2

النّورُ المُتعَبْ/ نسيبة عطاء الله

النّورُ المُتعَبْ:

فتحتُ الباب على رنينٍ مُتعَبٍ مُتقطِّعٍ أقربَ إلى الأنين، فوجدتُ النُّورَ مُتهالِكا يتَّكئ على الجِدار وحولَه أحمالٌ ثقيلة مكدَّسةٌ من وقوعِها على بعضِها. كان النُّورُ يلهَث.

قالَ لي: “ماء، كأسَ ماء ….”!

 

دفعتُ البابَ كأني أدفعُ بابَ قلعة، وحملتُ الأشياء التي كانت تعيقُ فتحه بسلاسة….  النّور كان يحمِلُ الجبال! أمي التي تشارفُ السّتين كانت تحملُ لنا جبالا جميلة، جبالا لذيذة. وكم كانت سعيدة، لم تتأفف، لم تشتكِ بل جلست على الأرض وقبل أن تهدأ أنفاسها قالت لي:

-ابنتي، افتحي الكيس الأسود، لقد اشتريتُ هديةً لـ “حفيدي”…. هل أعجبتكِ؟

تعمَّدتُ إطالةَ النظرِ في الكيس الذي أدخلتُ فيه وجهي وأخذتُ أذرفُ فيه دموعي وحرقتي وعاري من نفسي….

بيننا يا أمّي ذاكرة طويلة من الجبال والأنهار والغيوم. بيننا ظِلالٌ كثيرة وأضواء لم أقُل لكِ عنها “شُكرا” إلّا وأنا أبكي.

الكيسُ الأسودُ يا أُمّي بداخله كلّ المرّاتِ التي فتحتِ فيها الباب تلهثين، أبوابٌ كثيرة يا أمّي بداخل الكيس وجدرانٌ وأكياسٌ وأحضانٌ وابتساماتٌ ودموعٌ ووندمْ

ندمٌ على كلّ مرة قلتُ لكِ “لم تعجبني”، وقتها لم يكن ثمّة شقٌّ في بطني وسكاكينٌ تمشي في عظامي ولم أجرّب بعدُ آلاما كبيرة، لم أكُن أُشبِهُكِ بعدُ، لم أكُنْ أُمّا بعد.

منذُ وقتٍ طويل لم تفتحي الباب، لأنّك لا تستطيعين، فأخبريني

يا نور حياتي ونور الله في قلبي كم مرّةً تعثرتِ في الطريق وأنتِ تحملين إلينا الفرحة وحِسُّكِ في أرجاءِ البيتِ هو الفرحة؟!. ..كم لسَعَكِ البردُ وبلَّلكِ المطر وأنتِ واقفة تنتظرين حمَالا، سيارة أُجرة.. وأنا في البيت أنعمُ بالدفء وأشاهِدُ فِلما؟ إذن خرجتِ في هذا الجوّ الباردِ لجلب كلّ هذه؟ وتسألين إذا أعجبتني؟!

يا الله….

 

كم أخجَلُ من الأشياء الذي تعثَّرَتْ في نقلها أمي، وتبلَّلَت من أجلها أمي، وانكسرَ ظهرُها من حملِها…. أمي، وتذلَّلت في جلبها أمي، وتقطَّعت السَلة من ثقلها لكن حافظت عليها من الوحلِ أمي!

أليسَ عارا أن يحملَ النورُ الأحمالَ الثقيلة؟ أليسَ النورُ مقدَّسا ليس إلا للركوعِ والسجودِ والعبادة؟

ألستِ أنتِ الهديّة، والحياة، والجنة، والشمسُ واللهُ في صورتهِ العُظمى يا أمي؟!

حضنتها….

وكانت مبللة بالمطر المعطّر بعرقها، حضنتها محاولة أقصايَ الصّمودَ كما الجِدار الذي يسندنا معا. خشيت أن أبثّ في أوجاعها أوجاعي، خشيتُ أن أُفلَتَ من زِمامي وأنفجر بكاءً، لكن لحظة شارفتُ على الانسكاب أنقذتني خطواتٌ على الدّرَج.

في المطبخ حكت لي عن الرجل الذي دفعها في السّوق ووقعت على ركبتيها، كأنها تحكي نكتة! لم أقوَ على قول شيء لكنني قطعتُ الصّلاةَ في عينيها ورحتُ أنحَرُ قلبي زكاةً لقدميها. كانت تعلم أنّ دموعي ليس سببها البصل لكنّها لاذت بابتسامة ووضعت في فمي عِلكة لتقول لي “لا بأس”…. وأنا الآن أريد أن أقتل نفسي في قصيدة لأقول “سامحيني”…. سامحيني لأني دوما لا أعرفُ كيف أقتلُ نفسي لأجلكِ إلّا أن أكتبَ وأبكي مثلَ ما كنتُ أفعلُ وأنا طفلة حينَ أنسى أنَّكِ كلُّ الناس، وأقولُ لكِ أمي أريدُ أن أخرج للشارع حتى أرى الناس! وأنتِ يا ماما أحلى الناس.

وأريدُ الموتَ في قصيدة، وأنتِ يا أميّ قصيدة للحياة!

17\02\2016

 

بقلم: نسيبة عطاء الله

One thought on “النّورُ المُتعَبْ/ نسيبة عطاء الله

  1. نص بديع من كاتبة واعدة.. مشرقة بالحب والأمل والحياة.. نُسيبة الأم.. تحدثنا عن الأم.. التي دئما تغدقنا بالحب تضحي بكل شيء لأجل أن ترسم الابتسامة على شفاهنا.. شكرا لك نسيبة على ما قدمتِه.. على نبضك الأنثوي الراقي…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top