محمّد حياوي في خان الشابندر (3)/هــاتف بشبـوش – واحة الفكر Mêrga raman

 

محمّد حياوي .. في خان الشابندر (3)

في شقّة الصّحفي (علي) الصّغيرة في الكرّادة تتردّد عليه نيفين صديقته التي أرسلتها الجريدة التي يعملُ بها للاعتناء به ، و نيفين هذه مثالٌ للمرأة العراقيّة المتحضّرة أيّام السبعينيّات بعكسِ الحاضر الذي يشهدُ ترديّا في جميعِ أحوال المرأة.

نيفين هذه رسامة وعازفة وعاشقة للطّيور وصحفيّة، وهي الأخرى تتحطّم تحت ثقل مآسي العراق حيث يسافر زوجها إلى أستراليا مع ولدهما و تبقى تعتني بأمّها المسنّة. و هنا نيفين مثالٌ أراد به الرّوائي إيصال رسالة عن المرأة العراقيّة و تضحيتها و ما أصابها من ويلاتٍ، فهي الثكلى دائما في وطنٍ جلّ تأريخه عبارة عن طُغاةٍ ودمٍ وأغاني حزينة بكائيّة حدّ اللّعنة.

نيفين تنصحُ الصّحفي صديقها في أنْ يأخذَ الحذر حين يذهب في الطّرقات لما في العراق منْ تفجير و قتل على الهويّة و سلبٍ ونهبٍ و اختطاف، فهي المرأة التي مازالتْ تحملُ خصالَ سيدوري صاحبةَ الحانة التي نصحت كلكامش في الخلود و ماذا يتوجّب عليه أنْ يفعل، و لذلك نيفين كانت تُعلّق لوحةً في شقّتها لسيدوري، و هذا ما أراده الروائي مِنْ أنّ المرأة هي سيدوري و مازالتْ تحملُ في دواخلها الحبّ للرّجل و إبداء النّصح منذ ذلك الوقت السومريّ حتّى اليوم رغم الدّمار و القتلِ لكنّ الإخصابَ معادلاً للموتِ، هناك موتٌ وهنا ولادةٌ، و هكذا هذه المعادلة العجيبة الغريبة التي تُبقي على نسلِ البشرية في الحياة منْ عدمِ الانقراض رغم الحروب و الويلات و الأمراض و الفيضانات، و الذي يتصوّر حالَ العراق اليوم و هولِ أرقام القتل و الموتى فيه لسرحتْ به الشّكوك من أنّ العراق في طور الانقراض، لكنّه الباقي رغم الموت القاهر و الجبّار، ربّما هي قدرةُ الكائن البشريّ على غريزةِ البقاء و النّسل والتّكاثر، فبقدر الموت و التّفجيرات التي تحصدُ الآلاف خارجَ أسوار البيوت نجدُ هناك منْ يتضاجع و يصنع القبل و الإيلاج و التّنهيد و الانتشاء في داخل البيوت كما يحصلُ في بيت الدّعارة لأمّ صبيح أو في البيوت العاديّة للبشر لكيْ يتناسل.

و منْ هنا يبقى النّسلُ يتحدّى الموت بشكلٍ آخر.

نيفين مسيحية و هنا إشارة من الروائي إلى أنّ المجتمع العراقي متعايش بكلّ طوائفه فها هو الصّحفي المسلم مع المسيحية دون أيّ فارقٍ يُذكر من ناحية الدّين.

و في الصباح يروي لنا كيف يتناول فطوره مع نيفين و هي تُغني لفيروز، إذن مازال الفنّ يصدحُ و الحبّ يرفع رايتهُ في العراق مهما حاول الأوغاد طمسَ الحقائقِ.

الصّحفي أثناء تجواله في بغداد يتعرّف على الطّفلة زينب التي تبيعُ الكعكَ لتعيل أخوانها اليتامى بينما سياسيّونا غارقون في السّرقات والقتل.       و أثناء الحديثِ تخبره عن الطنطل في البيوتِ المهجورة و هذه إشارةٌ أخرى من الرّوائي من أنّ الشّعوب مازالتْ ترزحُ تحت ظلامِ الجهلِ           و الأساطيرِ لنقرأ أدناه ماذا تقول الطّفلة:

( – عمو.. أنته تصدك بالطناطل؟..

ـ نعم أصدك..

فأشارت إلى بيتٍ قديمٍ بدا مهجورًا..

ـ هذا البيت يكولون مسكون.. بيه طنطل يطلع بس باللّيل و يقطع الزّقاق على المارّة.. بس يكولون يطلع بهيأة مره عجوز..) .

نعم هناك منْ يؤمن بالطنطل لغاية السبعينيّات كنّا نرتادُ الحمّامات المشتركة في السماوة و كان لاعب كرةِ القدمِ الشّهير في السماوة (شاكر الأسود) يستحمّ و هو طويلُ القامةِ و لازال حيًّا يُرزق.. و الحمّام بخاري كثيف بحيث لا يستطيعُ المرء أنْ يرى بوضوحٍ،فرآه أحدهم منَ الذين يستحمّون فراح يصرخُ (إبرة وخيط إبرة وخيط) ثمّ خرّ صريعًا مغشيًّا عليه، ممّا حدا بالنّاس الآخرين القريبين منه أنْ يُقدّموا له المساعدة و يغسلوا وجهه بالماء الباردِ كيْ يستفيق و كان مِنْ ضمنِ المساعدين الذي عمل له تدليك بسيط كيْ ينهض هو شاكر الأسود نفسه، فاستفاق الرّجل بالفعل.. و حينَ فتح عينيْه رأى شاكر الأسود يربتُ على كتفه و على خدّيه فصرخَ مرّة أخرى (إبرة وخيط إبرة وخيط) و هكذا الحال مرّة أو مرّتيْن حتّى تدارك الآخرون مِنْ أنّ هذا الشّخص الذي تراءى له بيْن بُخار الحمّام هو شاكر الأسود نفسه على هيئة طنطل .

و سابقًا كلمة (إبرة وخيط) تشيرُ إلى طرد شرّ الطنطل،ممّا حدا بأحدهم أنْ يقول لشاكر الأسود، أنتَ السّبب في إغماء هذا الرّجل، تنحّى جانبا   و ابعدْ وجهكَ عنه فلسوف يستفيق بدونِ خوفٍ. و فعلاً ابتعدَ شاكر واستفاقَ الرّجل،و في استراحةِ الحمّام جاءه شاكر و قال له حجي أنا الطنطل الذي تراءى لك قبلَ دقائق، فضحكَ الآخرون جميعًا وأصبحتْ هذه الأضحوكة تتردّد على ألسنةِ أهالي السماوة بشهودها الباقين على قيدِ الحياة حتّى اليوم.

الصّحفي (علي) رغمَ تحفّظه في عدم ممارسة الجنس مع إحداهنّ يقعُ في حبائلهنّ حيث تغويه ضوية ثمّ هند لما فيه من رجولةٍ وشهامةٍ تحبّها النّساء فتؤهّله هذه الخصال أنْ يكون محبوبًا معشوقًا عكس أولئك الذين لا يحترمون المرأة ولا يعطونها ميزةً تُذكَر (إنّ من الإغراءات الكبيرة أنْ تكون معشوقًا… وإذا كانت الرّوح سخيّة فمنَ السّهل إغراؤها … راسين).

علي همّ بالرّحيل منَ الماخور لكنْ أمّ صبيح منعتهُ لأنّ جماعة ملا جليل قطعوا الأزقّة و الدرابين و احتمالَ نشوبِ مواجهاتٍ اليوم فهناك خطرٌ عليه، لكنْ علي يسألهنّ:

  • وأنتنّ، أليس ثمّة خطرٍ عليكنّ؟ ..

ـ نحن؟ لا.. لا تقلقْ.. أمّ صبيح تدفعُ دائمًا لجماعة ملا جليل.. وأحياناً تُرغمُ الفتيات على استقبال رجالهِ.

ـ لكن مَنْ ملا جليل هذا؟ ومنْ يُحارب؟ وماذا يُريد؟

ـ لا أدري صدّقني، تقول هند: ثمّة مجاميع مسلحة كثيرة تتصارعُ على مناطقَ النّفوذِ هنا.).

 

حتّى بيوتَ الدّعارة لمْ تسلَمْ منْ سرقاتِ هؤلاء السّفلة سياسيّو الصّدفة، حيثُ الرّجل الملتحي ملا جليل (الحقيرُ وليس الجليلُ)، يمرّ عليهنّ لغرضِ التّمتّع مع إحداهنّ، فيختارُ إحداهنّ ويقرأ عليها ما يتوجّبُ لزواجِ المُتعة. أيّ دينٍ هذا و أيّ زيفٍ؟.. لننظرْ ما قاله الملا الجليل لإحداهنّ وهو يتزّوجها:

(حسناً ردّدي ورائي. زوّجتكَ نفسي أنا العاقلة الرّاشدة لوصة بنتُ مجر على مهرٍ مُعجّل قدره دينارٌ واحدٌ و مهرٌ مؤخّر قدره عشرة دنانيرَ.. فردّدت وراءه.

قال: الآن أصبحتِ حلالي هيّا أخلعي ثيابكِ.. فخلعتْ ثيابها.. أمّا هو فاكتفى برفعِ جلبابه إلى الأعلى و نام فوقها..

تقول لوصة: ما أنْ لامسَ عضوه فخذيّ حتّى أطلق شخيرًا طويلاً و نهضَ مُعيدًا جلبابه، و قبلَ أنْ يخرج قال لها:  أنتِ طالق بالثّلاثة يا لوصة بنت مجر و خرجَ.. فنادتْ وراءه الملعونة.. والمؤخّر يا شيخ؟) .

 

تنتقلُ بنا الرّواية إلى فصلِ الحبّ و الآيروتيك الذي يدورُ بين علي الفتى المثقّف و هند ابنة الماخور و لكنّها مدرّسة الجغرافيا العفيفة أيّام زمان فتنشأ بينهما علاقةٌ حميميّةٌ بلا تعقيدٍ.

و الكاتبُ هنا ليس اعتباطًا أنْ يكتبَ عن مشاهد الآيروتيك وسط زحمة الموت و العنف اللّذين يمرّ بهما العراق حيث تنتقل بنا الكاميرا الروائية بيْن الحين و الآخر إلى مظاهر الدّمار و القنابل، و لذلك فإنّ محمّد حياوي يُجسّد ما قاله العالِمُ النّفسي الشّهير (سيغموند فرويد) حين يقول:

” إنّ الآيروس Eros  هو تجسيدٌ للحبّ كما و أنّ الكلمة تُطلقُ على غريزةِ الحياة مقابلَ غريزةِ الموت و هما غير منفصلتيْنِ عنِ بعضهما بالنّسبة إليه”

لنقرأ أدناه عن الإغراء والجنس حيثُ أبدع فيهما الرّوائي وصفًا وإمتاعًا للقارئ:

(مازلتُ أذكرُ حتّى ا لآن كيف أغلقتْ (هند) الباب ذا الظلفيْن ، كيف جعلتْ فستانها الأسود ينزلقُ ببطءٍ عنْ أكتافها ليعلق قليلاً في منحنى الخاصرة قبل أنْ يواصلَ انزلاقه الباهر عن ردفيها الصقيليْن، و قبل أنْ تضع شفتيْها فوق شفتيّ بفمٍ مفتوح، تلك اللّحظة بالتّحديد، حينَ امتدّ لسانها الطّويل متقلّبًا مثل أفعى ساحرة في فمي شعرتُ بخدرٍ يسري بجسدي. اعتقدتُ أوّل الأمر أنّ تلك القبلة ستكون كسابقاتها، حين تمتصّ نفسًا عميقًا من دخّان سيكارتها و تضعُ فمها فوق فمي لنتبادلَ الدّخان، هي تمتصّه و أنا أطلقه في فضاء الغرفة نصفَ المعتّمة، لكنّ سيكارتها ظلّت تستعرّ، بينما سلبتِ القبلة روحي و أشعلتها. همستْ بخبثٍ و هي تُبعد غرتها عن حاجبها الطّويل، بينما كانت السّماء في الخارج تمطر قذائفًا     و رصاصًا).

هند وفي لحظات البوح وبينما هي في أحضان علي تروي له ما جرى لها من ظلمٍ وهي ذارفةٌ دموعها بحرقةٍ وألمٍ شديديْن لنقرأ موجز ألمها:

متزوّجة ولديها ابنتها سارة الصّغيرة، وفي الانتفاضة الشعبيّة تمرض إبنتها سارة وينقلونها إلى بغداد لغرض العلاج لكنّ الحرس الجمهوري يجهزُ على بعض القادمين من الجنوب ويعدمهم جماعيّا في ساقية للبزل فيموت زوجها وتنجو هي مع ابنتها. فتعود إلى الناصرية و ترجع لمهنتها كمدرّسة جغرافيا لكنّها تُفكّر بالانتقام لموت زوجها حتّى قيام الحرب في عام 2003 عملتْ كمترجمة في وحدات الجيش النيوزيلندي مع السير جنت الصغير مارك الذي وعدها بترتيب لجوءٍ لابنتها سارة هناك، وحينما غادر الجيش الناصرية جاءتْ الميليشيات لتقتلها لعملها مع المحتلّ لكنّها تنجو بأعجوبة.

ابنتها سارة تأخذها أختُ هند إلى السير جنت لغرض اللّجوء، وحين عودتها إلى الناصرية تُقتل، ثمّ هند يُحرّمُ عليها الدّخول إلى الناصرية مرّة أخرى فانتهى بها الحال أنْ تلجأ إلى الدّعارة لتعيل نفسها في بيت أمّ صبيح، الماخور الكائن في خان الشابندر ولا تعرفُ ما هو مصير ابنتها.

لوْ ننظر إلى واقع المرأة العراقيّة فهي أصابها الضّرر منَ الطّرفيْن منْ جلاوزة صدام حيثُ قتلوا زوجها و منْ المليشيات الشيعيّة التي جعلتْ منها امرأة عاهرة تعيشُ على بيعِ جسدها في خان الشابندر بعدما كانت معزّزة مكرّمة في الناصرية كمدرّسة جغرافيا، فأيّ عراقٍ هذا و أيّ دينٍ؟.

يخرجُ علي من الماخور على أمل العودة مرّة أخرى،و بالفعل يعود بعد يوم أو يوميْن مع نيفين صديقته لغرضِ تعريفها بحال هذا الماخور و النّساء اللّواتي فيه، فلمْ يعثرْ عليه،حتى اضطرّ أنْ يذهب إلى (مجر) الشّيخ العجوز الذي هو الآخر قسا عليه الزّمن كما يبدو في شيخوخته فاستطاع أنْ يدلّه على الماخور و لكنّه وجده خِربةً و أنقاضًا بلا روحٍ و لا نساءٍ و لا عهرٍ ولا أغاني و لا نشيدٍ و لا عريٍ و لا مضاجعةٍ ولا تنهيدٍ ولا إغراءٍ و لا أحلامٍ ولا أيّ شيءٍ يُذكَر. فروى لهم (مجر) كيف تهدّم المنزل المتهالك أساسًا نتيجة قصف الهاونات في تلك اللّيلة، فانحشر الجميع فوق بعضهم البعض في غرفةٍ صغيرة بالقرب منَ الماخور المهدّم،و عندما دخل المسلّحون يحملون سكاكينَ ضخمة و بلطات،لمْ يصرخنَ أو يتوسّلنَ، فقتلوهنّ جميعًا،و حصل الذي حصل و ياما في بيوت العهر مظاليم.

لكنّ المطر أخذ بالهطول فجأة و راح يغسل بقايا الدّم و يُخلّف عشرات السّواقي السّود الدّقيقة و بهذا تنتهي أحلامُ البنات مع الموت الهادر في ارضٍ كلّها عنف و قتل. تنتهي الشّهوات التي كانتْ تباع هنا و فوق هذه الأرض التي عاث بها المُجرمون و قتلوا نساءً بريئات لا يحملنَ سلاحًا سوى ضيمهنّ و قسوة العالم التي لا تُطاق بحقهنّ مع الموت الذي لا يُفارق العراق منذُ القدم، و آخرها هذه الحرب الطائفيّة التي مازال أواراها مشتعلاً لا ينطفئ.

و في النّهاية أستطيعُ القولَ أنّ محمّد حياوي استطاعَ أنْ يُجسّد لنا الغواية التي أنشدها إدوارد يونغ : “عندما يأتي اللّيل يوشك الملحدُ أنْ يستسلمَ لغواية الإيمان بالله”.

وسط بلد يتحاربُ فيه المؤمنون بالله ورسوله منْ أجل إرضاء الكفرةِ المارقين والمحتلّين أعداءَ الشّعوب والإنسانيّة.

 

 

 

هــاتف بشبـوش، عراق / دنمارك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *