متى يخرج أبي من الصورة/سماح خليفة – واحة الفكر Mêrga raman

متى يخرج أبي من الصورة؟

 

للفقد وجع معتق في جوى القلب؛ أن يصبح اسمها بين ليلة وضحاها أم الشهيد!، أن يصبح اسمها زوجة الشهيد بعد بضع شهور من زواج مازالت تتدرج فيه طريق السعادة وتمارس الحب بقلب أخضر يانع يحتضن الحياة مع كل خفقة لرؤية وجه حبيبها!، أن يختار الملك الموت رفقة ذلك العريس الذي تنتظره أمه كل يوم ليقبل يدها ويخبرها أنها ستصبح جدة، أن يختار رفقة حبيب تنتظره حبيبته على فراش دافئ عابق بشذاه؛ فذلك ما يصب الدهشة والقهر والحزن في تلك القلوب الضعيفة.

ذات نهار حزيراني أثقلت وطأة الحر فيه صدورنا، تجلت على شفتي ابتسامة شفيفة؛ فاليوم موعدي مع بنات الجيران للذهاب إلى ملعب كرة القدم وإجراء مسابقة في ما بيننا. الملعب كان يقع خلف مبنى البلدية على يمين شارع المدارس المتفرع من الشارع الرئيس، هو يقابل المدرسة الأساسية من جهة ويطل على بيتنا وبيت أقربائنا (عائلة الشهيد) من جهة أخرى.

أذكر أننا بعد أن أنهينا السباق استلقينا على الأرض، وضعت أذني على أرض الملعب فسمعت أصواتا تدوي ولكنها غير مفهومة، فسألت زميلتي: هل تتحدث الأرض؟! وإذا كانت تتحدث فعلا فماذا تقول؟!، أنا لا أفهم شيئا،

ردت زميلتي: ربما هذا صوت الأموات تحت الأرض فجدتي تقول إن الأموات تحت الأرض يسمعون ويتحدثون ويتزاورون!

“ولكن تعالي واجعلي أذنك ملاصقة للأرض، ستسمعي همهمات عصية على التفسير”

“اتركي الأرض وتعالي نعود إلى بيوتنا قبل مغيب الشمس”

وما أن نهضنا ورفعنا رؤوسنا ومشينا في خط مستقيم في شارع المدارس المقابل لبيتنا وبيت أقربائنا؛ حتى رأينا جلبة غير طبيعية وسمعنا أصوات بكاء وعويل. هرعنا بسرعة إلى المكان، دخلت بيتنا لأستفسر عن الحدث؛ فوجدت الجميع يبكي ويحوقل، بقيت أهز كتف أختي وأسألها: ماذا حدث؟ حتى أجابتني: منير استشهد. ما إن سمعت ما قالت حتى أصابني خدر في جسدي، وحالة من الذهول منعتني من الكلام أو البكاء. وأخذ شريط في الذاكرة يتحرك على مهل وأنا أتساءل في سري: كيف ستحذف صور منير من هذا الشريط؟!

أذكر أننا بقينا حتى الصباح نتساءل عن كيفية استشهاده! حتى حضر أخي الكبير وعيناه مغر ورقتان بالدموع.

“راح منير! جيب عسكري ضرب سيارتهم وهم راجعين من سفرية شغل وطلع عنهم وكمل طريقه ولا كأنه عامل شي!! كل أخوته نجو من حادث الدهس ما عداه”

الكل ظل ينتظر رؤية منير ليودعه.

أذكر أن عددا كبيرا من الرجال حضروا وهم يحملون منير على قطعة خشبية مغطاة بقطعة قماش، وما إن دخلوا بيته حتى سمعت صوت الشيخ عبد الباسط مصاحبا لبكاء وعويل أهله.

رفعتا الغطاء عن وجهه وبدأت الدموع الصامتة تنهمر بغزارة، هرعت أمه وزوجته نسمة إليه ورفعتا الغطاء عن وجهه ودّعتاه -واحدة تلو الأخرى-وداعا حفر في القلب وجعا لم تستطع هبة النسيان محوه، وخاصة أن ابنته “فرح” التي جاءت إلى الحياة تلقفتها صورة والدها عوضا عن أحضانه؛ فنمت وترعرعت وهي تحتضن صورته، بينما تحمل في قلبها أمنية واحدة؛ أن يحملها والدها بين ذراعيه ذات يوم.

“ماما ماما…بابا طول في الصورة!! “عمو عمو…ايمتى رح يطلع بابا من الصورة؟! كل الأطفال آباؤهم بمشو على الأرض ما عدا بابا”

هذا السناريو الذي كان يتكرر يوميا وتفضفض جدتها به لأمي وبقية الجارات، وأما عمها فلم يكن يحتمل هذا المشهد، كان يهرع إليها يحتضنها بقوة، يقبلها قائلا:

“بابا يا حبيبتي ما رح يطلع من الصورة؛ لأنه طلع فوق عند ربنا على الجنة” فما كان من طفلته إلا أن تجهش بالبكاء قائلة:

“طيب ليه ما أخذنا معاه أنا وماما ليه تركنا هون!! أنا بدي بابا….”

مع تكرر هذا المشهد لم يكن من عمها المهندس أسامة إلا أن يتزوج من والدتها ليحفظ ما تركه أخوه من أمانة.

أقامت أم أسامة لولدها الأعزب فرحا كبيرا في الأردن وليس في فلسطين!!، ومن هنا بدأت الأقاويل تنتشر على ألسنة أهل البلدة وخاصة أن منير لم يكن قد مضى على استشهاده الكثير.

“هل يعقل أن تتزوج نسمة من أسامة وهي تكبره سنا؟!”

“كيف تزوجا وبينهما هذا الكره كله؛ فكثيرا ما كانت تتحدث نسمة عن غرور أسامة وعجرفته؛ لأنه مهندسا بينما منير لم يكمل تعليمه، وهو كذلك لم يكن يراها كنة مناسبة لعائلة……”

“أمه أرغمته على الزواج منها من أجل الطفلة التي لا ذنب لها”

أمام الملأ كان يبدو أن هذه العائلة استطاعت أن تبني نفسها من جديد وتلتحم بسعادة وفرح، أما ما تخفيه الصدور فالله أعلم به.

بالنسبة لفرح أيضا استطاعت أن تنقل لزميلاتها وصديقاتها وللمجتمع صورة العائلة التي تستظل بظل الأب بحب وفرح كحال مثيلاتها؛ بينما كانت تغفو كل ليلة محتضنة صورة والدها ودموعها تترقرق في ماقيه، تطرح عليه سؤالها المعتاد: متى تخرج من الصورة يا أبي لتحتضنني بين ذراعيك؟

…………..

(ملاحظة: الأحداث حقيقية والأسماء مستعارة)

 

 

بقلم: سماح خليفة/ فلسطين

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *