الفينيقيون: لمحة عامة / كريمة نور عيساوي – واحة الفكر Mêrga raman

 

الفينيقيون: لمحة عامة

احتل الكنعانيون[1] منطقة بلاد الشام التي تقع بين البحر المتوسط و بلاد الرافدين، فسيطروا على معظم جزر البحر المتوسط حتى امتدت مستعمراتهم من قرطاج في شمال أفريقيا إلى كورسيكا و جنوب إسبانيا. أطلق اليونانيون عليهم اسم “الفينيقيين” نسبة إلى الصباغ الأرجواني الذي يعتبر واحدا من اكتشافاتهم. فقد اشتهروا، كما تخبرنا بذلك مصادر تاريخية عديدة،  بصناعة الأقمشة ذات اللون الأحمر حيث كانوا يقومون باستخلاصه من قواقع البحر الأبيض المتوسط [2] .

وقد ضمت مستعمرات الفينيقيين بعض المدن الواقعة على الساحل السوري الممتد من أقصى شمال سوريا حتى جنوب فلسطين مثل صورو صيدون (صيدا) و بيروت وجبيل و أوغاريت و الإسكندرون و عكا. كما أنها ضمت مدينة قرطاج في شمال أفريقيا.

صيدا:  كانت عاصمة للفينيقيين الذي انطلقوا منها ليؤسسوا محطات تجارية في دول عديدة. و قد أثبت علماء التاريخ أن الفينيقيين وصلوا إلى أمريكا الشمالية و الجنوبية. بل لا تستبعد بعض الدراسات التاريخية أنهم سبقوا كريستوفر كولومبس في اكتشاف القارة الأمريكية الشمالية بقرون عديدة. اشتهرت مدينة صيدا بتجارتها التي سيطرت على المنطقة خلال القرن الثاني عشر و الثالث عشر.

جبيل (بيبلوس): اشتهرت جبيل بمكانتها الدينية و التجارية. هذا فضلا عن كونها  موطن ظهور الأبجدية الرومانية المأخوذة عن الكتابة الفينيقية.

صور: انطلق منها الفينيقيون بقيادة الملكة أليسار وهي ابنة الملك ميتينوس، ليؤسسوا مدينة قرطاج في شمال أفريقيا. أحرزت صور تقدما˝ في مجال التجارة مما جعلها تتفوق على صيدا. و قد عرف البحر المتوسط لفترة من الزمان ببحر صور.

بعلبك: أسسها الفينيقيون في أوائل العام 2000 ق.م فبنوا فيها أول هيكل الذي أهدى لإله الشمس، بعل. و من هنا حصلت المدينة على اسمها. لكن الهيكل لا يمكن رؤيته الآن بسبب الأعمدة الرومانية التي بنيت فيما بعد في بعلبك. كانت بعلبك، على عكس المدن لأخرى، معزولة عن التجارة.

قرطاج: وتُعرف في اللغة الفينيقية  بـ”بقرت حدشت” أي المدينة الحديثة، وتقع في خليج “أوتيكينسيس” المشهور حاليا باسم خليج تونس. أسستها الملكة أليسار. وكانت قرطاج عاصمة المجد و ملكة البحار بسبب ما احتلته من مكانة عالية من الرقي و التمدن و الازدهار. وجعلت أليسار من هذه المدينة مركزا دينيا للربة عشتروت، وساهمت بمعية مرافقيها في بناء مجتمع حضاري جديد يضاهي الوطن الأم صور. والحقيقة أن هذه المدينة امتازت بالحيوية و البراعة والإبداع. واستطاعت أن تسيطر على المستعمرات المغربية كما أنها لعبت دورا˝ حضاريا˝ في شمال أفريقيا و جزر البحر المتوسط و بريطانيا.

المعتقدات الدينية عند الفينيقيين:

اعتمد الدين الفينيقي السامي الأصل على الاعتقاد بظاهرة الخصوبة والإنتاج. آمن الفينيقيون ببعض قوى الطبيعة المحيطة بهم، كما أنهم عبدوا الكثير من الآلهة. كان لكل مدينة إله يُعبد. سمى الفينيقيون بعض آلهتهم نسبة إلى المدن التي استقروا بها. و من الآلهة التي عبدها الفينيقيون، و قدسوها:

إله القوى الكامنة (الإله إيل): معناه الإله بصورة عامة. ولكنه يدل في الأصل على كبير الآلهة أو الإله-الآب. وما تمتع به  من صفات ورثها عنه أبناؤه الآلهة.

آلهة الخصب (عشتار): عبدت بعض المدن إلاهات. لكن عشتروت بعلة جبيل وآلهة الخصب والحب والجمال تفوقت عليهن جميعا.

إله المطر (الإله بعل): قصد الفينيقيون به إلها معينا يُحتمل أن يكون هو الإله “أدد” السوري. وهو إله الجبال والصواعق والعواصف والمطر.

الإله (أشمون): وهو إله صيدون أي إله الصحة.

أما في قرطاج، فقد عبدوا آلهة الخصوبة و الإنتاج (تانيت)، و الإله (بعل آمون) بالإضافة إلى الآلهة التي عبدت في بلاد الشام. و قد استمرت عبادتهم حتى العهد الروماني.

اعتقد الفينيقيون بالحياة الثانية فبنوا مقابرهم التي وضعوا فيها الميت بالإضافة إلى أدوات خاصة به للاعتقاد بأنها ستلزمه عند قيامه  في الحياة الثانية. و قد امتازت هذه الأدوات بالبساطة فضمت بعض الأدوات المنزلية التي كان يستعملها الفينيقيون كالأواني الفخارية و المصابيح الزيتية. ومن هنا أولى الفينيقيون اهتماما كبيرا بحفظ الجسد. فلم يترددوا في الاقتباس عن المصريين عادة تحنيط الأجساد[3]. وإلى جانب المقابر، شيد الفينيقيون معابد امتازت بالتأثر بالطابع اليوناني. و قد اهتم بها الكهنة المتفرغون الذين عرفوا بتوارث الكهانة في عائلتهم.

 نظام الحكم عند الفينيقيين:

تألفت فينيقيا من عدة ممالك و ضمت كل مملكة مدينة اعتبرت عاصمة لها. عرف نظام الحكم في فينيقيا بالملكي الوراثي حيث كان يمثل الملك الآلهة و له السلطة المطلقة في إدارة شؤون المملكة التي يحكمها. أما كبار المدينة و رجال الدين و القضاة فلعبوا دور مساعدي الملك في إدارة المملكة. أما الجيش فقد تكفل بحماية المملكة من أي اعتداء و تأمين القوافل التجارية.

المجتمع الفينيقي

ويتألف المجتمع الفينيقي من طبقة الأشراف التي يرأسها الملك والعائلة المالكة وقوامها النبلاء والكهنة والقادة وطبقة أخرى تضم البورجوازيين من غير النبلاء والعمال والفلاحين.

إنجازات الفينيقيين:

 

اكتشاف الأبجدية:

يُعد اكتشاف الأبجدية من أعظم ما قدمته الحضارة الفينيقية للبشرية. ابتكرت هذه الكتابة عام 1100 ق.م و قد تألفت من اثنين وعشرين حرفا˝ يمثل كل صوت منها صوتا واحدا منفردا. استعان الفينيقيون، في البداية، لتدوين لغتهم بالكتابة المسمارية والمصرية القديمة. غير أنهم سرعان ما أفلحوا في التخلص من هذه العلامات التصويرية، واستبدالها بالنظام الأبجدي الذي يناسب طبيعة الشعب الفينيقي المعروف بنشاطه التجاري. و لا حاجة للتذكير بأن السرعة عنصر يرتبط كثيرا بالتجارة. يقول ديسو: « ويجب الاعتراف للفينيقيين بما هو من حقهم صدقا، فهم أصحاب اختراع من أكبر الاختراعات البشرية، منذ أن تركوا بإرادتهم الكتابات الكثيرة المعقدة التي كانت مستعملة في أيامهم، ومنذ أن ميزوا 22 صوتا بسيطا تتيح تسجيل المخارج المختلفة الساكنة في لغتهم، ومنذ أن خلقوا خلقا كاملا نظاما من العلامات على درجة مدهشة من البساطة يتميز فيه كل حرف لأول وهلة عن سائر الحروف الأخرى. فبلغوا منذ أول محاولة درجة الكمال»[4]. لقد كتب الفينيقيون هذه الحروف من اليمين إلى الشمال (مثل العربية) و نشروها في جميع بلاد العالم شرقا و غربا. وهي الأبجدية نفسها التي اقتبسها الأوروبيون.

صناعة السفن:

كانت السفن الفينيقية عبارة عن مراكب شراعية تتألف من سارية واحدة، شراع مربع، و مجاديف يدوية. اعتمد عليها الفينيقيون في تجارتهم و أسفارهم و تبادل صناعاتهم مع الدول الأخرى المجاورة لها و البعيدة عنها.

 الحياة الاقتصادية في فينيقيا

ازدهرت الحياة الاقتصادية في فينيقيا بسبب تقدمها صناعة و تجارة و حرفة. ارتكز عمل الفينيقيين على البحر فاشتهروا بصيد السمك و الإسفنج و الملاحة و صناعة السفن. كما أنهم أظهرا مهارات كبرى في صناعات عديدة أهمها صناعة العاج و الزجاج و الأقمشة الأرجوانية اللون و الزهريات الحادة القعر و الفخاريات. ساهم اطلاع الفينيقيين على صناعة الحديد (في الألف الثاني ق.م). في صناعة الخزف. وكان الفينيقيون يقلدون الصناعة المصرية و الكريتية و الميسينية مما مكنهم من بلوغ منزلة عظيمة في الصناعة و الفن.

أما بالنسبة للتجارة في فينيقيا، فقد بلغت أعلى درجاتها، و تنوعت الأغراض التي تاجروا فيها فكان منها الصباغ الأرجواني و الأقمشة، الزجاج، المعادن، الفخار، النبيذ، الغار و الأرز، الخشب… كل هذه الأشياء كانوا يتبادلونها مع اليونان، إيطاليا، إسبانيا، و الجزر المتوسطية. كما أنهم خاطروا بالإبحار إلى أبعد من ذلك حتى وصلوا الرأس الأخضر في بريطانيا.

– أصبحت فينيقيا أحد أغنى وأهم المقاطعات في الإمبراطورية الفارسية واستولى الاسكندر الأكبر على فينيقيا عام 332 ق.م

 

المراجع

كونتنو، ج: الحضارة الفينيقية، ترجمة محمد عبد الهادي شعيرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997

الذبيب، سليمان بن عبد الرحمن: الأوجاريتيون والفينيقيون مدخل تاريخي، بحوث تاريخية، الجمعية التاريخية السعودية، كلية الآداب، قسم الآثار والمتاحف، الرياض، 2004

لبيب، عبد الستار: الحضارات، دار المشرق، بيروت، 1985

 

[1]  اسم الكنعانيين  مشتق من الجذر ك.ن.ع  الذي يدل على  الأرض المنخفضة. والجدير بالذكر أن ك.ن.ع.ت عرف أيضا كاسم علم لمكان في السريانية. هذا بالإضافة إلى أن المصريين القدماء استخدموا “بي-كنعان” للدلالة على المناطق الجنوبية لبلاد سوريا.

[2]  انظر لمزيد من التفصيل سليمان بن عبد الرحمن الذييب: الأجاريتيون والفينيقيون: مدخل تاريخي، الجمعية التاريخية السعودية: بحوث تاريخية، الرياض، 2004

[3]  انظر لبيب عبد الساتر: الحضارات، دار المشرق، بيروت، 1985

[4]  النقوش الفينيقية في قبر أحيرام نقلا عن ج. كونتنو : الحضارة الفينيقية، ترجمة محمد عبد الهادي شعيرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997

د كريمة نور عيساوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *