جدليةالعلاقة بين الفلسفة والشعر عند الباحث المغربي إبراهيم بورشاشن/ كريمة نور عيساوي – واحة الفكر Mêrga raman

 

في إطار الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة، وتزامنا مع ليلة الفلاسفة التي دأب المعهد الفرنسي منذ سنوات على تنظيمها، واحتفاء بالفلسفة التي تُعتبر أم العلوم كان لنا لقاء علمي مع  الدكتور إبراهيم بورشاشن الباحث الأكاديمي الرصين والشاعر  المتميز.

د كريمة نور عيساوي: في مستهل هذا الحوار سنكون سعداء أن نستمع إليك وأنت تنقلنا إلى أولى خطواتك في فضاء الفلسفة الرحب؟

 

د إبراهيم بورشاشن: شكرا للأستاذة المحترمة الدكتورة كريمة نور عيساوي على هذه الالتفاتة الطيبة، وعلى هذه الفرصة التي تتيحينها لي لتعريف الجمهور المثقف في بلادنا العربية والإسلامية، وربما في بلاد أخرى، على همومي الفلسفية والشعرية وعلى هذه المساهمات المتواضعة التي قدمتها لحد الآن، والتي لا أخفيك سيدتي أنها دون ما كنت أطمح إليه لولا ظروف وأسباب قد نأتي على ذكر بعض منها إذا سمحت بذلك.

أستاذة كريمة أذكر أن علاقتي بالفلسفة بدأت في قسم الباكالوريا حيث تعاقب علينا في تلك السنة ما بين  سنتي  1975و 1976 أكثر من أستاذ نتيجة للظروف الصحية التي كانت تعاني منها أستاذتنا الرسمية، ولعله من حظي أن أتى للتعويض أستاذ كفء، كان في ذلك الوقت مجازا في علم النفس، وسيصبح فيما بعد أستاذا بالجامعة وهو الدكتور عنيمي الحاج. ولعل طريقة تدريسه وتفاعله الوجداني مع المادة حببت إلينا  الفلسفة، أو بالنسبة إلي على الأقل، لأني أذكر أني كنت الوحيد في قسمي الذي اختار  التسجيل بعد ذلك في شعبة الفلسفة في الجامعة، إذ  أن كثيرا من أصدقائي المتميزين اختاروا شعبة الحقوق، وأصبحوا فيما بعد محامين وقضاة. أو اختاروا الشعبة الأدبية، والتحقوا من بعد بالجامعة للتدريس، لكن انفعالي القوي بمادة الفلسفة بلغ إلى  درجة أني أذكر أنه في تلك السنة قرأت أول كتاب فلسفي، وهو جمهورية أفلاطون، وشعرت بفارق كبير في شخصيتي النقدية قبل قراءتها وبعد قرائتها، فكانت الدفعة القوية لي للتسجيل في شعبة الفلسفة في السنة الموالية.  والحمد لله أني لم أجد أي اعتراض من أسرتي، ولم يكن أبي رحمه لله يتدخل في اختياراتنا العلمية وإن كان قبل ذلك حريصا على أن يكون الكتاب أفضل صاحب لنا، وقد بذل لذلك مجهودات كبرى أفلحت في الأخير، بأن أصبحت  عاشقا للكتاب. وقد قرأت كثيرا من كتب الأدب.

 

د كريمة نور عيساوي: ألا ترى معي بأنك ظللت في عمقك أديبا، وأن شعلة الإبداع ظلت متقدة بداخلك،  على الرغم من اشتغالك بالفلسفة؟

 

د إبراهيم بورشاشن: إذا كان الشباب في جيلي يعشق المتعة فقد كنت عاشقا للكتاب، قرأت كثيرا لطه حسين وعباس محمود العقاد و إبراهيم المازني وتوفيق الحكيم وأعمال نجيب محفوظ وقبله كتب محمد مندور ثم ميخائيل نعيمة وحفظت كثيرا من الشعر العربي القديم. كما أن الوالد رحمه الله كان حريصا علينا أن نحفظ كثيرا من القرآن الكريم… وقد  كان كل ذلك يقودني إلى التخصص في الأدب لولا صدفة الباكالوريا، إذا صح القول. لذا لم أفاجأ كثيرا وأنا أدلف إلى الخمسين من عمري عندما أصابتني من جديد لعنة الأدب، إذا صح اعتبارها كذلك، فتوقفت لفترة عن الاشتغال الفلسفي، وكتبت في قصيدة النثر  مجموعة من القصائد جمعتها من بعد في ثلاثة دوواين لحد الآن.

 

د كريمة نور عيساوي: لنعد قليلا إلى الوراء، وتحديدا إلى فترة دراستك للفلسفة في الجامعة المغربية، هل بإمكانك أن تُقربنا من عوالمها كما عشتها آنذاك؟

 

د إبراهيم بورشاشن: كان نظام تدريس الفلسفة يجمع بين الراغبين في الفلسفة وفي علم النفس وفي علم الاجتماع في سنتين مشتركتين ثم  يتم التخصص في السنة الثالثة، وقد اخترت شعبة الفلسفة العامة التي كانت تدرس القول الفلسفي الخالص مع ثلة من الزملاء، وبعد حصولي على الإجازة، تابعت الدراسة في السلك الثالث لتحضير شهادة الدراسات المعمقة. وهو الأمر الذي أهلني  لتسجيل في دبلوم الدراسات العليا، وإعداد بحث عن ابن طفيل، ثم بعد ذلك  هيأت أطروحة للدّكتوراه عن ابن رشد. وقد درسنا على أيدي  أساتذة كبار من المشرق ومن المغرب، فأذكر من المشرق على سبيل المثال الأستاذة فوقية محمود التي كانت تدرسنا الأخلاق، والأستاذ الحبيب الشاروني الذي درسنا ديكارت، ووليم جيمس بأوهامه، إلى جانب ميخائيل سعد الذي درسنا علم النفس المرضي، والأستاذ فؤاد كامل الذي كان يدرسنا فلسفة اللغة. ولا أنسى الباحث الكبير الدكتور حسن حنفي الذي درسنا في السلك الثالث علم الكلام. أما من المغرب فقد تلقينا هذا العلم من باحثين شباب

كانوا قد بدأوا مسارهم العلمي في الكلية بكثير من الجدية والمثابرة والعشق لتخصصاتهم، أمثال محمد وقيدي، وأحمد العلمي، ومحمد المصباحي، ومحمد سبيلا، وسعيد بنسعيد العلوي، و عبد الصمد الديالمي، و محمد ألوزاد، والأستاذ جمال الدين العلوي الذي  فتح مسارا جديدا في الفلسفة، وكان له تأثير  كبير على طلبته.

 

د كريمة نور عيساوي: أستاذ بورشاشن أنتم تذكرون دائما المرحوم جمال الدين العلوي، وقد  أهديتموه كتابكم الموسوم بــ”مع ابن طفيل في تجربته الفلسفيةّ، كما كتبتم عنه قصيدة في ديوانكم الأخير الذي اخترتم له عنوان “كنت نائما فانتبهت”. هل يمكن أن تخبر  عن سر هذه العلاقة؟

 

د إبراهيم بورشاشن: يجب الاعتراف بأنك بهذا السؤال تحركين في قلبي أشجانا للرحيل المبكر لهذا الرجل، الذي  لو قدر له أن يعمّر  قليلا لكان للفلسفة شأن وأي شأن في بلدنا المغرب، بل وفي العالم العربي والإسلامي بأكمله. لقد اختطفت المنية الأستاذ جمال الدين العلوي، وهو لم يتجاوز بعدُ عقده الرابع، وكان عطاءه العلمي يسير في اتجاه تأسيس القول الفلسفي العربي الإسلامي، وذلك من خلال تقنية دراسة النصوص، يمكن القول إن المرحوم أسس للمدرسة الفاسية التي ستشتهر بالاهتمام الفيلولوجي، وهو الذي كان وراء تأسيس”مركز الدراسات الرشيدية” الذي تعاقب على رئاسته بعد المرحوم كل من الأساتذة  محمد ألوزاد، وأحمد العلمي، وعز العرب لحكيم بناني، وقد أنتج المركز دراسات علمية مهمة بفضلها تم تحقيق عدة نصوص لابن باجة. كما ساهم المركز في تكوين باحثين أكفاء. لقد كان المرحوم، يضع بين أيدينا نصوص الفلاسفة المسلمين، ويحثُنا على معايشتها مباشرة دون الرجوع إلى أي مصدر آخر حتى نتعلم الإنصات إلى النصوص، وقراءة لغتها الفلسفية على الرغم من صعوبتها بالنسبة إلينا. مكنتنا هذه العلاقة بالنصوص الفلسفية من تنمية ملكاتنا الفلسفية والنقدية، وسمحت لنا أكثر من ذلك بتقديم قراءات ذاتية لبعض الإشكالات الفلسفية.

 

د كريمة نور عيساوي:  طيب، أستاذ بورشاشن، طالما أننا نؤرخ لمسارك الفلسفي. هلا حدثتنا عن عملك الأول حول ابن طفيل.

 

د إيراهيم بورشاشن: ترجع علاقتي بابن طفيل إلى سنة الإجازة حيث أنجزت بحثا حول “فشل الفيلسوف” عند ابن طفيل، ثم بعد نيل شهادة استكمال الدروس، أكملت المسار الجامعي، وسجلت بحثي لنيل دبلوم الدراسات العليا حول “التجربة الفلسفية لابن طفيل”، وقد كان علي قبل أن أقرأ نص ابن طفيل الفلسفي الوحيد “قصة حي بن يقظان” أن أعمل أولا على تحقيقه، وفعلا حصلت على أربعة مخطوطات، وأنجزت نصا محققا تحقيقا أوليا، قبل أن أغوص في النص وأقدم قراءتي المقترحة.

 

د كريمة نور عيساوي:  ـ لكن  في نظرك ما علاقة التحقيق بموضوعك الفلسفي؟

 

د إبراهيم بورشاشن: أنت تعلمين سيدتي أن كثيرا من النصوص الفلسفية المنشورة تعاني من كثير من الأخطاء، فضلا عن الهنات التي تلحقها من قبل نساخها، والتي لم يؤد الناشر  دوره في تصحيحها. بل  قد لا نستغرب من وجود نصوص سقطت منها فقرات كاملة مثلما هو حال القصة التي اتخذتها موضوعا لدراستي، فنشرة أحمد أمين تعاني من سقوط فقرة مهمة فيها، كما أن نشرات حي بن يقظان مليئة بالأخطاء، وهو ما عاينته في مقالة لي عن نشرات الرسالة، فكان لزاما علي أن أرجع إلى المخطوطات حتى لا أقع في خطأ يتعلق بقراءة كلمة أو فقرة فأخرج في التأويل عن المطلوب، وفعلا كان عمل تحقيق النص مفيدا لي، لأني عايشت النص عن كثب، واستطعت أن أقف من خلال ذلك عند بعض اللحظات المهمة في النص، كما استطعت أن أضبط تمفصلاته الكبرى، وقد ساعدني طول صحبتي مع النص أن أقدم دراسة من ثلاث محطات كبرى؛ فكانت محطة سياسية ـ ثقافية عالجت فيها علاقة ابن طفيل بزمانين؛ الزمن المرابطي، والزمن الموحدي. مع الوقوف عند بعض عوائق التفلسف في المجتمع الإسلامي، ومحطة وقفت فيها عند الأصول التي متح منها ابن طفيل نسقه الفلسفي، وبخاصة الرافد الباجي والسينوي والغزالي، وقد حاولت في دراسة حديثة وسمتها ب”ابن طفيل ومنتحلو الفلسفة في عصره” أن أقدم فرضيات حول مصادر أخرى للتجربة الفلسفية لابن طفيل، وفي المحطة الثالثة عالجت مسالة “التقريب الفلسفي” حيث  تبينت من خلالها الطريقة التي انتهجها ابن طفيل لإيجاد وشائج القربي بين القول الفلسفي والقول الشرعي، وهو ما يبرز رغبة المسلمين في جعل المعرفة معرفة كونية، وهذه في اعتقادي  من أهم الإسهامات التي قدمها المسلمون بين يدي الفكر الفلسفي

 

د كريمة نور عيساوي:   كيف ذلك؟ هل نطمع في مزيد من التوضيح؟

 

د إبراهيم بورشاشن: طبعا، هذا الجهد الذي قام به الفلاسفة والمسلمون لبيان أن الحكمة الإغريقية كما وصلتهم لا تباين الحكمة الشرعية، كما نجد ذلك عند الكندي، وقد بينت ذلك في دراسة لي عن “الوحي والفلسفة عند الكندي”، وكما نجد عند ابن طفيل، وعند ابن رشد، هي درس في كونية الحقيقة لم يقم به سوى المسلمون كما انتبه إلى ذلك فتحي مسكيني، ففي الوقت الذي كان الإغريق يرى أن لا معرفة إلا معرفته وجد المسلمون في حكمة الإغريق ما يمكنه أن يتوافق ومعرفتهم وبالتالي لم يجدوا حرجا في التعامل مع هذه الحكمة سواء في آليتها المنطقية، التي لم يسلم حتى الفقهاء من تأثيراتها الكبرى عليهم، أو الطبيعية أو الميتافيزيقة، وإن كانوا أدخلوا عليها من إبداعاتهم وإنشاءاتهم ما يقربها من خصوصيتهم الثقافية أكثر، كما نجد في مفهوم “الحدوث المستمر” عند ابن رشد، أو مفهوم “الفيض” مثلا عند الفارابي.  لكن ظلوا يرون الحقيقة عامة غير خاصة ولا حرج عندهم من اقتباسها من غيرهم سواء كانوا إغريقا أو هنودا أو فرس أو رومان أيضا. وانظري إذا شئت إلى تأويلات ابن رشد للقرآن الكريم سواء في كتابه “فصل المقال” أو في كتاب “تهافت التهافت”، سترين كيف كان الرجل مسكونا بالوحي وبهاجس الحكمة عند القدماء أيضا. وقد بينت ذلك في دراسة لي عن “الوحي والفلسفة عند ابن رشد”

 

د كريمة نور عيساوي: قل لي من فضلك أستاذ بورشاشن كتابك الأول عن ابن طفيل كان في الأصل رسالة جامعية قمت بنشرها. ما هي القيمة المضافة لكتابك الثاني الذي عنونته بـــــــ “هل نحن في حاجة إلى ابن طفيل؟”ّ.

 

د إبراهيم بورشاشن: الكتاب الثاني هو تطوير لبعض قضايا الكتاب الأول، ومقالات أخرى تفتح المجال في البحث في رسالة حي بن يقظان سواء على مستوى هذا الاحتفاء العالمي بقصة حي بن يقظان، والبحث عن دلالاته، انطلاقا من نشرة الناربوني العبرية مرورا بنشرة بوكوك اللاتينية إلى غيرها من النشرات المترجمة إلى كثير من اللغات الأوروبية، أو على مستوى الأبحاث المعاصرة في “تاريخ النص”، أو مستوى استنطاق النص من خلال هذه الإشكالات التي يحبل بها، من مثل إشكال علاقة ابن طفيل ممن أسماهم “منتحلو الفلسفة” أو ممن شغلوا بالمضنون به على غير أهله وكانوا سبب كتابة النص أو على الأقل من دواعي الكتابة، أو على مستوى تحقيق النص نفسه، هذا النص الذي أعتقد أن نشرة علمية جديدة له يمكن أن تقدم للباحثين ورشة فلسفية مفتوحة للعمل العلمي. أو على مستوى علاقة العلم بالفلسفة في نص ابن طفيل. وأعتقد أنه يمكن لمساهمتي المتواضعة بشأن ابن طفيل أن تقدم ورشا علميا مفتوحا في قصة حي بن يقظان، وفي متن ابن طفيل الأدبي أيضا.

 

د كريمة نور عيساوي: ماذا تقصد بالمتن الأدبي ؟ وما علاقته بفلسفة ابن طفيل؟

 

د إبراهيم بورشاشن: تعلمين سيدتي أن شعراءنا كلهم تقريبا اهتموا بالفلسفة والأدب معا، وبعضهم كان شاعرا مجيدا مثل ابن سينا وابن باجة وابن طفيل، وقد عبر فلاسفتنا عن هموم فلسفية بقول شعري جميل كما نلمس ذلك في عينية ابن سينا الشهيرة التي مطلعها:

هبطت إليك من المحل الأرفع          ورقاء ذات تعزز وتمنع

بل إن فلاسفتنا توسلوا بالأسلوب القصصي في عرض قضايا فلسفية عميقة كما صنع ابن سينا في أقصوصته”حي بن يقظان” والتي دبجها بأسلوب رمزي مكثف حتى كادت أن تستعصي على الفهم، وقد اقتدى ابن طفيل بالشيخ الرئيس، وألف قصته”حي بن يقظان” لكن في أفق مغاير من حيث الأسلوب والمضمون. فحظيت بإقبال كبير لم تحظ به قصة ابن سينا. وأعتقد أن فهم الشخصية الأدبية مدخل أساس لفهم شخصيته الفلسفية لأن الشكل لا ينفصل عن المضمون، فلا شك أن الشكل الأدبي شكّل بل وطوّع المعاني الفلسفية التي فصل فيها القول ابن طفيل بأسلوب سردي في قصته الفلسفية. دون أن نغفل عن الذكر أن ابن طفيل توسّل بالقول الشعري في التعبير عن شخصيته طبيا فكتب أرجوزته الطبية الضخمة التي نأمل أن تُكتشف نسخة أخرى منها للاستفادة منها. لذا يمكني القول باطمئنان : إن الأدب مدخل إلى فهم الفلسفة عند ابن طفيل على الأقل.

 

د كريمة نور عيساوي:  الآن أدركنا سبب اهتمامكم بابن طفيل. فما قصّتكم أستاذ بورشاشن مع ابن رشد؟ وهل كانت نقلتكم من ابن طفيل إلى ابن رشد طبيعية أم شابها بعض التكلّف؟

 

د إبراهيم بورشاشن: ابن طفيل وابن رشد سيدتي، قصة صحبة. فابن رشد يسمي ابن طفيل صاحبه، ويذكره في كتاب “تلخيص الآثار العلوية” كما أن بينهما مراجعات في الطب ذكرها ابن أبي أصيبعة، وكما هو معروف فإن الذي قدم ابن رشد إلى الخليفة يوسف بن عبد المؤمن هو ابن طفيل، وتم تكليفه رسميا بالاشتغال على المتن الأرسطي شرحا وتنقيحا. إنها قصة جديرة بأن تكتب كتابة علمية رصينة عندما تكتشف هذه النصوص التي جمعت بين الصاحبين. وقد حاولنا فيما كتبناه أن نلمس ذلك لمسا خفيفا إلى درجة أننا افترضنا فرضيات بعيدة عندما طرحنا السؤال :”ماذا لو قرأ ابن رشد قصة ابن طفيل، أي موقف كان سيكون له منها؟” وقدمنا جملة فرضيات للإجابة، قد تقترب أو تبتعد عن المألوف، لكن نتمنى أن نكون فتحنا بابا من القول، ونرجو أن تتاح فرص علمية أنسب وأكمل لتفصيل القول أكثر.

 

د كريمة نور عيساوي: إذن يمكن القول ونحن مطمئنون بأن نقلتك من ابن طفيل إلى ابن رشد  كانت نقلة طبيعية؟

 

د إبراهيم بورشاشن: أعتقد ذلك، وإن كان الإشكال الذي أرّقني مع ابن رشد مختلف، مع ابن طفيل كان الهم فيلولوجيا، وسوسيوـ ثقافي، لقد كان همّي ينحصر في وضع ابن طفيل في إطاره الحضاري، ووضع قصته في مكانها في تاريخ الفلسفة الإسلامية على الخصوص. أما مع ابن رشد فقد كان هاجسي يتمثل في البحث عن وحدة مفترضة بين متنه الفقهي ومتنه الفلسفي خاصة أن البعض شكك في شخصيته الفقهية وبعضهم أنكر عليه كتابا فقهيا كبيرا مثل “بداية المجتهد وكفاية المقتصد”، فكان هاجسي هو البحث في شخصية ابن رشد الفقهية والفلسفية لردم هذه الهوة التي وجدتها فيما بعد أنها هوة زائفة؛ ومن هنا كانت فرضيتي الأولى عن الأصول الفقهية لفعل التفلسف عند ابن رشد؛ فبحثت عن تولد العقلية النقدية عند ابن رشد من التراث الفقهي الذي كرع منه وبخاصة تراث جده، وافترضت أن هذه العقلية النقدية، والتي تتجلى بشكل كبير في كتابه في الفقه العالي مدخل أساس لتبلور شخصيته الفلسفية، فكان تراث ابن رشد الجد مع تراث أبي حامد الغزالي جسرين عبر منهما ابن رشد إلى الفلسفة بشكل طبيعي وآمن؛ فقد كان دور الغزالي حاسما في النّقلة الفلسفية عند ابن رشد كما حاولت بيان ذلك مستثمرا أطروحة كان جمال الدين العلوي رحمه الله قد بثها في العدد الثامن من مجلة كلية الآداب بفاس، وهي أطروحة أعادت تشكيل العلاقة بين الشارح الأكبر وحجة الإسلام. كما دفعت بفرضية أخرى تزعم أن الحياة الفلسفية لابن رشد تنطوي تحت جبته الفقهية وإن كان يرى أن الفيلسوف أفضل من الفقيه، بل هو في نظره أكمل الناس. وبالإضافة إلى ذلك افترضت أن مفهوم “الجمع” الذي يستخدمه الفقهاء من أجل لمّ شتات الأقاويل الشرعية المتعارضة قد استخدمه ابن رشد في الجمع بين أفلاطون وأرسطو، والجمع بين الأقاويل المتعارضة، وبين شخصيات علمية تبدو أقاويلها في الظاهر أقاويل متعارضة. كما أنني بحثت في المتن الرشدي فوجدت أن المفاهيم التي تلحم القول الفقهي والقول الفلسفي مفاهيم واحدة، وأن الطريقة الصّناعية التي يكتب بها هي طريقة واحدة في الفقه والفلسفة والطب على السواء.

وهكذا شكّلتُ أطروحة، أحسب أنها كانت متكاملة في وقتها على الأقل، تثبت وحدة المتن الرّشدي في الفلسفة والفقه والطّب على السواء.

 

د كريمة نور عيساوي: ألا تعتقد أستاذ بورشاشن أن جمال الدين العلوي سبق أن نادى بوحدة المتن الرشدي؟

 

د إبراهيم بورشاشن: طبعا، أنا لا  أنكر ذلك، وقد نوّهت بذلك في مقدّمة كتابي الذي صدر عن دار المدار الإسلامي بعنوان “الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي”، وإذا كان من فضل لهذا الكتاب فهو أنه استطاع أن يبرهن على هذه الأطروحة، وأن يفصل القول فيها بعد موت الأستاذ سنة 1992، مع العلم أني بدأت العمل في هذه الأطروحة بعد سنة 1996. أي بعد الانتهاء مباشرة من مناقشة رسالتي عن ابن طفيل. ولابد من القول إنه رغم أن مشاريعي الفلسفية الأولى كانت من وحي أستاذي جمال الدين العلوي، فإن المرحوم كان قد قضى، ولم يُكتب له أن يرى ثمرة أحد تلامذته التي أنضجتها مع الوقت من خلال تأملاتي في نصوص الفلسفة الإسلامية، وهذا التردد بين النظر الفقهي والنظر الفلسفي.

 

د كريمة نور عيساوي: لكن كتابك الذي وسمته بــــ “هل نحن في حاجة إلى ابن رشد؟ّ عدت فيه مجددا إلى ابن رشد، هل قدمت جديدا في هذا الكتاب؟

 

د إبراهيم بورشاشن: رغم أن الغرض من هذا الكتاب هو بيان أن ابن رشد يمكن أن يعاصرنا، وأن موته الذي ينادي به البعض هو مناداة غير تاريخية،  فإن الكتاب يستعيد بعض القضايا التي سبق أن عالجتها في كتابي السابق عن ابن رشد، أردت إبرازها في مقالات مفردة للتنبيه على معاصرة ابن رشد لنا مثل قضية علاقة ابن رشد بالتصوف وعلاقته بالموسيقى مثلا، لكن الكتاب يضم أيضا دراسات جديدة من  قبيل علاقة الوحي بالفلسفة عند ابن رشد، و دور الزمن في التأليف الرّشدي. إنني رمت في هذا الكتاب تقريب ابن رشد كما كان الغرض من كتابي “هل نحن في حاجة إلى ابن طفيل”والقصد الأكبر هو تحريك العقل العربي المسلم للنظر في قضايا الفلسفة الإسلامية بجهات من النظر مختلفة، وأكاد أجزم أن المتن الفلسفي العربي الإسلامي زاخر بكثير من القضايا الفلسفية البكر التي تحتاج لمن يفترعها  ويخرج بها إلى العالم.

 

د كريمة نور عيساوي: بعد أن طُفنا في رحاب الفلسفة الإسلامية، وإشكالاتها الكبرى سنُحلق في سماء الشعر ومتاهاته. حدثنا عن تجربتك الشعرية، وكيف ولجت عالم الشعر؟

 

د إبراهيم بورشاشن: رغم أني بدأت أديبا وكان أول عمل أدبي كتبته أقصوصة صغيرة في سنتي الثانية من التعليم الثانوي بثانوية المولى إسماعيل بمكناس، دون أن أتجاوز العشرين من عمري، بل لعل أول عمل كتبته كان مسرحية شعرية بمناسبة احتفالات عيد العرش عندنا في إعدادية الأزهر بمكناس، أما الشعر  في تجربتي الأولى فكان عبارة عن قصائد رومانسية نظمتها في مناسبات عاطفية مختلفة. ثم عندما دلفت إلى الجامعة انقطعت صلتي به.  وما حصل بعد ذلك هو  أني لما بلغت عقدي الخامس أصابني جني من وادي عبقر، وعدت إلى الأدب، وتحديدا إلى الشعر، وقد أثمرت هذه العودة لحد الآن ثلاثة دواوين شعرية ذات نفحة فلسفية ــ صوفية، كما لاحظ ذلك بعض الدارسين.

 

د كريمة نور عيساوي:  هل تتكرم أستاذ بورشاشن وتحدثنا عن كل ديوان على حدة؟

 

د إبراهيم بورشاشن: أول ديوان أصدرته  سنة 2011 كان عنوانه: “الطين المسجور” ورغم أن قصائد الديوان كتبت منذ 2006 تقريبا إلا أنها جاءت تحمل في طياتها بصمات الربيع العربي، وإن كان الديوان يحتوي على قصيدتين، على الأقل، كتبتا إبان موجة الاحتجاجات، وظهرت فيهما بعض أحداث تونس وليبيا واليمن والأحداث الأولى لسوريا.  لكن روح الديوان المهيمنة هي روح الألم، ورفع الصوت ضد كل أنواع الاستبداد كما في قصيدتي “النيرونية” و”النحلة المغاضبة”، كما تجلى هذا الألم في قصيدتي “الغريب” وقصيدتي التي ناجيت فيها القلم، وغازلت فيها الحروف، وتشكل قصيدتي “الطين المسجور” قصيدة غريبة إذ هي في العمق قصيدة غزلية، لكنها في ظرفها التي نشرت فيه ظهرت لي كأنها نوع من النذير لانطلاق شرارة الربيع العربي، إذ تبدو وكأنها تتحدث عن حريق البوعزيزي لنفسه. وقد ذيلت الديوان ببعض قصائدي عن الحيوانات، وبخاصة قصيدتي “نعي عجماء” التي نعيت فيها جروا مات أمامي بعد أن دهسته دراجة نارية.

 

د كريمة نور عيساوي: وماذا عن الديوان الثاني؟

 

د إبراهيم بورشاشن: الديوان الثاني مختلف تماما، فديواني “إبحار في عيون الحوريات” أفردته لقصائدي التي كتبتها أيضا على طول الفترة الممتدة من 2006 إلى 2012.

 

د كريمة نور عيساوي:  ولم أفردت ديوانا للمرأة؟ هل ثمة أسباب ذاتية من وراء ذلك؟

 

د إبراهيم بورشاشن: لم يكن هذا أيضا رأي الأستاذ الشاعر عبد الكريم الطبال الذي قدّم لي الديوان، لكني وجدت في هذا الجمع والإفراد مناسبة لي لإبراز علاقتي بالمرأة في مجموعة شعرية مفردة، وقد تنوعت وجوه المرأة في الديوان فاستحضرت صور زوجتي وابنتي و أصناف من النساء ممن صادفتهن إما مباشرة وإما عبر تقنيات التواصل الحديثة مثل قصيدتي “آجيا” التي كتبتها في سيدة مسيحية لبنانية، وقصيدتي “في عصمة الجبل” التي كتبتها في سيدة صوفية لبنانية، وقصيدتي “في غيابات الجب” التي كتبتها في شاعرة أردنية، وقصيدتي “عاشقة الحروف” التي كتبتها في شاعرة لبنانية، وهكذا و في كل مرة التقي فيها بسيدة أجد في شخصيتها ما يلهمني فأكتب فيها قصيدة مثلما هو الأمر في  قصيدتي “سمفونية العين” التي كتبتها عن  فنانة تشكيلية، وقصيدتي “مخيط الشفق” في خياطة، بل إنني أدرجت في هذا الديوان قصيدتي “عتاب إلى فاس” لأن فاس لم تخبرني عن زيارة الحبيب لها.  طبعا من ألهمنني من نساء بلادي كثر، وعلى قدر كبير من الحساسية الجمالية، لا أستطيع الوفاء بحقها بالكلمات.

 

د كريمة نور عيساوي:  هل أصبحت المدينة عندك امرأة؟

 

د إبراهيم بورشاشن: الشاعر ينشىء عالمه الخاص به، فيرى موضوعات العالم العادية بنظرة مختلفة. لكن الغريب أن قصائدي كلها عن المرأة تعتورها نفحة صوفية عميقة، ويغيب فيها التشبيب الجسدي الذي ينزع إليه بعض الشعراء. فنظرتي إلى المرأة يغلفها ضرب من المثالية كما في قصيدتي “عشق الروح” وقصيدتي “الشفاه المرسومة”، بل إن النفحة الصوفية تظهر قوية في قصيدتي “رماح العشق” و”سارقة الحب”. وقد ختمت ديواني الجديد  بقصيدتي “كنت نائما فانتبهت” بقصائد غزلية تمتح من أجواء ديوان “الإبحار”.

 

د كريمة نور عيساوي:  إذن سنُبحر نحو ديوانك الجديد؟

 

د إبراهيم بورشاشن: ديواني الجديد، الذي اخترت له آخر جملة شعرية في القصيدة التي كتبتها رثاء لوالدي رحمه الله “كنت نائما فانتبهت”،  قدمه لي عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري، وقرّضه الشاعر  الدكتور حسن الأمراني. وقد اخترت أن أنوّع أشعار هذا الديوان، وقسمته إلى خمس مرايا إذا صحّ التعبير : مرآة سمّيتها “حميمية المكان” وخصصتها لقصائد تمدح المكان كما في قصيدتي عن مدينة زرهون، وبعضها فيه مدح مفارق إذا شئت، كما في قصيدتي عن مكناسة الزيتون، ومرآة أخرى سمّيتها “حميمية الروح” قدّمت فيها بعض القصائد ذات النفس الوجداني الصوفي، ومرآة أخرى سمّيتها “حميمية الصداقة” تترجمها قصائد تؤرخ لعلاقات صداقة، ثم مرآة سمّيتها “السّفسطائي الأخير” فيها قصائد تسلّط الضوء على بعض المفارقات التي تعتور العلاقات الإنسانية عندما تحضر السفسطة، أي القدرة الخطيرة على إبدال الحق باطلا والباطل حقا، وهي القدرة التي تعضدها سلطتا السلطة والمال، فيكون الإقناع أسهل، ثم أخيرا مرآة “الغَزَل المنقوض” التي تضم قصائد غزلية كما حدثتك قبل قليل.

 

د كريمة نور عيساوي:  لاحظت أستاذ بورشاشن وأنا أطالع كتاباتك، وأستمع إلى هذا الحوار الشيق معك ثراء في إصداراتك الفلسفية والشّعرية، وأودّ الآن أن اقترح عليكم السؤال الآتي: ما العلاقة التي تنسجونها بين القول الفلسفي والقول الشعري؟

 

د إبراهيم بورشاشن: أولا شكرا على هذه الكلمة كلمة “ثراء” وإن كنت أرى أنّ الظّروف التّي مررت منها، والتي حالت دون التحاقي بالجامعة عطلت إنجاز بعض مشاريعي الفلسفية، ولعلّها هي التي اضطرتني إلى الذهاب إلى قلعة الشّعر، وهجران البحث العلمي لفترة من الزمن. أنا اعتبر نفسي أنّي قدمت إلى الشعر بالعرض، فانا لم أكن أفكر إلا في متابعة مشاريعي العلمية التي فتحتها لي أبحاثي في ابن طفيل وفي ابن رشد، لكن القانون المشؤوم الذي يمنع حاملي دكتوراه الدّولة من الالتحاق بالجامعة كسّر هذا المسار  العلمي واضطرني إلى الشّعر.

 

د كريمة نور عيساوي:  لكن لم الشعر ؟

 

د إبراهيم بورشاشن: يذهب هيدجر إلى أنه عندما تصبح إمكانية التفلسف مستحيلة يبزغ الشعر ، فنحن نحتاج إلى ترتيب مقامنا على ظهر الأرض، عندما لا نستطيع ذلك فلسفيا نفعله شعرا، ومن هنا ارتباط الشعر بالكينونة كما أبرز ذلك هيدجر؛ فكأن الواقع أصبح يضيع مني فأنا أستعيده وأفكر فيه بالشعر، بل ربما الأفضل أن أقول أعيد بناء الواقع بالشعر، لأن الإبستمولوجيا علّمتنا أن الواقع غير معطى، وإنما هو يبنى، وفعلا بنيت عالما من الشعر حاولت فيه أن أجد المعنى لوجودي الذي كاد أن يضيع مني تحت ضغوطات الواقع وإكراهاته. فمجتمعاتنا لا تؤمن بالذاتية في علاقتها بأفرادها، إنها لا تفرق بين الجماعة والقطيع؛ فنحن مع الجماعة من حيث هي مؤسسات وضدّ الخلاف الممزق لبنية مجتمعاتنا، لكن ضد عقلية القطيع من حيث إنها نزوات فردية وأعراف لا تحترم كينونة الأفراد، ومن هنا تأتي غربة الشاعر والفيلسوف أيضا في مجتمع قاهر ولا يكاد يميز بينهما. ولعل من هنا أتت غربة ابن باجة في كتابه الفريد “تدبير المتوحد” وابن طفيل في قصته الفلسفية الفريدة “حي بن يقظان”، إن الفيلسوف كائن مبدع وكذا الشاعر يبدع، لكن لا إبداع إلا إذا كان الفضاء يحترم الفردية والذّاتية ويحمي حريات الأفراد.

 

د كريمة نور عيساوي: إذن بالشعر أضفيت المعنى على وجودك؟ هل يعني أنك قبل الشعر لم يكن لوجودك معنى؟

 

د إبراهيم بورشاشن: شكرا على هذا السؤال سيدتي، حقا يسهم الشعر في اكتشاف الذات بل وفي إبداعها، ولا أخفيك أن الفترة التي انكببت فيها على كتابة الشعر كانت فترة غوص عميق في الذات، كما كانت فترة انفتاح على المجتمع، كما لا أخفيك أن درجة تفاعلي عند كتابة القصيدة كانت قويّة لدرجة أنني عندما كنت أكتب قصيدة أشعر أحيانا بوهن شديد وعياء كبير. ولعل هذا التّفاعل العميق هو الذي جعلني أجدد ذاتي، وأعطى لأشعاري صدقها وقوتها الإيحائية وجدّة كثير من صورها كما تنبه إلى ذلك الدكتور حسن الأمراني.

 

د كريمة نور عيساوي: أراك تتحدث عن علاقة الفلسفة بالشعر عندك دون أن تدخلنا إلى عالم دواوينك الثلاثة، وتقدم لنا أمثلة عن ذلك.

 

د إبراهيم بورشاشن: عندما نكتب سيدتي، لا نعبر فقط بعقولنا بل يتدخل اللاوعي فيجد التعبير عنه في غفلة عنا، لذا فنحن نبدع بكل طاقاتنا العقلية والتخييلية وساعتها تتجسد هويتنا في ما نكتب، وكأن من يريد أن يعرف نفسه فلير نفسه في مرآة ما يكتب. عندما أرجع إلى ما أكتب أجدني أسير شخصية فلسفية إغريقية معها بدأت الفلسفة بالتحديد، أقصد شخصية سقراط، وقد كتبت في ديواني “الطين المسجور” قصيدتين عنه إحداهما سمّيتها “سقراط” استلهمت فيها إشادة سقراط بالعقل، والثانية “سؤال سقراط” استلهمت فيها شغف سقراط بالسؤال، وفي ديواني الأخير قصيدة أيضا عن سقراط، استلهمت فيها نظريته التي اشتهر بها ، أقصد :”اعرف نفسك بنفسك”. لكن الدواوين كلها تعج بأسماء فلاسفة كثر من مثل ابن رشد، واستلهام قصة حي بن يقظان لابن طفيل، واستلهام حكاية موت ابن باجة بالباذنجانة المسمومة، واستلهام فكرة “العود الأبدي” لنيتشه، ومقولة هرقليطس في عدم إمكانية النزول إلى النّهر مرتين، وتجربة أفلوطين الذي خلع بدنه مرتين كما يقال، وتجربة السفسطائية في تاريخنا المعاصر، وكذا الرواقيين، كما استحضر اسم الخوارزمي، وكذلك موقف فيثاغوراس من أصل الوجود؛ عددا ونغما، وفي قصيدتي “جسد بلون التراب” تبدو أسماء لفلاسفة معاصرين من مثل ياسكال وديكارت وشوبنهور ودوبوفوار صديقة سارتر ، كما أن النفحة الفلسفية تظهر في بعض عناوين قصادئي من مثل  “عشق الروح” و”عين الجمع”، كل هذا الزخم الفلسفي طبعا لا يفارقه الإحساس بالهوية العربية الإسلامية التي أنتمي إليها، كما يظهر في دواويني من استخدام للمفاهيم والتعابير القرآنية، وانفعالي الشديد بتجربة ابن حزم الأندلسي كما عرض لها في كتابه الفريد “طوق الحمامة”، وكلما ظهر اسم “الظاهري” في قصائدي فهو يشير إلى هذا التماهي بيني وبين الفقيه والشاعر الأندلسي ، وكأنني في دواويني أريد أن أعبر عن هوية منفتحة على البعد الإنساني، وأظن أن البعد الإنساني حاضر بقوة في نصوصي الشعرية وذلك للتحرر الكبير الذي كان يصاحبني في لحظة الإبداع. وحتى لا أثقل عليك سيدتي سأقف هنا، وإلا فإن القضايا الفلسفية والتي تثير في نظري إشكالات عميقة والتي أعرض لها بنفس شعري كثيف في دواويني كثيرة، وأزعم أنها تحتاج إلى دراسة مفردة.

 

د كريمة نور عيساوي: أشكرك الأستاذ والشاعر المغربي إبراهيم بورشاشن على هذه الجلسة العلمية التي فتحت لنا فيها قلبك، وحدثتنا عن مسارك الفلسفي والشعري، وأترك لك كلمة أخيرة تختم بها هذا اللقاء الماتع معك.

 

د إبراهيم بورشاشن: شكرا أستاذ كريمة على إتاحتك هذه الفرصة لي، فقط أحب القول إن حاجتنا اليوم إلى الفلسفة كما هي حاجتنا إلى الشعر حاجة حيوية وضرورية في عالم يفقد المعنى ويخلع عنه أثوابه الرمزية الجميلة، وأعتقد أن الدخول إلى العالمين الفلسفي والشعري يبدأ في ثقافتنا العربية من إعادة الاعتناء بالفلسفة الإسلامية من خلال رموزها الكبار الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وغيرهم من الذين أثْرَوْا الحقل الفلسفي الإسلامي، وأيضا من خلال متنها الصّوفي الضّخم والذي يشكل ثروة رمزية كبيرة وخزّانا من الدّلالات،  و كذا من خلال تلك المؤلّفات العلمية التي تركها من مارس العلم في حياتنا العربية الإسلامية من أمثال الخوارزمي وابن الهيثم وابن البنّا المراكشي وغيرهم من القامات العلمية التي قدّمت إسهامات كبرى في العلم العربي الإسلامي إن صح هذا التعبير. كما أنه يجب أن نعتني باللغة العربية وبالأدب العربي وإلا كيف نستطيع أن نفكر إذا لم نكن نمتلك ناصية الأدب الذي يمكّننا من التعبير عن أدقّ الأفكار وأعمق الأحاسيس. قراءة تراثنا الأدبي القديم وبخاصة الشّعري منه مدخل أساس من مداخل نهضتنا المعاصرة التي لن تبلغ كمالها أيضا إلا إذا انفتحت بوعي على مكتسبات العقل المعاصر في اللغات والفلسفة والعلم والفنون على السواء. وشكرا لك سيدتي.

 

حاورته د كريمة نور عيساوي

باحثة في علم مقارنة الأديان

 

 

.

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *