وتيرة تطور البرنامج الذري لكوريا الشمالية سريعة. واختبرت بيونغ يانغ هذا العام مجموعة من الصواريخ الباليستية القصيرة والمتوسطة المدى التي في مقدورها إصابة الدول المجاورة والقواعد الأميركية في شرق آسيا، واختبرت صواريخ باليستية تطلق من غواصات وصاروخاً باليستياً عابراً للقارات وأسلحة نووية حرارية يزعم أنها قادرة على تدمير مدينة عن بكرة أبيها. وسيكون كيم جونغ أون في القريب العاجل قادراً على بلوغ شواطئنا ما لم يكن قادراً على تحقيق ذلك منذ اليوم.
ويُقال إن الحال هذه مؤسفة، ولكنها ليست مشكلة وجودية. فعلى رغم أن الخطر هذا قد يعيد رسم توازنات الجغرافيا السياسية، ليس خطر حرب نووية فعلياً. فلا رغبة لكيم في الموت. ويقول وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، إنّ قلق الأميركيين غير مسوغ، ويقول المحللون إن استخدام كيم أسلحة نووية ضد أميركا هو في مثابة انتحار قومي. وإذا كان يريد النجاة، فلماذا يغامر بالمبادرة الى نزاع خاسر مع واشنطن؟ ولذا، يجمع خبراء أميركيون على أن الأمور لن تبلغ مبلغ الحرب، ناهيك بحرب نووية.
ولا شك في أن حسابات كيم عقلانية. وهذا ما قد يسوغ احتمال استخدامه أسلحة نووية، ولكن ليس في ضربة أولى ضد المدن الأميركية. فترسانة كيم النووية ترمي الى ثني أعدائه عن تغيير النظام في بلاده. ولكن إذا انتهى الأمر بكوريا الشمالية والولايات المتحدة الى تبادل إطلاق النار، فقد يكون من المنطقي أن يستخدم كيم الأسلحة النووية أولاً، وزيادة فرص بقائه ونجاته. فهو قد يستخدم مجموعة من الأسلحة النووية للحؤول دون عملية غزو تقليدية، من جهة، ويحفظ في ترسانة الاحتياط الأسلحة الأكثر قوة والتي تهدد مدن العدو بالإبادة النووية، من جهة ثانية. وهذه العقيدة تسمى بـ «التصعيد غير المتكافئ»، ودرجت دول ضعيفة على انتهاجها، وهذا ما فعلته فرنسا في الحرب الباردة لردع الاتحاد السوفياتي الأقوى، وباكستان في وجه الهند، الجار الأقوى. وتستند الاستراتيجية هذه الى حسابات كيم الرئيسية ومفادها بأن واشنطن لن تغامر بخسارة مدينة أميركية كبرى للتخلص منه. فيتجنب مصير صدام حسين ومعمر القذافي اللذين لم يمتلكا أسلحة نووية. ولم يكن دوران عجلة الردع النووي يسيراً في الحرب الباردة، ووقعت حوادث مخيفة، ولكنه بقي فعّالاً. والى اليوم، تلتزم الدول الكبرى كثيراً من مبادئ الدمار المتبادل. ولكن، يوجد تباين بين معادلة توازن الدمار المتبادل والمعادلة في كوريا الشمالية. ففي مواجهة احتمالات غزو تقوده أميركا، يقتضي ضعف بيونغ يانغ أن تقوض قدرة أميركا على شن الهجوم عليها. وعليه، لا تملك غير خيار المبادرة الى استخدام أسلحة نووية ضد أهداف مثل قاعدة أندرسن للقوات الجوية في غوام، أو قواعد الحلفاء في اليابان وكوريا الجنوبية. فجعبتها خاوية من رؤوس حربية تقليدية قادرة على تدمير القواعد هذه. ورد تقليدي لن يبطئ أو يوقف الهجوم الأميركي. ولذا، أجرت كوريا الشمالية تجربة الصواريخ المتوسطة المدى، ويقال إنها زودت الصواريخ هذه برأس حربي انشطاري نووي، وحسَّنت القدرات على توجيه الصواريخ هذه.
ولكن، ألا تترتب على مثل هذا الهجوم النووي إبادة كوريا الشمالية في هجوم انتقامي؟ هذا ليس مؤكداً. ففي هذه المعادلة مكانة الصواريخ الباليستيّة والقنبلة الهيدروجينية بارزة وبالغة الأهمية. ونظرية كيم مفادها بأن بلاده قادرة على تدمير مدينة أميركية بواسطة صاروخ عابر للقارات محمل برؤوس نووية. فالمدن الأميركية في مرمى الخطر الكوري الشمالي. وهذا الخطر يغير معادلة الردع الأميركية، كما حصل في الحرب الباردة. والأغلب على الظن أن واشنطن لن تغامر بخسارة ملايين المدنيين على أرضها. ولن يسعها تدمير كل صواريخ كيم العابرة للقارات قبل إطلاقها أو اعتراض الرؤوس الحربية في الجو اعتراضاً موثوقاً به. لذا، قد يحملنا احتمال خسارة سان فرانسيسكو إثر انتقامنا النووي على وقف العمليات التقليدية الرامية الى إطاحة كيم ووقف إطلاق النار. فتقيض الحياة لنظام بيونغ يانغ. وقد يحسب كيم أنه إذا لم يبادر الى استخدام الأسلحة النووية، الخسارة مؤكدة. وإذا فعل، قد يملك فرصة للبقاء على قيد الحياة.
وليس سيناريو وقف الغزو بواسطة هجوم نووي محدود على هدف عسكري أميركي، غير عقلاني، على رغم أنه محفوف بالأخطار ومأسوي. وترسانة كوريا الشمالية اليوم صغيرة وضعيفة، والاستراتيجية العسكرية الأميركية ترمي، على ما قال وزير الدفاع جيم ماتيس، الى العثور على أنظمة كيم النووية كلها وتدميرها إذا نشبت حرب. وإذا حسِب كيم أننا آتون للنيل منه أو من قواته، فلا يسعه إلا أن يبادر الى ضربة. والدول صاحبة الترسانات الصغيرة حين تجبه قوة عدوة أقوى، تميل الى المبادرة الى الضغط على الضغط على الرسن وإطلاق سلاح نووي، فهذه الدول تجد نفسها أمام معضلة «استخدمه أو اخسره». وقبل الحرب العالمية الأولى، اعتقدت القوى الأوروبية أن عليها المبادرة الى خطوات عسكرية ونشر قواتها العسكرية وإلا واجهت خطر هزيمة تقليدية ضخمة. ويبدو أن أوجه الشبه كبيرة بين تلك الحسابات وحسابات كوريا الشمالية اليوم، في ما خلا حسابات الأسلحة النووية.
ويعود الفضل في تعاظم الخطر اليوم الى تصريحاتنا الحادة. ولكن، ما السبيل الى طمأنة كيم الى أن طلعات القاذفات الأميركية في غوام ليست مقدمة لهجوم مفاجئ؟ اليوم نحن في مرحلة بالغة الخطورة. فكلما كان كيم أكثر عقلانية مال أكثر الى الضغط على زر الإطلاق. وعلى المستوى السياسي الأوسع، يرمي الزعيم الكوري الشمالي الى إحراز هدف آخر من طريق أسلحته النووية (إلى ردع أميركا عن الغزو وإطاحته)، وهو زرع الشقاق في تحالفاتنا وفرط عقدها. فعلى سبيل المثل، بثت حيازة الاتحاد السوفياتي تكنولوجيا الصواريخ العابرة للقارات الذعر بين الحلفاء. فطورت فرنسا أسلحتها النووية الخاصة. فشارل ديغول كان مقتنعاً بأننا لن نجازف بمدينة أميركية لإنقاذ باريس. واليوم، القلق يشتد بين حلفاء أميركا مع وقوع البر الأميركي في مرمى الخطر، ويخشون ألا نرغب في المقايضة بين مصير قاتم قد ينتظر سان فرانسيسكو بإنقاذ سيول، أو توليدو في أوهايو بطوكيو. وتتعاظم هذه المخاوف حين يتهم الرئيس دونالد ترامب كوريا الجنوبية والصين بـ «استرضاء» نظام كيم بعد الاختبار النووي الكوري الشمالي. وربما تتابع بيونغ يانغ تغريدات ترامب، وتقع على هذه التغريدة، وتحسب أن استراتيجيتها السياسية بدأت تؤتي ثمارها. ومع مظلة الأمن النووي التي نحافظ عليها في شرق آسيا، طمأنة الحلفاء عسيرة وأصعب من ردع الخصم. واليوم يتفوق علينا كيم. ولا مفر من التخلي عن فكرة أن كيم مجنون أو غير عقلاني. وإذّاك، في الإمكان تسليط الضوء على الاستراتيجيات العسكرية والسياسية التي قد يعد لها ويرى أنها تبلغ أهدافها من طريق الأسلحة النووية. ويترتب على الإقرار بأن حساباته منطقية حسبان أنه قد يقبل حوافز محلية ودولية. وهذا يعني أن الردع – وهو لا ينفك من الطمأنة والديبلوماسية – قد يفلح مع كوريا الشمالية، تماماً كما دارت عجلته مع الاتحاد السوفياتي والصين. لكن الردع يعمل في اتجاهين: لم يعد في إمكاننا التلويح بمهاجمة كوريا الشمالية من دون المخاطرة بتبادل ضربات نووية.
* باحث مختص في الشؤون الذرية، عن «واشنطن بوست» الأميركية، 8/9/2017،
إعداد علي شرف الدين
مصدر صحيفة الحياة