قبلَ فواتِ الأوان/ هند العميد – واحة الفكر Mêrga raman

(قبلَ فواتِ الأوان)

قصة قصيرة

 

مصابيحُ بيضاء منتظمة بشكلٍ دائري تتوالى عليه وكأنَّه يُمرَّر عبرَ كبسولة الزمن. رجال ونساء يرتدون الزي الأبيض. يتساءل في سرِّهِ اللاوعي: هل هم روَّاد فضاء؟! أين أنا؟! ما الذي يجري؟!

صوت امرأة تنتحب، وتبكي، وتصرخ بصوتٍ يطلب النجدة لفلذة كبدها.

– إنَّها أُمِّي… -يقول هو -لكن لماذا تبكي؟!

للحظات.. استطاع عقله أنْ يفكَّ الشفرة، إذ عاد بشريط الذكريات إلى قبل سويعات ليتذكَّر بأنَّه تعرَّض لحادث مميت.

حين قرَّر تيم أنْ يُرافق أصدقاءه في رحلةِ صيد لم تكن تخلو من رعونتهم في سباق ثائر وكأنَّهم يملكون الشارع بطوله وعرضه، غير مُبالين للمخاطر، التي قد تُصيب المارَّة من الناس.. هذا ما عرفتْ به أمُّ تيم من والدة أحد أصدقائه حين راحتْ تلك الأخرى تنتحب للقادم من الخطر ما إنْ واصلوا نهجهم.

فكان العِنادُ أولُ ردود فعلهِ في كُلِِّ أمرٍ يتعلَّق بنصيحة أمِّه له، تيم ذلك المراهق المُتعجرف صاحب الستة عشرَ عاماً لطالما كان الخلاف ينطلق من نُقطة خوف والدته على حياتهِ من قيادتهِ المتهوِّرة لسيارة والده، والذي كان هو السبب الأكبر في تمرُّده لفرط دلاله لهُ.

بعد أنْ ارتدى ملابس مريحة للصيد، وتعطَّر بالطيب، الذي كان يتميَّز بهِ عن أقرانه لرُقي صنعه، أخذ مفتاح السيارة من فوق المنضدة، التي تتوسط غرفة المطبخ وهو يدندن بأغنيةٍ ما. نادتْ عليه والدته بصوتٍ حانٍ، محاولةً أنْ لا تفتعل مشكلة، سوى أنها تُريده أنْ يحذر:

– تيم حبيبي! إلى أين يا بني؟

يستدير تيم عن وجهتهِ الأولى وهو يتأفف متضجراً رافعاً عينيه إلى سقفي جحريهِما وكأنَّهما انقلبتا إلى اللون الأبيض بشكلٍ كامل، وهو يرد عليها قائلاً:

– مع اصدقائي إلى الصيد. هل هناك شيءٌ آخر تريدين أنْ تستفسري عنه؟؟

ردَّتْ أمه بعضب:

– ما هذه اللهجة، التي تتكلم بها معي؟ يبدو أنَّكَ لم تعد تفرِّق بين منحك الثقة بالنفس وبين الوقاحة.

تعالتْ أصواتهما بشدٍ، وجذب بين العتاب، والنفور، وبين النصيحة، والعناد.

خرجَ مُسرعاً من البيت ذلك المراهق الغاضب وهو ينعتُ تارةً، ويسب، ويلعن تارةً أُخرى. قاد السيارة وكأنَّه مجنون قد تخلَّى عن العقل تماماً. سَلبتْ منه ثورة العصبية السيطرة تماماً، ليجد نفسه يدعو الله أنْ يأخذ روح أمِّه ليتخلَّص منها، ومن نكدها -كما كان يظن -رنَّ هاتفه المحمول، الذي وقع منه سهواً أسفل قدمه حين رَكب السيارة غاضباً. أصدقاؤه الشبان يستعجلونه الوصول.. هذا ما حلله حين حاول قراءة الاسم الظاهر على الشاشة، لكنهم ليسوا أقل منه تهوَّراً وطيشاً، فلم يكتفوا بالمكالمة الأولى، التي فوَّتها لعدم قدرته على نيل هاتفه وهو يقود.

في المرة الثالثة وبينما هو مُنزعج راح يتلقف هاتفه بين الفينة، والأخرى، وأخيراً أمسكَ به بعد جهدٍ جهيد، وحين رفع رأسه، لم يسعفه القدر لكي يُجيب، فقد كان سائق تلك الشاحنة العملاقة القادمة من الجهة الأخرى يجهل أنَّه غير مُتنبِّه لطريقه.

ليُفيق على فوضى عارمة في تلك الغرفة، التي جمعتْ الملاك الطبِّي. ليسمع صوتُ متقطع لطبيب يطالب بمتبرِّع بالكلى؛ لأنَّ كليتيه قد تضررتا تماماً. صرختْ أمُّه بصوتٍ لم يحسب للعاقبة من حساب:

– أنا.. أنا أتبرَّع.

حزَّ في نفس تيم ذلك الإيثار من أمِّه وهو الذي سأل الله أنْ يأخذ روحها.

ثم نادى الطبيب:

– نحن بحاجة لكمية كبيرة من الدم.

لم يستطع أحد أنْ يسابقها لسرعةِ جوابها. ثم توالتْ الطلبات من الطبيب وكأنه يُجري عملية نقل جسد إلى جسدٍ آخر، حتى وصل الى القلب، قالتْ الأم بصوتٍ واهن مُتعب مجهد:

– أنا.. أنا يا دكتور! خذ قلبي.

ردَّ الطيب وكأنَّه مُدرك أنها لن ترضى بحل بديل لاقتراحها:

-يا خالة! أنتِ لم تبقِ شيئاً. فقد أخذنا أغلب أعضائكِ. وإذا ما أخذنا قلبكِ، ستموتين.

اخترق سمع تيم هذا الحوار وكأنَّهُ امتلك حاسةً تجاوزت العادة والطبيعة. تألم وعظمتْ عليهِ شكوى أمِّه منه كل تلك السنين، وفزع حين سمع ردها وهي تقول:

– خذوا مني ما شئتم! فقط أنقذوا قرة عيني.

فزع تيم. استند على جذعهِ. وأنفاسه تتلاحق. عيناه جاحظتان وكأنَّهما تريدان الخروج من راسه. جسده يرتعش خوفاً، وهو ينظر إلى يديه الخارجتين عن السيطرة وراح يصرخ:

– لاااا.. لا أمِّي! لن أتخلَّى عنكِ. لن ادعكِ ترحلين. أمِّي! أنا اااااسف.

هرولتْ إليه بخطوات تتسابق مع خوفها لتصل إليه فزعةً مما رأتْ من حال تيم.

– ما بكَ يا بني؟! بسم الله عليكَ. هل كُنتَ تحلم؟!

جحظتْ عيناه بشكلٍ مريب وهو يستذكر أنَّه لم يلتحق بأصدقائه ليجعل من النوم مفرَّاً له من إكمال الشجار مع أُمِّه.

 

٢٣/١١/٢٠١٧

بقلم: هند العميد / العراق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *