2

الكل يتساءل من حبيبي/ رحمة بن مدربل

“الكل يتساءل من حبيبي؟” 


حبيبي ليس آدمياً … فأنا لطالما أحبْبتُ الجماداتِ الحنُونة، الكلماتِ الرهينة، أنواعاً من الصمتِ الحزينة والزمن المُنْفصِلَ في السنة عمَّا يعُدُّون.

حبيبي قد يكونُ نسيماً عابراً مالحاً يتبختَرُ بينما أستنشِقُه قُرْبَ البحرِ، قد يكونُ سرَاباً غامضاً يُراسلني في بريدِ الخيبة الفارغِ من الرَّسائلِ الآدمية

حبيبي كذلكَ كلُّ شيءٍ أخلِقُ منه أنا حبيباً ويجعلُنِي أكتُبُ، أكتبْ بلا توقُّف ألا يستحِّقُ كلُّ شيءٍ يمنحُنا هذه القُدرَةَ على التعبيرِ العميقِ أن يصِيرَ حبيباً؟

حبيبي أحياناً طفلٌ، رضيعٌ، لا أعرِفُهُ يُرْمى كلَّ مرَّةٍ عند بابِ الجامِع، قُرْبَ ناقوس الكنيسة، عندَ مدْخَلِ الدِير، وفي الطريق إلى المَعْبَد المهجور …

حبيبي يأخذُ أحياناً، بل دائماً صفةَ البحر … أزرقَ يُعشقُ من أوَّلِ نظرة، من أوَّل غرق …

أذكرُ أننّي صرتُ أحبُّ البحر لأنني في سنِّ الرابعة، غرَقْتُ فجأةً وأنا على الشَّطِّ مع والدي الذي لم ينتبه لدقائقٍ عليّ، كانتْ كافيةً بأن أصير تحت الماء و أفقِدَ القدرة على التنفُس، الصورة الوحيدة التي أذكُرُها عن ذلك اليوم هو أنَّني عندما ارتخى جسدي و سقطْتُ الى العُمق ترأى لي ضوءٌ أزرقٌ شديدٌ يبزُغُ من الداخل، اخترقني تماماً و صرتُ عمياء به ثمَّ فقدْتُ الوعي، من تلك الحادثة صرْتُ أحبُّ البحرَ لكنني لم أتعلَّمِ السِّباحة عمداً و لا أسبَحُ مُطلقاً فروحي لمَّا غرقتْ تُركَت هنالك ما زلت أحياناً أشتاقُ إلى تلكَ الحالةِ من اللاَّوعي التي عِشتُها أوَّل مرَّة في عُرْضِ البحر، تُشبِهُ السُكْرَ البارد، صارَ حبيبي الأوَّل البحر ، و ما زلت مدِينَةً له بغرابتي، بغمُوضي و مِزاجيتِي ما زلت أهذي به … أمِّي كانتْ تُخبرني  دوماً بأنَّني لمَّا كنتُ أنام، أصحو ليلاً من دون أن أعي و أنا أصرُخُ و أقول لها : ” ماما البحر … البحر … ”

بعدها لمَّا كبِرتُ قليلاً، أو كثيراً لا يُمكِنُني أن أحدِّدَ ذلك فأنا لا أحْسِبُ عمري بالسنوات، بل كنتُ سابقاً أحصي خيباتي المُتوالية أُمْعِنُ النظرَ فيها، أفتحُ يداي وأستَعْمِلُ أصابعي العشرة لأعُدَّها بها مِراراً وتِكراراً، كمن يكتَشِفُ أصابِعه لأوَّل مرَّة …!

الآن صرتُ أعدُّ سنواتِ عمري بكمْ مرَّةٍ تُمْطِر في السنة، مع كلِّ هطولٍ للمطر، أصْغَرُ بسنة ثمَّ لمَّا يعودُ القحْطُ يضْرِب سنواتي الحالية في أربعة ويُضاعِفها بسرعةٍ فأشيخُ في ظرْفٍ قياسي أصيُر عجُوزاً تحيك الحكايات كشالٍ صوفيٍّ وتُهديه إلى رجلٍ غريبٍ يمرُّ ببوابة المدينة المُتخيِّلَة، يُشبِهُ ابنها المُتوفى …

المطرُ حبيبي كذلكَ، لأنَّه يخلِقُ فيَّ حالةً من اللاَّ تركيز، وأحوالاً من الانفصال عن الواقع والهربِ إلى مدينةٍ فوقَ السحاب، يجعلُني مجنُونة حدَّ التعقُّل، لي معه حكاياتٌ طويلةٌ منذُ طفولتي … عندما كنتُ أتظاهرُ بالنوم عندما تُهدهدني أمي في ليلةٍ مُمطرة، وعندما تذهبُ إلى غُرفتها ألبسُ أجمل ثيابي ” التي كنتُ أحبها “والتي كانت: تنورةً قصيرةً مرسومٌ عليها بحرٌ وباخرةٌ وقميصٌ بنصْفِ كمٍ مُلوَّن

و أنتعِلُ خفاً منزلياً خفيفاً  أتسلَّقُ منضدة المطبخ بمساعدة كرسيٍّ صغير بلاستيكي و أفتحُ النافذة  و بخفةٍ لا مُتناهية أرمي الكرسي الصغير مُجدداً إلى تحت لأستطيعَ القفز دون أن أسْقُطَ خارجاً ثمَّ أرْكُض في حوشنا القديم،  كنتُ أرفع رأسي إلى المطر الغزير ليسقُط على وجهي الصغير الضاحِك بجنون  ثمَّ أرقُص تحته حتى أتبلَّل تماماً  و أغنِّي تحته بشغبٍ ” يا شتا طيحي طيحي أعليا … أشطح أشطح يا لولو كي يجي بابا غدوة نقولولو ” و بعدها عندما أكتفي بللاً و تسطك أسناني برداً و تنتابني تلك القشعريرة اللذيذة و يصيرَ الماءُ يقطرُ من شعري الأسود الطويلِ حتَّى الرُكبة، أجلسُ قرْبَ صهريجِ المياهِ الحديدي، أضعُ المقعد البلاستيكي الأزرق في الأرض مُلتصقاً به … كنتُ أفعلُ شيئاً غريباً لا أدري سببه، أحتفي بحبيبي المطر بتلكَ الطريقة ، أضعُ خدِّي مباشرةً ملامساً لحديد الصهريج و بالتالي أستطيعُ أن أسمَعَ صوتي عندما أغنِّي يتكررُ صداه داخلهُ خصوصاً إن كان غيرَ مُمتلئاً تماماً بالماء و بينما أنا أغنِّي كلَّ ما يخطرُ ببالي من أغاني كنتُ أحفظها يدي تكونُ مُنشغِلةً بقطفِ القليل من النعناع الذي كان ينموا من دون جهدٍ، من تلقاءِ نفسهِ في حوشنا منذ أن سكنَّاه ، أسحقُ الورقة بيدي ثمَّ أستنشقُها مُحمَّلة بعطرِ المطر و الترابِ و النعناع النفَّاذ  فأشعرُ بدوخةٍ لذيذة ،الظلام لم يكنْ يُخيفُني مُطلقاً، كانوا ينادونني عفريتَ الظلام لأنني أجلسُ كثيراً فيه و أستطيعُ أن أمشي في البيت عندما تنقطِعُ الكهرباء و أعرفُ أماكن الأشياء و أستطيع أن أرى نسبياً في تلك الظُلمة الحالكة لذلك كنتُ أبقى قرابة الساعة خارجاً أستمتع بمطري، محميةً من التقريعِ أو اللوم ولم يكن يعرف سري هذا أحدٌ من البيت لأنني أتخيَّرُ الليالي التي ينام فيها الجميعُ باكراً و يكونُ المطرُ غزيراً كما أحبُّه و أشتهيه …

المطر لطالما كان يُؤنسُنِي في رحلتي التي كانتْ تبدو لي طويلةً عندما كنتُ أدرُسُ في الثانوية وأقطَعُ أميالاً مُسافرةً إليها صُبحَ مساء …

كنتُ أكرهُ المطَّاريات ولا أحبُّ أن ألبس المعاطِف الكبيرة الثقيلة، كانتْ تَحْبَسُ نفسي وتُشعرني بالاختناق وترهقني بثقلها فوق هيكلي الطويل النحيف نسبياً …

فأخرُج مُرتديةً ما قلَّ ودلَّ من الثياب الشتوية وأحياناً ألبسُ المعطف الكبير على مضضٍ تحتَ إلحاح وتهديد والدتي التي تخافُ مرضي لأنَّ مناعتي كما تقول هيَّ ” ضعيفة ”

بعدها عندما أبتعِدُ عن حوشنا بمسافةٍ أدرك فيها أنَّني بعيدةٌ عن عين أمِّي التي تحرُسُني من بابِ البيتِ أخلَعُ السترةَ و أرقُصُ طرباً تحتَ المطر مُنتشِيةً بالبرد و الرذاذ المُنعش الذي يتحوَّل بسرعة إلى طوفانٍ ماء ، يسقِي عطشي الذي يُحرق جسدي، ربما أنا من ذواتِ الدَّم الحار أو لا أدري كيف أصنِّفُ نفسي ليس لديَّ معلوماتٌ كافية، ففي الشتاء يصيرُ دمي فائراً ويديَّ ساخنَتانِ جداً و لا يلزَمُني لأصيرَ دافئةً سوى المشيَ خطواتٍ بسرعةٍ فأُحِسَّ بحرارةٍ تحميني من البرد القارضِ لشتاءاتٍ كانتْ باردةً جداً و قاسية في مدينة داخلية، جبلية مشهورةٌ بالزمهرير اللاَّنهائي .

كانت يدايّْ الساخنتان جداً تثيران اندهاشَ كلَّ من يلمسُهما من صديقاتي بينما نتصافَحُ صباحاً كتحيَّة مُتعوَّدة، لا تفسير آخر كنتُ أسوقهُ في عقلي عندما أتساءلُ أنا نفسي عن سبب ذلك سوى القلق ، يُقال أنَّ الذين يملكون في داخلِهم شحنةٌ من التوتُّر و يخفونها بالصمت و الهدوء المكابر أجسادُهم ساخنةٌ جداً و لاذعة !
بعدها صرتُ أكتبُ حتى لا تغِّص الكلمات في حلقي بينما لا أستطيع أن أقولها , و أُصَرِّفُ كلَّ شُحنةٍ من التوتُّر في أوراق  ، صار حبيبي قلماً أسوداً يبتِسمُ حروفاً لا تنقطع كلمَّا أمسكته و تركتُ ليدي الحرية لتقول ما تشاءُ به ، الكتابة حبيبتي التي شفتني كثيراً من اوجاعي المتوالية ، كانتْ دواءً ناجعاً لكل شيءٍ يجعلُني أمرَض

ولكلِّ نوباتِ الغرابة التي صرتُ مشهورةً بها في كلِّ مكان، أنجَحُ علاقةِ حبِّ هي هذه ستظلُ وفيةً لكَ طولَ العُمْر إن كنتَ وفياً لها والشرطُ الوحيد في ذلك هو الصِدْقُ والرهافة المُفرِطة وتلكَ الصِفتان موجُودتانِ بي جداً … حساسيتي المُفرِطة التي كنتُ أحسَبُها نقْمة انقلبتْ نعمةً تجعلُني أكتُبُ حتى وأنا نائمةٌ في أحلامي!

ما زلت جالسة على عرش الغموض ما دمتُ أكتب … ومازال الجميع يتساءل: من حبيبي؟

 

بقلم: رحمة بن مدربل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top