موسم الذباب
ذات فجر، لم تختفِ خُيوطه الحمراء بَعد، وعن طريق الصحراء كانت البداية. بلد محطَّم، وعيون دامية، وجُوه مرفوعة نحو السماء تدعو بحرقة، أن ينتهي هذا الحال بعد أن سادت ضبابية المشهد. فَوْضى، واِقتتال، تَحاربَ فيه الأخ والصديق والغريب، وتُرِكت الضحية فيه تبحث عن مأوى يحميها .
على مسافة أميال من المدينة والمدنية، حطّت جماعة مجبرة في مكان تبحث فيه عن الأمان. أرضه تلتمع بالرمال، لا عوسج فيها، ولا عشّ غراب. نزَعت وِشاح السَتر عنها وأصبحت مكشوفة للسماء. عارية، كعري أُولئك الأطفال الّذين سكنوها. بَدَوْا كحملان صغيرة، مجتمعين حول صحن الرز المصبوغ بالماء الأحمر، يغمِسون أصابعهم المالحة فيه ويقذفون حبات الرز في أجوافهم الخاوية لعلّها تسد جَوْعا بات مستديما عندهم؛ بعد أن شحّ عليهم الأكل والماء؛ مذ هروبهم مع أهلهم من مدينتهم، تاركين بيوتهم العامرة جرّاء الحروب المباغتة والمصطنعة التي عصفت بهم وبالعديد من ذويهم وأصبحوا لاجئين يسكنون الخيام .
أمّا أمّهات الأطفال فكنَّ يستقبلنّ الحزن على أبواب الخيام، وهنّ في بؤس وشقاء. فقدنّ أزواجهنَّ وإخوانهنّ وديارهنّ، وأصبحنَّ يتقلبن وجَعا من نقص الغذاء وسوء الحال، داعيات بالرحمة من ربّ العباد لهنَّ ولأبنائهنَّ، أن يقيهم حرَّ القيظَ، وبرد الشتاء القادم، وأن ينتهي هذا الحال المُهين؛ مادامت العيون غافلة عنهم، والآذان فقدت السمع، ولا إصغاء لمعاناتهم.
الذباب منتشر في كل مكان، يموج حول صحون الرز وحول الخيام، يشارك الأطفال غلتهم، ويزيد عليهم بؤسهم. يسرق الأكل وبقاياه من شِفاهِهم. لقد اعتاد الأطفال والناس عليه هذه الأيام واعتاد الذباب إليهم؛ فهم مصدر رزقه، ولم يعد له موسم محدد لتكاثره بل كل فصول السنة أصبحت مواسم له، وجميع مدن البلاد وشوارعها وأرصفتها أصبحت أدراناً تعشعش فيها أسرابه المنتشرة في كل مكان، وما عاد من سبيل للقضاء عليه إلا بتنظيف البلاد منه.
كانت ذبابة تدّعي نفْسهَا المتمرسة و الأفضل بين رفيقاتها من الذباب، سابحة في خيالها، متحمسة في تحسين أحوالها، محلقة في الهواء تتأمل بين لحظة وأخرى اقتناص رزقٍ سمينٍ يليق بموسم الذباب، أو سماع خبر ينجد الذباب ويطيل موسمه بعد أن شاعت أخبار حلول موسم النظافة في البلاد وتحسين حال العباد.
وبينما ذهبت تستجلي الأخبار إذ هبّت ريح قوية سحبَتها بعيداً، لصقَتها على جدارٍ أملسٍ عريض، كان نافذة زجاجية واسعة، نظرَتْ إلى ما وراء الزجاج، كانوا مجتمعين في صالة فاخرة، لم تستطع سماع أصواتهم، بان عليهم حسنُ الحال، زادَ فضولها في سماع أحاديثهم، اقتربَت عند زاوية الباب تنتظر. خرج منها أحد الأشخاص وسيجارته بيده، يبدو أنه من حراس المكان. اقتنصت الذبابة فرصة فتحه للباب ودخلت مسرعة دون تردد متسترة كالسارق بين الحيطان حتى وصلت إلى الصالة، واختبأت بين طيات إحدى ستائرها. أخذت تسترق السمع والنظر إلى المجتمعين، ساد حديث الخبث بينهم وترسّمت ملامح اللؤم في وجوههم. اقتربت إليها صورة قديمة في وجه أحدهم، صورة عرّاف كان يقيم السحر والشعوذة، يعد من فارقها زوجها بعودته إليها، ومن تريد الهروب من زوجها بالردة عليه، ومن اختارت حبيبا لها وتريد أن لا يُخطف منها، يعطيها سر الأسرار، ومن فقدت ولدا أو اختفى منها عزيزٌ، يعيده إليها بكلمات تتبخر في ليلة شتاء مطرية. سبحان مغير الأحوال!. أخذت تدقق بوجه آخر، بدا لها كالوطواط، وضع نظارة شمسية على عينيه متباهياً بها وهو داخل الغرفة، وآخر ارتفع كرشه أمامه جانحاً على الأريكة كي لا يختنق، وآخر كثير الكلام لم يدع أحداً يقاطعه وكأنه رئيس جلستهم، وآخر كان حماسه كلهب الحدّاد، في كل مرة يتحدث فيها يضرب الطاولة بكفه وكأنه يحمل كيساً يريد ملأه. كانوا يتحدثون حول تقسيم حصصهم وزيادة معاناة شعبهم. فرِحت بما تسمعه، ستزداد مساحات عيش الذباب حيث يكون فقر الناس والخراب. سوف يتركون الحال هكذا بين النازحين كي يستفيدوا من المال الذي خصص لحماية الأبرياء.
ما أجمل ما تسمع من أخبار، لابد لها من إيصالها إلى جماعتها لتثْبت أنها القادرة على جمع الأخبار وإرشادهم لما سيقومون به، وسيتحركون وحسب خططها التي ستضعها لهم، فهي صاحبة الخطط المستقبلية بشهادة أصحابها.
بينما كانت الذبابة مشدودة لحديث الإخوة الشركاء، التفتت يميناً على حركة مباغتة، وكانت ذبابة متطفلة سبَقَتها، استترت عن الأنظار بين طيات الستائر، تسترق السمع أيضاً. غضبت عليها، لكنها لم تستغرب وجودها، فهذا موسم الذباب. أومأت إليها بالسكوت.
فجأة! احتد النقاش مرة أخرى بين المجتمعين، شيء ما تغير،علا صوت واحد منهم، لحظة مشاعر ثورية انطلقت منه، وكأنه صحا من سبات، استدرك حال البؤساء، بانت في حديثه الوطنية والحماس، انتزع سلطان الخوف من صدره، ينتقد جماعته على قرارهم، يدعوهم الى إعادة النظر في خططهم. وبعد محاولاته المريرة نجح في جعل الأمر محسوماً إليه. ساد الصمت في المكان، طلب منهم توثيق كلامهم بالتوقيع على عهد مكتوب على الورق. والذبابتان تسمعان وصارتا تحدّان ارجلهما من شدة الغضب، والاستنكار من هذا القرار الذي سيُحسن حال النازحين والناس، ويحد من موسم الذباب. وبينما حاول النطق ببنود الاتفاق، طارت الذبابتان نحوه، قرصته إحداهما في شفته كي لا ينطق، ولما حاول الكتابة بقلمه، قرصته الأخرى في كفه؛ فتدحرج القلم من أصابعه وسقط، واستبشر الجالسون سراً بهذا الذباب، انفرجت أساريرهم، واعتبروا إرادة الغيب أعلى من ارادتهم.
أما الثوري المسكين فقد حاول اللحاق بالذبابتين، رمى المتطفلة منهما بحذائه وارداها ميتّة، واشتد غضبه على الذبابة المتمرسة، ضربها بحزامه، فلتت منه ولم يصبها، هربت مختبئة خلف الستائر.
اجتمع الجالسون حول صاحبهم، أحدثوا بلبلة أرادوا بها عدوله عما قال، وأن الوقت غير مناسب الآن، امتصوا غضبه إذ عدل عن قراره، وعدُوه بتأييده في اجتماعهم القادم .
عاد حديثهم مثلما كان، هذا لي، وهذا لك، دون رقيب ولا ضمان، وللفقراء رب رحيم لا يعرف النسيان.
حاولت الذبابة الهرب، جانبت الحيطان . خرجت مسرعة نحو جماعتها لتزف لهم نبأ بقاء موسم الذباب .
بقلم: جمال حكمت