موقف الألف
(1)
أوقَفَني في موقفِ الألف
وقال: الألفُ حبيبي.
إنْ تقدّمتَ حرفاً،
وأنتَ حرفٌ،
تقدّمتُ منكَ أبجديةً
وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور.
وقال: سَيُسمّونكَ “الحُروفيّ”.
فَتَبصّرْ،
فالليلُ طويلٌ والراقصون كُثر،
وهم أهلُ الدنيا وأنتَ مِن أهلي.
فكيفَ سيكون بَصَرُك؟
وكيفَ ستكون بَصيرتُك؟
وكيفَ ستختار نجمَك،
وأنتَ لستَ ممَّن يقرأ الشمس
أو طالعَ الشمس
ولا بالذي يقتفي أثرَ القافلة
بحثاً عن الذهب،
ولا بالذي يقودُ الشراعَ في البحر
بحثاً عن الجزيرةِ المفقودة؟
فكيف ستختار نجمَك؟
أعرفُ أنّكَ ستقول: “الغريب”.
لكنّ هذا لا يُجيب.
وستقول: “المَنفيّ” أو “المَحروم” أو “الضائع”
أو “المُمتَحن” أو “المُشتاق” أو “السَجّاد”
أو “المَنسيّ” أو “المُتضرّع” أو “المُنوّن”
أو “المُتصوّف” أو “الزاهد” أو “العارف”.
وكلّ هذا لا يحيط.
هو يشيرُ إلى الجزءِ، وأنتَ في الجزءِ أجزاء.
وهو يشيرُ إلى المعنى،
وأنتَ في المعنى قلب.
وهو يشيرُ إلى القلب،
وأنتَ في القلبِ طفل.
وهو يشيرُ إلى الطفل،
وأنتَ في الطفلِ حلم.
وهو يشيرُ إلى الحلم،
وأنتَ في الحلمِ نهر.
فَتَبصّرْ،
كيف سأسقيكَ من أنهارٍ من عَسلٍ مُصفّى،
أنهارٍ لذّة للشاربين
لا فيها لغوٌ ولا تأثيم؟
وكيف ستجلس في مقعَدِ صدْقٍ عندَ مليكٍ مُقتدر؟
كيف وقد قالَ مَن قال:
يا ليتَ قَومي يعلمون.
فكيف سيعلم بكَ قومُك
وهم يجهلون نجمَك؟
وكيف تبصرُ ويبصرون،
وأنتَ الذي يتقاذفكَ الليلُ جمراً
والنهارُ ثلجاً
والفجرُ صلاةً
والظهرُ ارتباكاً
والغروبُ بحراً
والعصرُ بكاء؟
(2)
ثُمَّ انتبهَ إلى دمعتي وقال:
ستصعدُ يا عبدي درجاً،
كلّ درجةٍ بألف،
وكلّ ألفٍ بمائة،
وكلّ مائةٍ بكفّ،
وستحتار أيّها أقرب.
ولكنّ الوقت ليس وقت تأمّل,
فاقرأْ واصعدْ.
وفي كلِّ صعود
قل اللهمَّ مالكَ المُلْكِ تُؤتي المُلْكَ مَن تَشاء
وتنزِعُ المُلْكَ ممَّن تَشاء.
ثُمَّ قلْ:
اللهمَّ أنقذْني من قسوةِ الصحراء
وقرّبْني من فجرِها.
وأنقذْني من غدرِ البحر
وقرّبْني من زرقته.
وأنقذْني من الفتنة
وعلّمْني سرَّها
حتّى ألبسه خاتماً.
وأنقذْني من الشراع
واجعلْه أبيضَ كقلبي.
وأنقذْني من السواد
واجعلْ لي هيبته وخطاه.
وأنقذْني من الثرثرة
فلا أنطقُ إلا رمزاً.
وأنقذْني من الهمسِ وأعطني شفتَه.
وأنقذْني من صعودِ القلبِ إلى الحنجرة.
ومن صعودِ الكفّ
حتّى كأنّها تلمسُ الغيم
وهي تستغيث
ولا مغيث لها سواي،
ومن صيحةِ الضعف
حتّى أنْ لا سامع لها إلا أنا،
أنا الذي أقرب إليكَ من حبلِ الوريد.
وقل اللهمَّ إنّي عَاشقٌ وَمُحبّ،
مُحبٌّ ومفتون،
مفتونٌ تتقاذفه الدروبُ والبلدانُ والسنين.
خلقتَني فكنتُ لكَ باب سؤال،
وبيت كلمة،
وشبّاك سرّ.
فاجعلْني من العابرين إلى شمسِك،
شمسك التي تبدأُ بالياء وتنتهي بالسين.
إذْ ما كنتُ يا مَن يقولُ للشيء كنْ فيكون
ما كنتُ إلا حرفاً،
ما كنتُ إلا ألفاً
مَصيري إلى التُراب
إذ خلقتني من طين.
أديب كمال الدين