“كلاحين الجبل” رواية تفضح مجتمع ما بعد الانفتاح/ السيد الزرقاني – واحة الفكر Mêrga raman

“كلاحين الجبل” رواية تفضح مجتمع ما بعد الانفتاح

 

“إن القوة الأسطورية للمرأة لا تتجلي إلا في اقتناص الرجل الذي تبغيه ” جاءت رواية ” كلاحين الجبل ” للكاتب “أمير مصطفي ” الصادرة عن دار “الحسناء ” للطبع والنشر في أكثر من 170 صفحة الحاصلة علي المركز الأول في مسابقة المجلس الأعلى للثقافة والمركز الأول في مسابقة “ربيع مفتاح “الادبية 2016 – جاءت هذه الرواية لترسم للقارئ العربي والمصري صورة أكثر واقعية في تلك الفترة الأكثر تأثيرا في المجتمع المصري بعد الهجرة إلى بلاد الخليج العربي حيث تخلي الكثير عن تلك العادات والتقاليد التي حافظت على نسيج المجتمع وقوته تماسكه أمام كل الغزاة الأوروبيين الذين حاولوا مرارا فك هذا الترابط والمحافظة والانتماء لدى كل فئات الشعب لكنهم أصيبوا بخيبة أمل، حتى جاء ما عرف في فترة السبعينات ” بالانفتاح الاقتصادي ” حيث أصيب المجتمع المصري بالتحلل الأخلاقي والقيمي وهذا ما نجح في الكاتب “أمير مصطفي ” في رصده بدقة متناهية وعبقرية صائبة في اختيار بدايات الكتابة في رواية ليجعل من الخيانة الزوجية والتي طالت كثير من النساء نتيجة حتمية لغياب الأزواج لفترات طويلة كانت أو قصيرة ،جعلها عتبة أولى للفصل الأول في روايته “كلاحين الجبل” ولم تكن “بلقيس” امرأة عادية بل هي رمز لكل النساء اللاتي يمتلكن الجمال والفتنة وأصبحن في عصمة رجل هجرهن ورحل وراء البحث عن مقدرات أخرى غير تلك التي ورثها عن الآباء والأجداد ، تلك كانت البداية في انهيار البناء الذي ظل قرونا من السنين متماسكا بفضل تمسك الأبناء بميراث الآباء والأجداد وعندما حدث هذا التخلي عنه ، ولم يكن “بكري ” سوي هذا الشخص الذي ترك لنا كل القيم الاجتماعية والثقافية وجري إلى خارج الوطن مغردا خلف الأموال ومتخذا عمه مثال له في تلك الفترة العصيبة التي عصفت بالمجتمع ،حيث يتحدث عن بلقيس ويصف تلك الحالة في سرد أدبي شيق وجاذب رغم ما استخدمه من ألفاظ بداية في عتبة الفصل الثاني حيث قال في ص 19 “إن أقسى حالات الرعب هي تلك التي تجتاح رجلا عاريا يمارس الجنس مع امرأة متزوجة بينما يفاجئ زوجها المسعور مقتحما الغرفة شاهرا سلاحه ” وتلك الدخلة البليغة عن موقف الخيانة الزوجية التي قامت بها بلقيس مع “صبور ” شقيق زوجها واستمر بنا في حاله التشويق الدرامي واصفا تلك الحالة النفسية التي تمر بها كل زوجة تسربت الخيانة إلى قلبها ص22″كانت في ليالي سفر زوجها تستدعيه لحجرتها كي يقرأ لها ترجمة الأفلام الأجنبية …….كان البكري أول من امتلك في كلاحين الجبل – جهاز فيديو ياباني الصنع وطبق استقبال متحرك إيطالي ……… بلقيس التي أغدقت على صبور بأموالها وجسدها وصار لها عبدا مطيعا ولأول مرة مخلصا لها وحدها – فلا يري سواها من بنات حواء ”

– هكذا كان الكاتب يمتلك عبقرية خاصة في ربط المشاهد الدرامية بين أجزاء الرواية معدا لمسرح الاحداث في ترتيب بارع من حيث لغة السرد ومهارة الوصف حطي في حادث مقتل “البكري ” في لحظة دخوله على زوجته وهي في أحضان أخية من أجل الانتقام ذالك المشهد الذي سيطر على الفصل الأول كاملا في إعداد مسرح الاحداث لتلك اللحظة الفاصلة في حياة البكري إلا أن الأحداث أخذت منحي آخر بعيدا عن الترتيب الذهني والفكري للقارئ حيث تمكن “صبور من سحب السجادة من تحت أخيه فأوقعه أرضا وانهالت علية “بلقيس ” ليسقط البطل قتيلا وننتقل إلى محور آخر من الأحداث ونصل إلى ذروة الدراما في موقف ببلقيس الزوجة الخائنة من الحادث وكيف تمكنت من إخفاء الجثة أسفل السرير بشكل مثير للدهشة ويضعنا الكاتب أمام تساؤل نفسي واجتماعي هل التربية في الجنوب يمكن أن تخلق تلك المشاعر الغليظة في عمليات القتل وإخفاء حالة التوتر والرعب عند النساء المعروف عنهم نفسيا واجتماعيا إنهم دائما يصابون بحالات الانهيار في تلك المشاهد الدامية حتى وإن لم يشاركوا فيها فما بالك من المشاركة في عملية القتل ذاتها ، أم أن المرآة في حالات الخيانة الجسدية تتبلد مشاعرها كرها وحقدا وانتقاما خصوصا في حالة اكتشاف أمرها ونصل إلى حاله التلبس وهذا يعني الكثير في حياتها الآنية والمستقبلية أيضا ولذلك كانت بشعة في تصرفها ؟؟ حيث يقول الكاتب في ص 27 ” كل هذا وبلقيس في الخارج تمارس نشاطها اليومي تتعارك مع (نزهة) أخته على العجين والغسيل وكأنها لم تشارك في جريمة قتل وكأن تحت السرير خزين البيت وليس جثة زوجها ”

وفي براعة فائقة ينتقل الكاتب بنا إلى الفصل الخامس حتى تحل الكوارث الخاصة والعامة فقد تعرضت مصر لكارثة الزلزال المدمر الذي عصف بأركان الاستقرار في القاهرة وتعرض معظم المباني للانهيار ووفاة الآلاف من البشر وهنا يربط الكاتب في مشهد درامي حيث تخرج “بلقيس” لتبحث عن زوجها المفقود وهي تعلم تماما أين توجد جثته ؟؟ ويصاحبها أخاه “صبور ” في مشهد السخرية القدرية منهما في عملية البحث عن البكري وفي النهاية ينتصر الحظ لهما في استخراج شهادة وفاة رسمية للبكري في إحداث الزلزال وفي ذات الوقت تتعرض قرية “كلاحين القبلية ” لطوفان الفيضان وكأن القدر يريد أن يغسل عنها تلك الوحشية أو يعاقبها فتتعرض لهذا الفيضان الكاسح حيث يهرب سكانها إلى الجبل وترتسم حدود جغرافية جديدة للقرية ويتغير اسمها إلى ” كلاحين الجبل “وفي حبكة درامية رائعة من الكاتب يرسم لنا العادات والتقاليد في صعيد

مصر حيث تصدر الأوامر ل”صبور ” بالزواج من “بلقيس “ويصعدان سويا إلى الكهف حيث توجد جثة أخية في مرقدها، وتسترسل الأحداث حتى تبلغ ذروتها في العثور علي كنز أثري ثمين وهنا تتفتح شهية بلقيس نحو رجل آخر هو “أحمد السيد “الذي تعلق قلبه بامرأة أخرى ترفضه وتحاول بلقيس فعل المستحيل من أجل الإيقاع به في محراب أنوثتها لكنه أبى وحاول الهروب من شباك تلك المرآة وكان مشهد النهاية الدموي والاشتباك بين “صبور “و”أوزو” وهي مازالت تحلم بحضن من “أحمد السيد ” وهنا يترك الكاتب النهاية مفتوحة لتطور جديد ونهاية دامية إلا أن الكاتب يرى أن الانفتاح إي تدهور القيم والأخلاق في مجتمع كان هو الأكثر حفاظا عليها في القي والنجوع في صعيد مصر حيث أصبحت التجارة علنية فيما هو أثمن من حياة الإنسان وتراثه الأبدي الذي شيده الأجداد ،وعلينا أن نذكر إذا كانت الإسكندرية هي عنوان لامتزاج الحضارات بعدما حقق الاسكندر حلمه في إقامة الحضارة الهلنستية بها مع احترام كل عادات وتقاليد المجتمع المصري آن ذاك ،فان “كلاحين القبلية شهدت امتزاجا ديموغرافيا وحضاريا من نوع آخر حيث جيل آثر علي البناء والتشييد والتقدم ومراعاة حق الأجيال القادمة في تلك الثروات وهذا التراث الحضاري الذي اكتنز به بطون القرى والمدن المصرية طوال الآلاف السنين؛ وجيل جاء لينبش القبور دون أدنى مراعاة لحرمتها وتخلي عن أبسط العادات والتقاليد المصرية من أجل نهب خيرات الأجداد والمتاجرة متخذا الشيطنة طريقا وأنيسا دون مراعاة لحقوق الأجيال القادمة في هذا الميراث الحضاري الذي لا يقدر بثمن وقيمته تفوق كل غال ونفيس في العالم وهنا تتجلى براعة الكاتب في تحقيق تلك المواجهات الديموغرافية الحضارية.

 

 

بقلم: السيد الزرقاني

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *