أنساق الخطاب السردي في رواية فندق كويستان..الكاتبة والناقدة أشواق النعيمي – واحة الفكر Mêrga raman

%d8%a3%d8%b4%d9%88%d8%a7%d9%82-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b9%d9%8a%d9%85%d9%8a

النسق الحدثي
تقع رواية (فندق كويستان) للروائي خضير الزيدي في مستويات متعددة تتناوب أحداثها بين الماضي والحاضر والمستقبل ضمن بناء متماسك لجأ فيه الكاتب الى اعتماد البناء النسقي المتداخل والمتضمن ، حيث تتقاطع وتتداخل الأزمنة دون مراعاة تسلسلها المنطقي ، يبدأ الفصل الأول بالسارد الضمني ناصر رشيد فوزي معرفاً عن نفسه وعن رفيقه علي عبد الهادي لينتقل السرد في الفصل الثالث إلى علي معرفاً عن نفسه وعن شخصية ناصر من وجهة نظر أخرى ، وهكذا يتناوب السرد بين الشخصيتين حتى النهاية موظفاً تقنية الاسترجاع الزمني المتسرب من ذاكرة أبطال الرواية وبعض الاستباقات الزمنية التي تجلت في نبوءة بركات صديق ناصر وأفكار علي ، وتوقعه خطف ناصر أو قتله من قبل العصابات المسلحة . كما يضمن السرد حكاية ذاتية ناشئة من أصل الرواية ، والمقصود بها رواية المخطوطة التي كتبها ناصر قبل عشرين عاماً والتي كان يسعى إلى طباعتها ونشرها في بغداد ، وقد تضمنت بدورها حكاية أصغر ساردها سائق الريم حمدان والمسرود له مسرح ظاهري تمثل بعدة أشخاص منهم ناصر ورباب ومساعد السائق علاوي وبعض الركاب .
النسق الدلالي للبنية المكانية والزمانية
يحيلنا عنوان الرواية المختصر (فندق كويستان ) الى الفندق ، مكان الإيواء المؤقت أو المحطة الانتقالية من عالم الاغتراب وإليه حيث قرر ناصر البقاء مدة محددة ينجز فيها مهمة ما ثم يعود من حيث جاء ، ولم تتوقف دلالته الإيحائية عند ذلك ، فحياة ناصر عبارة عن محطات مؤقتة مختلفة ، حيث أن مركز تسليم جثث الفيلق الثالث في قاطع البصرة يعد أهم محطات حياته والتي التقى فيه رفيقه علي عبد الهادي ، أن مركز الشهداء يعد مكاناً فوتوغرافياً مطابقاً للواقع مستنفذاً كل دلالاته ، الوظيفية ، كونه يتسلم جثث شهداء المعارك لحفظها في برادات خاصة ومن ثم تهيئتها لتسليمها الى ذويها ، والرمزية حيث يسهم تبئير المكان الى تكثيف رمزية الحدث وهو الموت أثناء الحرب العراقية الإيرانية ، أما التأثيرية ، فقد سببت معايشة البطل المستمرة للجثث إحباطاً وآلاماً نفسية دفعته الى مغادرة الوطن ولم تفلح الجنة الوردية الجديدة بمسح ذاكرته طوال تلك السنين ، مؤثرة على قدرته الإنتاجية كمصمم للكراسي الأثرية في قسم هندسة التصاميم الذي فشل فيه بسبب حسه الكئيب ونقل منه الى شعبة التوابيت المنسجمة مع طبيعته الانطوائية ، المكان من العوامل المهمة التي أوصلته الى ألمانيا المحطة التالية ومدينته اليوتيوبية برلين مكان اللجوء والاستقرار في دلالته الوظيفية ، المكان الأليف لوصفها بالجنة الوردية لأناقة أبنيتها بسطوحها القرمدية وشوارعها اللامعة وحياتها الهادئة الآمنة التي مل رتابتها ، أكثر من عشرين عاماً وذاكرته تتضخم يومياً من تراكمات خزينتها مستلذاً باستعادة بعض تفاصيلها ، وخاصة الجزء المتعلق برباب بطلة روايته والمرأة التي أحبها من طرف واحد ، وهي العلة التي قادته الى المحطة التالية بغداد للبحث عنها والبوح لها بحبه الخالد كل تلك السنين ، تعد ذاكرة ناصر مكاناً يضم بداخله أمكنة حقيقية يسعى الى استحضارها كلما أحس باحتياج نفسي إلى ذلك (( في هذا المنفى الاختياري أنا أسير ذاكرتي المعتقة ..اللعب على تفاصيل الماضي وأحداثه سيخلصني من الإيقاع الرتيب والممل لحياتي في برلين ..))16
كما يشكل شارع المتنبي بالنسبة للبطل محطة جديدة يحقق من خلالها حلمه القديم في طباعة مخطوطته ونشر روايته الأولى عن طريق كريم حنش صاحب المكتبة المعروفة باسمه ، لقد أجاد الروائي توظيف هذا المكان برمزيته الثقافية ودلالاته التأثيرية على بعض الشخصيات الرواية مسترجعاً حادثة التفجير الإجرامي الذي استهدف الشارع ، مستبقاً الرواية بعتبة دالة على الحدث ، وهي قصيدة (شارع المتنبي ) للشاعر الامريكي براين ترنرو المتبارية على جائزة انفجار شارع المتنبي العالمية ، وبالعودة الى فندق كويستان ، نجد أن المؤلف يكشف أثناء السرد عن غايته في اختيار الفندق سكناً مؤقتاً للبطل ، لقد أراد من وراء ذلك أن يرسم لوحة مصغرة من واقع العراق ،من خلال نزلائه حيث ضم بين أروقته قصص من الوجع العراقي سنة وشيعة وأكراد,جمعتهم المآسي وفرقهم الانتماء .
كما تكتسب سيارة الريم كمكان صغير مغلق أهميتها من المشاعر الشخصية وحالتها النفسية ، وبدلالتها الوظيفة فهي وسيلة النقل المتجهة من بغداد الى البصرة حيث يلتحق ناصر بعمله ويتعرف على رباب ويرافقها في رحلة البحث عن زوجها المفقود،عن رمزيتها فهي توثق من خلال عين الكاميرا حادثة إعدام الجنود وشاهد عيان على عملية الدفن الجماعي لهؤلاء الجنود في إشارة الى المقابر الجماعية التي اكتشفت في العراق بعد سقوط النظام ، أما عن وظيفتها التعبيرية فقد دفعته الى كتابة رواية بطلتها رباب المرأة التي تعرف بها في السيارة محتفظاً بالرواية في مخطوطة أكثر من عشرين عاماً والعودة إلى بغداد للقاء تلك المرأة التي جمعت بين رمزية الحب والوطن،ونشر الرواية التي تفضح حادثة الريم .
وعن زمن الرواية فقد تم رصد بعض الأزمنة المتداخلة مع زمن السرد الأصلي وزمن الشخصيات ومنها
الزمن السايكولوجي
تنتمي (فندق كويستان )الى نمط الرواية السيكولوجية التي تدور في فلك السرد الذاتي والتحليلي لبعض شخصياتها ، إذ يرتبط زمنها الذاتي بمشاعر الشخصية وحالتها النفسية فيطول عند الشعور بالرعب أو الألم أو الحزن أو الانتظار ، ويمر بسرعة عند مشاعر السعادة والاستقرار النفسي .لقد لجأ السارد الى حذف الأحداث في زمن الغربة الذي يتسم بالاستقرار لعدم أهميته على مستوى الحكاية ، مختصراً أحداثه بعبارة ( قبل أكثر من عشرين سنة ).
وحيث أن المدة هي كينونة زمنية موضوعية لا تساوي إلا نفسها ، يستهل السارد الرواية بقوله : (( في هذه اللحظة بالذات تجاوز عمري الخمسين سنة عراقية ، وعندما أقول عراقية فقد عنيتها تماماً ..تختلف عن كل سنة أخرى على وجه الأرض ))9 أنه زمن الذات الذي يفوق الزمن الفيزيائي الطبيعي فالسنين مرت محملة بصنوف الألم والخوف واليأس تركت أثرها على الذات التي استشعرت ثقلها وطول مداها .
الزمن المتواصل
يتسم زمن الحوادث بأنه منقطع ينتفي ويتشظى بعد انتهاء تلك الحوادث،في حادثة الريم،حيث أجبر الانضباط العسكري سائق الريم على نقل جثة ستة وثلاثين جندياً تم إعدامهم في قاطع البصرة الى بغداد وتشاء الأقدار أن تتعطل الريم فيتقرر دفنهم في مقبرة جماعية على الطريق العام ،يعد زمن الحادثة منقطع حسب الزمن الطبيعي إلا أنه ظل متواصلاً في ذاكرة ناصر رافقه لأكثر من عشرين عاماً :
((ذاكرتي تتضخم يومياً تعتاش على بقايا شريط فلم يتحرك أمام ناظري ..لما عشته في العراق قبل أكثر من عشرين سنة))16
الزمن الفلسفي
يتمظهر الزمن من خلال التداخل والتطابق مع العنصر الذي يجليه ويجسده مفصحاً بذلك عن معنى الماضي والحاضر والمستقبل ، كما يقترن في كثير من الأحيان بالحركة المقرونة بالمكان ويتموضع حين تتبين أجزائه من حيث هي منفصلة عن بعضها ، لقد قسم مؤلف الرواية زمنها الى قسمين يكون عام 2007 فيصلاً بينهما متخذاً من نفس العام فضاءً زمنياً لحدثه الحاضر ومستنداً الى فلسفة السبعة المحظوظة في لعبة السرد لتقسيم زمنه الى ما فوق السبعة أي ما بعد عام 2003 وما تحت السبعة ما قبل عام 2003 ، كما أن ذلك التقسيم يخضع بدوره الى فلسفة الشخصيات فناصر رغم هروبه من جحيم تلك السنوات إلا أنه يحب أيامه في عالم ما تحت السبعة لأنه يضمن أجمل ذكرياته مع رباب المرأة التي أحبها،وعلي يكره أيامه في عالم ما فوق السبعة لأنها تضمنت زمن الدم المتيبس والزجاج المتشظي والجثث المغدورة,وفي فلسفة الأدب فإن روايات ما تحت السبعة نبذها التاريخ ولم تعد لها قيمة على عكس روايات عالم ما فوق السبعة التي صعق بها التاريخ وحازت على اهتمام والمتابعة الواسعة ، وكذلك شعراء ما بعد أو شعراء التغير بتعبير الرواية على لسان علي ، اللاهثين خلف جائزة مسابقة انفجار المتنبي يختلفون عن شعراء ما قبل .هنا تتكاثف بنية التضاد التي استعان بها الكاتب من بداية السرد ومن خلال مفردات أهمها الأسود والأبيض ، الكلاسيكية والجديدة ، شاردة وواردة ،النهار والليل ،السبعة المحظوظة والسبعة المنحوسة ، وصف المانيا بالجنة وبغداد بالجمرة ، زراعة ناصر زهوره خلف مركز الجثث .
النسق الايديولوجي
من خلال القراءة التحليلية لرواية (فندق كويستان ) تم رصد بعض الأنساق الايديولوجية ، بعضها مثل موقف الكاتب والتي عبر عنها من خلال وعي شخصياته وصوتها السردي ، ونسق نستشفه من بعض الأفعال والشخصيات الحاملة لذلك النسق وهي كما يلي :
النسق الايديولوجي الرافض للواقع
نسق رافض لدموية الواقع وتطرفه وتناقض تياراته يركن الى الاستسلام ولا يطرح حلولاً أو بدائل لإصلاحه،تبلور من خلال الحدث السردي والشخصيات المحورية في الرواية،ومنه هروب ناصر من واقع حرب الثمانينات الطاحنة وهي في سنتها الخامسة والرؤية اليومية الإجبارية لجثث المركز،تقترب شخصية ناصر من شخصية البطل المثقف الإشكالي الذي يعجز عن مواجهة الحرب وفقدان الحرية فيفضل الانسحاب والهروب والانتماء بطلب اللجوء الى المانيا والذي لا يشكل رفضاً للوطن وإنما لفشله في التأقلم مع واقع الحرب وتبعاتها . أما علي عبد الهادي فقد تجلى رفضه للواقع عبر وصفه المدن بالخرائب تنعق فيها الغربان ومقابر موحشة ترتع فيها الاشباح الملثمة والشوارع موحشة مرعبة مزروعة بالجثث تحوم في سمائها طائرات تقذف حمماً على الطرقات فتحيلها الى جحيم لا يطاق،رفضه للواقع يقابله رفض لمغادرة الوطن أدت به الى حالة من اليأس والقنوط واللامبالاة أمام الموت.كما أن تواجد المثقفين والشعراء في شارع المتنبي رغم احتراقه ، واستمرار دور النشر بالعمل والطباعة في تلك الظروف هي بحد ذاتها رفض ورغبة في مقاومة هذا الواقع .
النسق الايديولوجي البرغماتي
نسق ايديولوجي يتخذ أشكال وأساليب مختلفة إلا أنه يؤدي في النهاية الى غاية واحدة هي,تحقيق المنفعة الشخصية،نلمس وضوح هذه الايديولوجية مع شخصية الشيخ حمادة ، مساعد الطباخ في مديرية الأمن في عالم ما تحت السبعة ،الذي انتقل الى عالم ما فوق السبعة بعد أن تحول الى جامع خردوات يتربح من مخلفات الجيش الامريكي من السجون والمعسكرات وغيرها،ثم انتقل الى مهنة المؤذن والشيخ جامع العاقولي مستغلاً الفراغ الذي أحدثه مقتل المؤذن الجامع وبمباركة أحد المساعدين له في تسخير كل فرصة سانحة لتحقيق مآربه الفردية تحت قناع الدين.ويعد استغلال الرائد مشتاق لرتبته العسكرية أبان حرب الثمانينات وإجبار الجنود على خدمة مصالحه الشخصية وخاصة مراسله همام الذي كان يستغله في أمور شخصية ومنزلية لا علاقة له بالعمل العسكري،نموذج للشخصية البرغماتية المنتفعة من السلطة تحت الأقنعة الوطنية متخذة منها وسيلة للاضطهاد وتحقيق مصالحها الشخصية ، والتي كانت سائدة في الجيش آنذاك.

أشواق النعيمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *