبث بأشجانها، الهدوء يخيم داخل قلبها، الضجيج في الخارج يسمعه قلبها، ضباب في الروح، كأنما يختلط ويمتزج بالمطر المنهمر فينسكب على خدودها الورديتين في بكاء جارح، أجساد بالية تتحرك في كل مكان، قلوب مسكونة بالخوف والهلع تمضي وتبتعد، وهي تمضي وصديقتها إليه في ذلك المكان الذي استوطنت فيه جراحاته وآلامه.
توقف الزمن لحظات حيت توقفت سيارة صديقتها قرب الشاطئ الحزين، على نافذة السيارة يطل الصغير الأسمر، يملؤ وجهه الغبار الشقي، القميص الممزق ذاته يرتديه، كحال قلوب من حولها، عيونه تستجدي، تلمع، ابتسامة خجلى تخفي ذل وضعف مهين.
رمقها بنظرة رقيقة، خطفت قلبها، وهو يعطيها وردة الأسبوع الصفراء، كلما مرّت به وابتاعت الورد، جففّت دموعها وهي تأخذها من يده، تبتسم برقة، تغادر وصديقتها المكان ببطء شديد، تغلق النافذة بهدوء، تغرق عينيها بالدموع من جديد وهي تضمّ بيدها الوردة الصفراء، تسير السيارة ببطء وهي لازالت تنظر خلفها إلى ذلك الصغير وهو يلوّح لها بيده مودعا.
أسندت رأسها على المقعد، تنظر إلى أوراق الوردة بحزن وألم، تلتفت إلى الطفل وتنظر إليه وهو يجلس وحيدا ينتظر مرور العابرين وهويحمل شقاء العمر على ظهره
مزّقت بغضب أوراق الزهرة الصفراء، نظرت إليه وهو يبتعد، يصغر، لم يبق من الزهرة إلا عودها الغض الندي الأخضر، أشواك حادة تحيط به، غرزت أظافرها في ثناياه، كأنها استلت شوكها لتغرسها في صدر ندي.
صوت من بعيد جعلها تطلب من صديقتها أن تتوقف، سيارة سريعة تقترب بسرعة فائقة تقترب منه، الصغير ينتظر بلهفة، خرجت من السيارة، بخوف، هلع، تركض صوبه بسرعة، تصرخ، تستغيث، ترجو، الصغير متسمر يقف أمام السيارة المسرعة.
عندما يقتحم الغدر أرواحنا، يسلب منا إرادتنا، يجبرنا على المضي في غربة لا نعرف طريقها أو عنوانها، نستجدي القدر أن يسمع، أن يتدخل، أن ينقذ ما تبقى من أحلامنا أو أمانينا قبل أن تسحق، قبل أن تدفن، قبل أن ترديها دموع حمراء تلوّثت بكل دماء الطاهرين.
لحقت به قبل أن يسحق وتدفن أحلامه، تسارعت خطواتي، أصبحت أنا ذلك القدر إليه في لحظة صمود أخيرة، أهرول بقلبي وعقلي، عيونه تنظر إلي، تترقب لحظة وصولي، ذراعيه تجمدت في مكانها، لم يستطع أن يمدّهما إليّ لأضمهم أو حتى استقبل ما تبقى من خوفه، الغبار يلف وجه، يغلفه بغطاء أبيض تحول إلى الأسود كلما اقتربت منه ذلك الجبار على شقاء الحياة.
خطواتي تقترب , العيون غائرة , الكل يترقب بخوف , صمت مقيت . توقفت المكابح بحدة بجواره، خرج السائق الضخم الموسوم بوشم غريب، أخذ باقة الأزهار الصفراء من يد الصغير، تناول بخفة منه مغلفات صغيرة مطوية، ربت على كتفه وناوله نقوده، وقبل أن يضع يده على مقود سيارته، استنشق ما بداخل المغلف ومضى بعيداُ.
القاصة فداء الحديدي/ الأردن