زمن الحب والهيام.. والانطلاق بلا قيود بقلم/ عبد الرحمن هاشم – واحة الفكر Mêrga raman

 

زمن الحب والهيام.. والانطلاق بلا قيود

في المجموعة القصصية (زمن الحب) للأستاذ محمود الفشني، كنت أتوقع أني سأكون أمام قصص تنبض بدرجة عالية بمشاعر الحب والهيام والأشواق والقبلات وربما تبوح بعلاقات خاصة بطلها الجنس، كما هو شأن قصص وروايات هذا الزمان، ولكني وجدت في قصص المجموعة ما ينسج وجعاً إنسانياً شفيفاً متقن الصنع، يختزن داخله فلسفة الحياة والموت، وما بينهما من تساؤلات وتفاصيل، وما أعمق أن تأتي تلك الفلسفة على لسان أديب حصل على عدة جوائز مصرية وعربية في القصة القصيرة وأدب الطفل.

تروى القصة الأولى المعنونة بعنوان (لا عودة للماضي)، تجربة ربما يراها البعض مجرد تجربة عاطفية قد يعيشها أحدنا، وقد يتألم من مرارتها وقسوتها، لكن كاتبنا يغلق الباب أمام المحاولات المتتالية للمحبوبة السابقة، حاسماً وحازماً في قراره، وملخصاً ذلك القرار في قوله: (صفحات قد طويتها وألقيت بها في قبور الموتى).

وقوله: (لا فائدة، فقد مرّ الحلم، ولا مكان له بيننا، والعودة شيء مستحيل). فترد عليه المحبوبة: (إنك إذاً تلقي بي إلى الهاوية). فتأتي إجابته الحاسمة: لا عودة للماضي! وفي قصة (غداً تشرق الشمس) حوار شيق بين القلب والجسد، ولم يكن الشوق الذي يحكيه الفشني مجرداً، بل يأتي مصاحباً لمفرداته، لتشمل ضمن ما تشمل: (طائرين مغردين، عناق دائم، سحر الأنثى، براءة الطفولة، محراب الجمال، لقاء الجسد)، وغير ذلك من مفردات تختصر معنى الحب في دلالات مختزلة لا يمكن إدراكها إلا لمن عاشها وعاناها. ومما يزيد من معاناة بطل قصة (أزمة قلبية)، ويزيد من تعاطفنا مع حالته أنه بعد أن استعد لأداء صلاة العشاء جماعة وقيامه مهرولاً ليلحق الجماعة الأولى (فجأة أحس بألم في قلبه.. ذهل الجميع.. حاول إخفاء الألم حتى لا يفسد على محبيه فرحتهم بتجمعهم حوله.. خرج ووصل بصعوبة إلى المسجد، وسمع من يناديه قائلاً: تقدم للصلاة يا حاج.. وقف وبعد أن كبّر للصلاة ازداد الألم، وارتفعت ضربات قلبه.. تحامل حتى أتم الركعة الأولى، وفي قيامه للركعة الثانية لم يسعفه قلبه فارتمي على الأرض في سكون تام). والمفارقة، أنه بعد أن أيقن الجميع بوفاته، تأتي زوجته باكية تندب حظها، لكنها ما إن رأته حتى ارتمت على جسده تهزه هزاً عنيفاً وهي تصرخ: لن تتركني وحدي.. لن تتركني وحدي! هنا أفاق الزوج مذعوراً والدموع تسيل من عينيه وصوب نحوها النظر قائلاً بصوت واهن: لقد جاءتني الأزمة وأنا أصلي.. وأخذ ينشج باكيا.

وتتعدد مناطق مخاطبة الذات عبر صفحات المجموعة القصصية للفشني، فيقول في قصة (زمن الحب) التي هي في الوقت نفسه عنوان مجموعته: ( كم تمنيت لو خلقت شاعراً أحلق بحبيبتي فوق هذه الأرض البكماء.. نهيم معاً في عالم السحر والخيال.. نطوف بالعشاق وننثر أشواقنا، فتزهر الأرض ورداً وأحلاماً وقصائد حب..).

وتتداخل العوالم بين الواقعي والمتخيل لنجد إبداعاً سردياً راقياً يخاطب فيه الفشني المواطن المطحون وهو في طريقه لعمله أو أداء مصالحه، فيقول في قصة (يوم بلا فائدة): (قفزت كبهلوان مدرب وسط هذه الكتلة البشرية، وبدأ الهمس يعلو والأجساد تتدافع.. لا أجد لي منفذاً أمر من خلاله.. وشاء الله أن أجمع قوتي فأتشبث بالباب وانحشرت بين الناس وقلت: لا بأس، دقائق ونصل، وتحركت السيارة كأنها تحمل أطناناً من الأسمنت، وتعالت الأصوات، فهذا يلعن ماراً ركله بقدمه، وآخر يتثاءب مخرجاً من فمه رائحة منتنة، وثالث يسب ويلعن حكام البلد، والأدهى والأمر رابعة تستنجد بشهم يدفع عنها وغد من الأوغاد دفعها الزحام للوقوف أمامه..). وتظل المجموعة القصصية للفشني عملاً حراً غير مقيد، معفياً من الخضوع، ومنطلقاً كالعصفور، محاذراً من أن يكون حبيس المحتوى، حريصاً على أن يكون منسجماً مع المغموسين في دنياهم الخاصة لا يغادرونها إلا لضرورة ولا يأذنون للآخرين بدخولها.

عبد الرحمن هاشم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *