المُشرّد/ عطا الله شاهين – واحة الفكر Mêrga raman

المُشرّد

 

ذات صباحٍ سمعتُ طرقاً على البابِ، بينما كنتُ مُستلقياً على الأريكةِ أشاهد حواراً على التّلفازِ عن وضعِنا العربي، فقلتُ لطفلِي الصّغير ابن السّت سنوات: اذهبْ واسأل مَنْ الطّارق؟ فعندما سألَ طفلي الصّغير مَنْ يقرع بابنا؟ ردّ عليه صوتٌ من خلف البابِ، وقالَ إنني المُشرّدٌ، فقلتُ لطفلي اسأله إنْ كان يريدُ طعاماً. فقالَ طفلي له: لا يوجد مالٌ مع والدي لنعطيه لكَ، خطتْ امرأتي صوب البابِ، وقالتْ من يطرقُ بابنا في هذا الصّباح، ردّ عليها أنا مُشرّدٌ، رجلٌ أنهكَه المشي.. فتحتْ امرأتي بحذرٍ بابَ المنزلِ وابتسمتْ في وجهه ابتسامةً عادية، فبادلها المُشرّدُ الابتسامة، وقام بالتّضرّع لها ولأهل المنزل.. انتظرتْ امرأتي دقيقةً من الزّمنِ كيْ ينتهيَ من تضرّعِه وابتهالِه. وحين انتهى المُشرّدُ من كلامِه، عضّت على شفتيْها بهدوءٍ، وقالتْ له: يقولُ زوجي لا مالٌ معنا لنمنحكَ، لكنّ رغيفاً من الخبزِ إنْ أردت، أو لترجعَ غداً أو بعد غدّ، فقالَ المُشرّدُ لامرأتي: ربّنا يرزقكم، وربّنا يخليكم لبعض، وإن شاءَ اللهُ تستمرُّ مسرّاتكم، وربّنا يبارك فيكم، فقالَ المشرّدُ بعد أنْ بلعَ ريقه: لو تكرّمت عليّ بكأسٍ من الماء، فأنا ظمآن يا أختاه، فذهبَ طفلي الصّغير، وصبّ له كأساً من الماءِ، وناولَه للمشرّدِ..عبّ المشرّدُ حتّى انطفئ عطشُه، ثمّ شكرَ الرّبَّ، وقالَ: شكرا يا بني، سلمتْ يداك، ونظرَ إلى طفلِي بينما كانَ يحملُ كأسَ الماءَ الفارغة، وقالَ له: أيوجدُ عندكم شيءٌ لكيْ آكله مع رغيفِ الخبزِ.

توارى طفلي الصّغير لدقائقٍ، ورجعَ وكان يحملُ في يديه حبّاتٍ من البندورة، فحملَ المشرّد حبّاتِ البندورة بيديه المُتسختيْن، ونظرَ إلى امرأتي بتقديرٍ جمٍّ. كسرَ قطعةً من الخبزِ وبدأ يأكلُها، ووضعَ حبّاتِ البندورة في كيسٍ حملَه بيده، التي كانتْ ترتعش.. ثمّ خطا بخطواتِه وكانَ يردّد تضرّعه، وقفتْ امرأتي على مدخلِ البابِ تودّعه بنظراتٍ زاخرةٍ بالحزْنِ. ثمّ سدّتْ البابَ وراءه عندما ذهبَ..

تابعَ المشرد دقّ سُددَ المدينة، أبوابٌ كثيرة لمنازلٍ وشققٍ كانت تفتحُ له، لكنّ أبواباً كثيرة كانتْ تظلّ مغلقةً، حينما يدقّها بيديه المُتسختيْن. كان قليلَ الإصرارِ والالتماس. يحملُ كيسَه الكبير، ويذهبُ مُهلّلا، ويؤوب مسترحماً، ببشرةٍ وجهه التي لوّحتها أشعة الشمسُ وتجعّدت من برْدِ شتاءٍ قاسٍ وسغبٍ دائم ..

وحينما كانتْ تداهمه العتمةُ بينما يكونُ في الشّوارع، فكعادته كانَ يروح للبحثِ عن مكانٍ آمنٍ ليبيتَ فيه.. وكانَ يعرّج إلى ديرٍ قديمٍ مهجور، ويقول: هذا بيتُ الرب.. بيتَ المشرّد: كانَ يرقدُ على أرضيةِ الدّير، وعندما تشرقُ الشّمسُ كانَ يرحلُ ويتابعُ مشواره، لكنْ لم نكُنْ نعلمُ من أينَ جاءَ هذا المشرّد؟ ولم نكُنْ نعرفُ حتّى اسمه، ولم يختر في بالِنا أنْ نسألَه عن اسمِه، ولمْ نسأله إنْ كانَ له أسرةٌ مثلنا ..

ابنتي الصّغيرة راحتْ تسألُ، بعد أنْ ساعدتْ أمّها في كنسِ أرضياتِ المنزلِ الصّغير الذي يقعُ على أطرافِ المدينة، وقعدنا على الشُّرفةِ ننظرُ صوب المُزارعين، وهُمْ راجعون مِنْ حُقولِ الزيتون، والتّعبُ على وجوههِم بادٍ..

فقالتْ ابنتي الصّغيرة: لمْ يأتِ المشرّد في هذه السّنة، عجبا، ماذا جرى له؟ فقلت لها: ربّما بات مُتعباً، ولم يعدْ قادراً على المشي، فسألتني أين مسقطُ رأسه؟ فرددتُ عليها: هو من مكانٍ مجهول. هناك وراء تلك الأكَم، وظلّتْ ابنتي ترنو صوب الأكم بكُلّ تأمّل، وتستفسرُ بحيرةٍ واضطرابٍ، وأنا البنت الصّغرى بين شقيقاتي وأشقائي، فهل الرّجل المشرّد الذي رأيناه ذات صباحٍ يملك أولادا ليبيتوا مثله مشرّدين، يسيرون كل يوم في أزقّة وشوارعٍ وساحاتِ المدينة؟ ..

 

 

بقلم: عطا الله شاهين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *