محطات روائية.. شجون السجون في الرواية العربية والعالمية .. ( الجزء الثاني)/ كريم السماوي
محطات روائية.. شجون السجون في الرواية العربية والعالمية .. ( الجزء الثاني)
روايتا الجزء الثاني من ” شجون السجون في الرواية العربية والعالـَـمية ” هما روايتي ” عربة المجانين ” ورواية ” الفراشة “. أما الأولى لكارلوس ليسكانو فهي حكاية سجنه شخصيا الذي امتد إلى ثلاث عشرة سنة والتي بدأت وله من العمر 23 سنة. فليسكانو من مواليد سنة 1949 في مونتفيديو عاصمة الأورجواي، سُجن لأسباب سياسية بعد اتهامه بالانضمام إلى منظمة التوباماروس اليسارية. وخلال فترة سجنه تـُوفيت أمه وانتحر أبوه مما ترك أكبر الأثر في نفسه، وطبعا لم يُسمح له بالكتابة وهو في السجن لذلك تحايل ودّون بعض أفكاره، وخبأها وهرّبها في قيثارة رفيق له في سجنه، وحين أُطلق سراحه وجد القيثارة تنتظره في بيت شقيقته الوحيدة وهي تحوي سبعة مخطوطات أهمها روايته ” عربة المجانين ” ليتمكن بعدها من نشر صدى تجربته في السجن بطريقة روائية مشوقة ورائعة قبل أن يهاجر إلى السويد ويمكث هناك عشر سنوات أخرى. وإذا تأملنا فترة سجنه وغربته فهي 23 سنة، وهي توازي عمره يوم أُلقي عليه القبض.
.. جرّوني من فراشي، حافي القدمين، عاريا، إلا من سروالي، غطوا رأسي بجراب سميك وكبّـلوا يديّ وراء ظهري ثم أوقفوني على الرصيف قبل أن يرموني في مؤخرة شاحنة صغيرة وينطلقوا بي! وها قد مرت أيام عديدة وأنا في ثكنة للجيش، مقـنـّـعا حتى الكتفين، وسروالي وألبستي الداخلية وحذائي مبللة تماما. أنا في الثالثة والعشرين من عمري، لا أعلم في أي يوم نحن، ولا كم الساعة، أعرف أننا في ساعة متأخرة من الليل، أُعدت للتو من قاعة التعذيب، حيث تـُـسمع صرخات العديد من المعَذّبين الذين يتوالون على قاعة التعذيب طوال الليل.. وهناك تبدأ فصول الجحيم!
وأنا في السجن جاء أبي، كانت عيناه محمرّتين، أخبرني أن أمي ماتت، وأضاف أنه في الواقع هو مَن كان عليه أن يموت، وأنه لم يعد يريد العيش بدونها، ستـُـدفن ولن أكون حاضرا. أردت أن أغرقَ في الليل لأتمكن من التفكير بأمي.. لن أراها أبدا.. لن يعود بإمكاني أن أتشاجر معها أو أُضاحكها. ساءت حال أبي كثيرا وأفرط في الشراب، لم يعد يأتي لرؤيتي. أُخبرتُ فيما بعد أنه انتحر، كنت أعلم بأنه سيفعل ذلك، ما كنت أتساءل عنه هو متى وأين؟! كثيرا ما ردد:” لم أعد أريد العيش من دون أمك “. وفي عتمة الليل أدرت وجهي إلى الحائط وتتالى شريط الذكريات، طوال الليل! أكره أبي لأنه انتحر، لأنه لم يفكر بي وفي حاجتي إليه.
انتحاره كان شهادة حب لأمي بعد أن انهار عالـَـمه من دون المرأة التي عاش معها 28 سنة، فضلا عن أن ابنه سجين وابنته في بوينس آيرس. في سنة 1985 بعد أن خرجتُ من السجن ذهبتُ وشاهدتُ المكان الذي انتحر فيه أبي، أدركت حجم العزلة الهائلة التي أحاطت به في ذلك اليوم، والآن من دون أبويَّ أبدأ الحياة في عالـَـم آخر. أبدو وحيدا في هذا الكوكب.. لقد وهبا الحياة لابن نذرَ نفسه للكتب.
وعن تجربة السجن يتحدث ليسكانو بصورة مؤثـّـرة جدا: إذا وصلت الوجبة في موعدها نأكلها في موعدها، إذا وصلت متأخرة نأكلها متأخرة، إذا لم تصل في موعدها ولا متأخرة لا نأكل. هذا هو ما تبقى لنا من حرية، بقية لا تساوي شيئا، بالنسبة للسجين العيش هو مقاومة ليوم إضافي. تتملكنا غريزة الحيوان في الأدغال!.. ما التعذيب؟!.. أهو الجَلدْ أم الدولاب أم الخازوق؟!.. في الأسابيع الأخيرة قبل وصولي إلى هنا كان القمع يجري في الهواء الطلق في مونتفيديو، ويمكن تلـّـمسه، كان الجيش والقوات البحرية والقوات الجوية في دوريات ليل نهار، مسَـلـّـحين، متوعدين، يثيرون الرعب والترويع، وكان العُنف مُفرطا، يمكن قراءة ذلك في الصحافة وسماعه في الإذاعة.
أثناء الليل تـُـسمع صرخات الرجال والنساء ويُسمع نباح الكلاب التي يُحرّضها العسكر على المُعَذّبين لترويعهم. ويخوض السجين معركتين غير متكافئتين، واحدة منها ضد الجّـلادين وهم كُـثر، وهو لا يعتمد على جسده للدفاع عن نفسه، فهو بلا يدين ولا يرى، وبالكاد يتنفس ويعمل الوقت والتعب والألم والضعف الجسدي ضده. في هذا الجانب ليس للسجين شيء يربحه، ويخسر كل شيء. ومع القوة الجسدية والذهنية والحظ والحنق والكراهية قد يتعادل الطرفان!.. ولكن ماذا في المرة القادمة؟!.. يـُصبح الجلاد سيء المزاج، ويتعب. يتصبب عرقا، ويتوسخ وتخور عزيمته فيبدأ بالشرب ويفقد السيطرة ويضرب من أجل الضرب، بلا مهنية، يقضي لياليه إما في التعذيب أو في الشارع لتوقيف الناس وينشغل عن بيته وعائلته.
أما معركة السجين الثانية فمع نفسه، يتكلم أو لا يتكلم!.. وفي الحالتين فهو خاسر، لا مكان للتعادل هنا، شقاء إنساني على الدوام.. شقاء المعَـذّب وشقاء الجلاّدين. فالروائح الكريهة والبول على الثياب واللعاب وفضلات الطعام على اللحية والشعر الكث الذي لم يُـغسل منذ أسابيع والجـِـلد الذي يبدأ بالتهدل لغياب الشمس وانعدام النظافة أشياء تثير التقزز والنفور. لا أحد يطيق وجود شخص في حالٍ كهذه إلى جانبه، ولكن لابد أن يطيق المرء ذاته، لأن كرامته تتوقف على مقاومته، ولأن ما يريده جلاّده هو أن يتقزز السجين من نفسه وأن يكون مجردا من المقاومة إلى درجة الاعتقاد بأنه لا يساوي شيئا. وأعتقد أن كل جلاّد يطـّور مهارته، وله في ذلك تقنياته، يتعلـّـم استعمال الأدوات، والماء والكهرباء والدبوس، ويتعلـّـم كما نعلم استخدام أية أداة على مادته التي هي جسد المعَذّبين.
لقد كنتُ واحدا من أولئك الآلاف من الشباب الأميركيين اللاتينيين الذين اعتقدوا بأنه لا يمكن استئصال الجوع والبؤس والاستغلال إلا بعنف مضاد!.. وسأظل مؤمنا بأن ثمة أوقاتا يحق للمرء فيها أن يقاوم ويتمرد بعنف ضد العنف والبؤس وانعدام الحرية، ولن أكف أبدا عن الإيمان بالكائن البشري.. بالجانب المشرق منه، القادر على أعمال من التضامن والتضحية تفوق الوصف. وهذا يجعله يتحمل الألم، ألم حتى الموت، وفكرة الموت كحل لوضعنا الذي لا يُطاق دائمة الحضور في ذهن كل واحدٍ منا، فالألم الجسدي هو بوابة الولوج إلى معرفة الذات. وهذا هو الدرس الذي تعلمته وتعلمناه في تلك الزنزانات وأنا في انتظاري لعربة المجانين، العربة التي ستقلني ذات يوم في الرحلة العبثية نحو الحرية.. وسأكتب.. كان السجن.. وكان التعذيب .. وكان القتلى بالآلاف..
ولابد لنا من الإشارة هنا إلى أن الأورجواي التي تقع جغرافيا بين البرازيل والأرجنتين وتمتاز بطبيعة خلاّبة، تحررت اليوم من حكم العسكر، وحكمها خوسيه ألبرتو موخيكا المولود سنة 1935 ، حكمها من سنة 2010 إلى سنة 2015 والذي كان سجينا أيضا لمدة 15 سنة لانتمائه لمنظمة التوباماروس اليسارية، والذي حاز على شعبية كبيرة بين أبناء شعبه كونه أفقر رئيس في العالـَم بعد أن بات يتبرع بتسعين بالمئة من راتبه للجمعيات الخيرية والبالغ اثنا عشر ألف دولار، وفتح القصور الرئاسية للفقراء والمشردين، وحاز على صدى عالـَـمي واسع من الاحترام والمحبة لعيشه المتقشف، وكان يملك سيارة فولكس واجن قديمة حاول أحد أثرياء العرب شراءها بمليون دولار وجوبه بالرفض. وعلى خُطى موخيكا سارت زوجته عضو مجلس الشيوخ بالتبرع بمعظم راتبها، وكانا يسكنان في مزرعة بسيطة تعود ملكيتها لزوجته. وهذه الشعبية التي حظي بها جعلته يستغني عن الحراسة المشددة كبقية رؤساء العالـَـم. بقى أن نشير إلى أن الأورجواي التي تقع بين البرازيل والأرجنتين وهما من أكبر الدول مساحة في أميركا اللاتينية وأقواها في لعب كرة القدم حيث فازتا بكأس العالـَـم عدة مرات، إلا أننا يجب أن ننوه أن الأورجواي سبقتهما بالفوز في كأس العالـَـم لكرة القدم مرتين الأولى سنة 1930 والثانية سنة 1950.
(جريدة السماوة الدولية – العدد الخامس والعشرون)