ديوان “نساء” للشاعر و الناقد هاتف بشبوش/ نوميديا جرّوفي – واحة الفكر Mêrga raman

 

ديوان “نساء” للشاعر و الناقد هاتف بشبوش.

 

للمرّة الثانية أنا أغوص في كتابات الشاعر و الناقد السماوي هاتف بشبوش، و هنا توغّلت في ديوانه الشعري الجديد الذي أصدره قبل أشهر قليلة بعنوان (نساء)، و هو الديوان الخامس.

” للمرأة حضور خفيّ، لا يراه و يهتدي به إلاّ رجل متفتّح عارف، فهناك نوع آخر من الرّجال بداخلهم حيوان محبوس، ليت هؤلاء يقوّمون أنفسهم أوّلا، ليتهم يعرفون أنّ المحبّة و التّفهّم هي ما تجعلنا بشرًا، أمّا الشّهوة و الحمية.. فلا.

فربّما كانت المرأة نورًا من نور الله، ربّما كانت خلاّقة و ليستْ مخلوقة، ربّما هي ليستْ مجرّد ذلك الشّكل ” (جلال الدين الرومي).

يقول الشاعر “هاتف بشبوش”: ” المرأة هي التي تحثّنا على الفيض.. المرأة التي ترافقنا حتّى تحت التّراب.. المرأة هي السّرير الحريري للرّجل.. هي الحلم الوثير للحبيب”

أجمل ما في الحياة، أنْ تتقاسمها مع إنسان يعرف معنى وجودك، يعرف صدق شعورك، يُشفي لك جروحك، يُخلص لك في غيابك، و يبحث عنك حتّى في وجودك.. فالحبّ و المرأة سبب استمرار الكون.

و يقول نزار قباني: ” عندما أكتبُ عن الأنثى لا أعلمُ لماذا أبتسم.. فكلمة أنثى بحدّ ذاتها جمال”.

المرأة و الرّجل مرتبطان ببعضهما البعض، و المرأة تُكمّل الرّجل في كثير من الأمور في هذه الحياة، هذا ما أراد أن يشرحه لنا الشاعر “هاتف بشبوش” في ديوان نساء.

كما قال شاعر المرأة يومًا: ” لا تعشقني بعينيْك، ربّما تجد أجملَ منّي..

اعشقني بقلبك، فالقلوبُ لا تتشابهُ أبدًا “.

ديوان نساء فيه عناوين مختلفة و لكلّ مغزى من وراء الكتابة، هو تجسيد للواقع و الحياة الحقيقيّة للمرأة كما رآها و كتب عنها هنا في هذا الديوان.

لو نتمعّن في كتابته: ليْستِ الشّجاعة في أنْ تغوي أكثرَ مِنْ امرأة، بَلْ الشّجاعة في أنْ تغوي المرأةَ ذاتها أكثرَ مِنْ مرّة “ فهي حكمة بليغة و تحمل الكثير ، فالإغواءُ ليس شجاعة، و إغواء أكثر من امرأة ليس نُبلاً في الرّجل، بل إغواء نفس المرأة التي يُحبّ كلّ مرّة بطرق مختلفة، من مفاجآت و هدايا و لو كلمة حلوة.

لأنّ تلك المرأة تكون بالنّسبة له النّساء جميعا، و هي كلّ النّساء حيث لا يرَ غيرها في عينيْه و لو كان بعيدًا عنها.

هذا ما قدّمه لنا الرائع نزار قباني حيث كانت بلقيس سيدة النساء عنده لآخر عمره.

و جوابًا على ما كتبه لنا الشاعر هاتف عن الإغواء يكون الجواب على لسان حواء:

” لا يغويني رجلٌ يشتهي حصدَ قلوب النّساء، بل يأسرني منْ يُدخلني قلبه و يكتب على بابه: عفوًا محجوز.. احتلّته ملكتي بكبرياء”.

 

في قصيدة ( في حبّ صغيرة) يقول:

 

من سينطقُ الحبّ

تلك الكلمة الرّهيفة من درس النّار

أو من دينٍ خرافيّ لا ينتمي للسّماء

من سيفتحُ ذراعيّه في البدءِ

لهوى و عناق مدلّلة

من سيحطّم أيقونة الاحترام الرسميّ

بين عودٍ خمسيني

و لحمها الطريّ المعافى

من يُداني الشّفاه

لتأديّة الشّريعة بإتقانٍ و خشوع

من سيرمي أكاليل الغواية و السّراويل

كيْ ندخل عراء اللّيل الفردوسي مثلما الشّجر

من سيدخله في بادئ الخلق

مع التّنهيد و امتصاص لهفتها الطفوليّة

أو يعينه عند اهتزاز الخصب الجميل

ثمّ يُداري خجلَ الانتهاء

حين يرتدي ثقل ملاءاتٍ خُلعتْ

بقدرة ربّة الشّبق الرّئيفة

منْ.. و منْ سيدلّه على وسادته

كيْ يستريحَ منْ ذهولٍ

على لوحةٍ عاريّةٍ

تخلو من الزّغبِ الأصفرِ

لأيغون شيلي

 

ما يقصده الشاعر هو أنّه تسقط التّواريخ كلّها في رغبة و توقّف المشاريع على وعد و يُختزل الحاضر و الماضي في رحلة الآتي.

و هي الطّريق منه و عليه، فيه و عنه و إليه.

فعجبًا لاجتياح الخمائر بالنّظرة و هي النّظرة و الطّريق.

 

و في شذرته التالية يقول:

 

حينما تُلحّ عليّ حالتي المزاجيّة

أسافرُ للسّياحة

أو ألتقي حبيبة باتتْ تُؤرّقني

فأطيرُ… أطيرُ… و أطيرُ

إلى عُمقِ السّحابة

و أتركُ كلّ أقلامي و أوراقي

هنا

 

في قوله: ” ألتقي حبيبة باتتْ تُؤرّقني” و كأنّه يقول:

عندما يسألونني من أنتِ؟

أقول لهم تسلّلوا إلى عينيها لتعرفوا من أنا..

 

و في قوله: ” أطيرُ و أطيرُ إلى عمق السّحابة” بمعنى:

عيناي مسافرتان في الأفق البعيد تبحثان عن وجهكِ المشرق، عن دفء الحنين في عينيكِ، عن الوردة المزروعة بين يديْكِ.

 

و في قوله: ” و أترك كلّ أقلامي و أوراقي هنا” بمعنى:

أحاول ربط اللّهفة تشغلني.. أجيب الميم تطير الشين..أخطّ الهمزة بالقوّة.. يضيع القاف.

و أقول أنا: ” من السّهل أن يشتاق المرء لمن يُحبّ، لكن من الصّعب أن يجده كلّما اشتاق إليه”.

و في كتابته أدناه يقول:

 

و قال لي

بمرور السّنين

سيستحيلُ الجنس بينكما

منْ لوعة و شغفٍ إلى واجبٍ

إلى أوقاتٍ متباعدة

ثمّ تراه ميتًا

يقتله المللُ

و روتين الأداء

 

موضوع بالغ الأهميّة و حسّاس في مجتمعاتنا و واقعنا يجهله الكثيرون، فيتحوّل لسؤال مهمّ ( ما الذي يقتل متعة الجنس بين الزوجين؟)

إنّه موضوع ثقافي و اجتماعي في آن واحد، ثمّ إنّ الحبّ و العلاقة الحميميّة مرادفان للسعادة الزوجية.

الحبّ هو واحد من أكثر المشاعر المعروفة يسعى معظم النّاس للتعبير عنه في علاقة رومانسية مع شريك متوافق، و بالنسبة للبعض العلاقة العاطفية هي العنصر الأكثر وضوحا في حياتهم.

ربّما يغفل الرّجل أو المرأة عن أهميّة كون الآخر بحاجة ليكون هناك تواصل حسّي باستمرار حتى يتغذّى الحبّ، كون العقل الباطني للشّخص يحتاج للتّأكيد أنّ لديه حبيبًا و شريكًا.

و ما يتسبّب في قتل العلاقة بروتينها و مللها هو انعدام معرفة الزوجين للثقافة الجنسية كما في المجتمعات الغربية.

فهناك أزواج يتركون زوجاتهم، ليس بسبب امرأة أخرى، بل لعدم  قدرتهم تحمّل سلبيات الزوجات، لأنها لا تقترب من الزوج و لا تطلب منه العلاقة الحميمية ليشعر أنّها ترغب به مثلما يرغب بها.

و البعض يعتقد أنّ العلاقة هي واجب بمرور الوقت بدون مشاعر و أحاسيس و رغبة و شغف كالبداية من تلك الحياة السعيدة، فيأتي الملل لأنّ الروتين قاتل يقتل كلّ شيء في طريقه، و الجنس ليس سبب السعادة بين الاثنين، لأنّ الحبّ لا يُولّد الروتين و الملل، بل بالعكس بمرور السنين تزداد العلاقة عمقا و توهّجا لا تنطفئ شعلتها، و إنّما لكلّ من الشّريكين دور لإبهاج حياة الآخر بتوفير جوّ المفاجأة و الهديّة  و الكلمة الحلة و العاطفة، فللضمّة القويّة الصّادقة المشاعر و القبلة كسر لذلك الكابوس الذي يخافه البعض.

شذرة جميلة كتبها الشاعر بصيغة أدبية اختزلت الكثير في عمقها و مضمونها.

في كتابته أدناه يقول:

 

و أنتِ على جادة الطّريق مُدبرة

سأظلّ أنظرُ إليكِ

حتّى لا أستطيع أنْ أراكِ

في الجانبِ الآخرِ

منْ هذا الوجودِ

 

فيها فلسفة عشقيّة بمغزى عميق جدّا

 

و كأنّه يقول عن ( و أنتِ على جادة الطريق ):

 

أراني في نهد تنهّداتكِ

أصلّي في ظلالكِ

و أسير في ظلالكِ البعيدة

و الأقرب ممّا أتصوّر

 

و في قوله ( سأظلّ أنظر إليك) كأنّه يقول:

 

ما من مرّة قاربتِ ذاكرتي

و لم يلسع غيابكِ وحدتي

 

و في قوله (حتى لا أستطيع أن أراكِ في الجانب الآخر .. من هذا الوجود) كأنّه يقول:

 

لئلاّ يترنّح الهواء في رئة لا تراكِ

سأنزع غفير الرّوح

 

و في كتابته أدناه يقول :

 

قبل طقس الحبّ

بسملَ صديقي الشّاكر للربّ

ثمّ حمدلَ بعد أقلّ من دقيقة

على انتهائه من نيكةٍ ممتعةٍ

لفتاته المبهرة

رنّ الهاتف:

مات أخوها ابن الثلاثين وسامة و خريف

إثر جلطة دماغية في مقهى السيليزور

آاااااااااه

ليته لم يحمدل

 

كتابة اختزلت موسيقى الموت المخيفة و الصدمة المرعبة، هي جدلية الموت و الحزن الذي يلاحق العراقي حتى و هو بعيد جدّا عن الكوابيس المرعبة في وطنه الأمّ.

إنّها الحقيقة المؤلمة للعراقي في كلّ زمان و مكان، حتّى و هو في منفاه في نشوة تناسل للبقاء فيأتي من يُزعزع تلك اللّحظة المقدّسة بكلّ طقوسها.

 

و في كتابته أدناه يقول:

 

مطرٌ خبيثٌ في شارع المكسيك

أتاحَ لعينيها عبر زجاج كافيه برازيليا

أن تشرين …. تعال

لكيْ ترى

كيف ستستحيلُ سبعةُ أسفلي

إلى مظلّة

تقيك عمّا قاله السياب الحزين عن المطر

 

أخذتنا الشذرة الرائعة لكتابة نزار قباني حين قال:

 

أخاف أن تُمطر الدنيا

و لستِ معي

فمنذ رحتِ و عندي عقدة المطر

 

و تشرين هو بوابة المطر، فنقول تشرين و المطر، فالمطر يحمل موسيقى بنوتة عذبة عندما نستمع لزخاته من وراء الزجاج.

و يحمل موسيقى حزينة عندما نشتاق للحبيب.

 

في قصيدة ( عواطف امرأة) يقول:

 

منْ يا تُرى يُغنّي قُبيل الصّبح

عن عينيها

و عن أترف ما ترتديه

لهذا الشّتاء الثّقيل

و عمّا تحت الخصر بشبر أو أقلّ

أو تنهيدة تحتي

يرضى بها الربّ الرّحيم

و ما يتلوها بنشوتها

التي ستهتزّ بها

حتّى عواطف أسفلها الشّهرزادي

بينما أنا عابر الحبّ

سأغدو شهريارها الضّعيف

 

الشاعر هنا أعظم من شهريار، فهم سيّد الحبّ و ليس عابره، إنّه مترجم العواطف و الأحاسيس أنهارًا من الإبداع و سراج الشعر و كأنّه يقول:

 

و لي في عين فاتنتي كلامٌ ::: يُطاول كلّ ما في العين قيلَ

عيون الماء إن تجري جفاف ::: و عين حبيبتي تُحيي القتيلَ

 

في كتابته ( رقصة الدانماركي) يقول:

 

قلتُ لراقصٍ دنماركي

 من الطرازِ الكلاسيكي النبيل

لماذا تُحبّ رقصة الفالس؟؟

أجابني مازحًا

لأنّني أستطيعُ فيها

أنْ أمسك فردتيْ طيزها

دون استئذان !!!

 

شذرة قصيرة رائعة، اختزلت فلسفة و ذكاء في فنّ الرّقص، لكن الشاعر هاتف بشبوش قدّمها لنا بسحر يراعه بطريقة أدبية عميقة المعنى.

 

في كتابته ( بنت الحيّ في بلدي) يقول:

 

بنتُ الحيّ في بلدي

يُمكنُها أنْ

تُلَفلِفَ جيدَها المُهفهفِ

السّمينِ و النّحيف

منَ الرّأسِ حتّى الكاحليْنِ

 بخمارٍ أسودٍ

هذا صحيحٌ يا أنتِ!

لكنّها

 لا تستطيعُ

أنْ تّغطّي أحلامَ نهديْها

 إذ ما انتفضا!!

 

كتابة تتحدث عن اللباس الأسود، لباس بنات الشرق في بلداننا العربية، إنّه لباسها خارج البيت، يلفّها من الرأس للقدم و لا يُظهر من جسدها شيئا، حيث تغيّر لباس المرأة العراقية في الأعوام الماضية و أصبحت تخرج و لا يظهر من جسدها سوى وجهها فقط، و الكتابة هنا جاءت بنغمة موسيقية جميلة.

 

في كتابته ( أيتها العواطف التي تحت معطفي) يقول:

 

أيّتها العواطفُ التي تحتَ معطفي

و أنا في هذا الصّقيعِ

أنتِ الحبُّ

و أنتِ … أنتِ الحقُّ

 

كتابة رائعة مليئة بالعواطف الجياشة، و هي كتابة تختزل كلّ كلمات الحبّ، و كأنّه يقول:

 

أنتِ

لحنٌ انفلتَ من الغيبِ

إلى فيض جناني

 

في كتابته ( بين زمنيْنِ) يقول:

 

بيْنَ زمنيْنِ

النظّارةُ السّوداء الشّمسيّة

و النظّارةُ الطبيّة

حيث نرى فيها أعوامنا التي مضتْ

و آلامنا

و حبّنا الضّائع لفتاةٍ

تحتَ أسوار التّقاليد

 

بين النظارة الشمسية و النظارة الطبية ما زال القلب فتيّا هو ذا المهمّ، ما زال نابضًا بالحبّ و الحياة.

كما كتبتُ أنا يومًا:

 

من قال إنّنا نشيخ؟

نحن لا نشيخ أبدت

قلوبنا دوما فتيّة

يشيخ الجسد فقط

قلوبنا و أرواحنا لا تشيخ

 

الأعوام الماضية من حياتنا تمضي، لكن حبّنا الحقيقي لا يضيع، لأنّ قلبا نابضا بنبضنا النابض الذي هو سرّ وجودنا.. فعلى عهد الحبّ ماضيين للأبد.

 

في كتابته ( و قالها محيط الهوى السكران) يقول:

 

وقالَها محيطُ الهوى السّكرانِ

بالنّبيذِ الشيرازيّ
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه ..آآه
لوْ كانَ لي ثغرًا

يستطيعُ تقبيلَ ألفَ امرأةٍ
في آنٍ واحدٍ
لقبّلتهنّ جميعًا و استرِحتُ!!

 

عن القبلة و الشراب الشيرازي، أخذنا في سفرة مع أبي نواس في قوله:

و لمّا شربناها و دبّ دبيبها ::: إلى موضع الأسرار قلت لها قفي

و هنا النبيذ الشيرازي فعل فعلته أكثر، فجاء بالتّمني لتقبيل تسعٍ و تسعين امرأة دفعة واحدة، و هي امرأة واحدة بتسع و تسعين قبلة و واحدة على عجل ليصل العدّ للألف.

فنذكر هنا قول نزار قباني: “قبّلتها ألفًا و لم أتعب”.

 

في كتابته ( موسيقى القطّ و الفأر ) يقول:

 

في المقصفِ اللّيلي الشّهيرِ و المعروفِ بديسكو القطّ  و الفأر
أراهم يرقصونَ..و يرقصون
و مادامتِ الموسيقى تعزفُ لحنَ أرواحهم
فهُم يرقصونَ .. و يرقصون
و كأنّ الحياة خُلقتْ من ضلعِ قيثارٍ و سكسفون
و لأنّ العالمَ هذا ليس عالمُ موتى
يرقصون
و ما زالت الحسناءُ (كاترينا) تهزّ بأردافها
يرقصون
و مازال( يوهانس) يترنّحُ بالكأسِ الكلاسيكي للبيرةِ السّوداء
يرقصون
و الفارعةُ (ماريا) تُغنّي مع الصّوتِ الصّادحِ لبريتني أوْ مادونا
يرقصون
و الشّقراءُ (سيسيليا) بسحنتها الإسكندنافيةِ
تعيدُ الشّعرَ المتطايرِ على عينيها بهداوةٍ
تثيرُ شهوة َ الموتى و الهاجعينَ قبلَ قرونٍ
يرقصونَ …. و يرقصون
مادام (سباستيان) بقناعهِ القطّ ينصبُ حبائلَ الودّ
لفأرتهِ الشّيطانيّةِ اللّذيذةِ (شالوتا)
و العجوز ( إيب) الثّمانيني المُتماهي بعناقٍ مع ( هانا) السبعينيّةِ المغناجْ
يرقصونَ ….و يرقصون
مادام الشبيبة ُ يَصخبون َمع الصّوت المضخّمِ عند السّقوفِ  و جدرانها
يرقصونَ… و يرقصونَ.. و يرقصون
حتّى يُصبحُ الغيبُ أكثرَ ضيقًا في المدى
بيْن ظلامِ اللّيلِ

 و انبلاجِ الصّبحِِ

و أجراسِ الكنائسِ
حيثُ ترجعُ النّفسُ المطمئنّة إلى بيتها راضيّةً مرضيّة

 

تحدّث الشاعر عن الرّقص الذي قيل عنه:

 

” الرّقص هو كلّ شيء.. ارقص بأقصى ما لديك من قوّة.. ارقص حتّى يظلّ كلّ شيء يدور، إذا فعلت ذلك فلربّما استطعنا أن نفعل شيئا من أجلك، يجب أن ترقص ما دامت الموسيقة تُعزف”.

 

كلّ هذا عند الغرب مُحبّي الحياة و المرح، شعوبٌ تفهم لغة الموسيقى و فنّ الرّقص على الأنغام، شعوب تفهم الحياة بكلّ لحظاتها السّعيدة، شعوب تفهم روح الموسيقى المتغلغلة في الأعماق لأنّها تُقدّس معنى الحياة و الفرح و السّرور و الإبتسامة، شعوب تُحبّ الألوان.

عكس الشّرق المُدمّر و السّائر نحو الحضيض و الخراب، ليصل الحال في شعوب منعت الموسيقى و نشر السّعادة في القلوب، نشرتْ ظلامها الحالك على شمس الحياة المنطفئة على أبنائها، فأطفأتْ شعلة الفرح كشمعة تذوب بالتّدريج حتى أنّنا لم نعد نسمع غير موسيقى النّواح النّاتج عن الفقدان في الانفجارات الفجائية، أو استشهاد خيرة الشّباب  و هم يدافعون عن الوطن.

يقول نيتشه: ” أولئك الذين نراهم يرقصون، يظنّهم الذين لا يستطيعون سماع الموسيقى مجانين”

 

و يقول هنري ديفد ثورو: ” إذا منت لا تستطيع الرّقص على إيقاع الآخرين، فربّما كان ذلك لأنّك تسمع موسيقى أخرى”.

 

في كتابته ( نايم المدلول) يقول

 

نايمْ المدلول حُلوة نومته

أو ربّما أنعسهُ رحيلها الباسم

بعدَ شوطٍ مِنَ الحبِّ الجميلِ

هكذا يقولونها

 

جاءت كلوحة فنيّة توافق المضمون فيها و كأنّه يقول فيها:

 

و إنّي لأهوى النّوم في غير حينه

لعلّ لقاءًا في المنام يكون

تُحدّثني الأحلام أنّي أراكم

فيا ليتَ أحلام المنام يقينُ

 

 

 

ثمّ تلك الإغفاءة توافق أيضا:

 

إنْ أغمضتُ عيني رأيتُ بعينيك فأنت بصر الرّوح

و إن أغمضت عيني رأيتُ بعين الرّوح فأنت سلامٌ لروحي.

 

في كتاباته (تيمّم بماء الزّنجبيل) يقول:

 

بقايا اللّيلِ

معَ منْ جاءتْ بخصلةٍ مشاكسةٍ

فوق عينينِ منْ سلوى

الأضواء القزحيّةُ قد جغرفتْ وجهها الفاتن

يبدو منْ محياها

لا يكفيها خليل

ألقتْ بالتّحيّة و استرسلتْ بالودّ

و بما يليق

سحبتْ كأسَ صديقي الذي جانبني

في الطّاولةِ الخماسيّة الأنفاسِ

و اتّخذتْ لها كرسيًّا بمحاذاة ممرّ الرّقص

و بين من اجتمعوا كعادتهم

يملنهم بالرّاح و لا يثملون

أراقها الغليان الثّائر في الحديث المهيض

بقصدير الدّم المراق

بذخيرة التّراتيل العشرة الوهميّة

و بحزنٍ شفيفٍ

أشعلتْ سيجارتها من الشّمعة المُضاءة بيننا

و قالت:

جبينُ الصّباح زمردٌ يُشعشعُ في عقود مصائرنا

تهاويل السّماء السّحيقة داء أبيّ العضال

الكنائسُ القريبة منّا كعشيقةٍ منسيّةٍ لسجّلها الشّائن

الحورياتُ بأثداءٍ محنّطةٍ

مجرّد أيقوناتٍ لصكوك الشّهوة

دبيبُ النّساء المزدان باللّذة و النّبيذ و رقص شاكيرا

صار اليوم ثالوثًا مفتوحًا من نافذة البار

فوق ضريح جان دارك

القطوفُ الدانية تحت سرّتي

مشهدَ عرسٍ لزمانٍ مضى

عقاربُ وجنتاي في بحر هياجهما

و زندي المبسوطة

و لونُ شعري المطريّ الأزرق نشيدُ بلادي

أراجيحُ طفولتنا لا تتوجّسُ خيفةً أيّام عيد الفصح

المباهجُ ترمي عصافيرها لخريفِ الأزلِ

و الطّريق إلى الفردوسِ يمرّ من كأسّ مدفوع الأجر

ناهيك ..

أنّ عزرائيل هنا في بلد العجائز كثير التّريّثِ

و سربروس اليوم أليفٌ يلعقُ الصّحون

وضعتْ أشياءها في حقيبتها

لتُبدي

أنّ اللّقاء انتهى

 

تحدّث عن الكنائس التي شهدت مرّ التاريخ مجازر باسم الدّين، و جان دارك تكون إحداهنّ، كما غاليلو الذي أُعدم كونه قال أنّ الأرض كرويّة الشّكل، فاتّهم بالإلحاد و قُتل، ثمّ القديس فالنتاين الذي قُتل هو الآخر كونه أحبّ فتاة، و الرّهبان مُحرّم عليهم الحبّ أو التّفكير فيه أصلاً،        و راهبات كثيرات تعرّضن للاغتصاب من طرف الكهنة في الكنائس ليُتّهمن بالعار فيُعدمن دون سماعهنّ.

الكنائس في بعض الدّول الغربيّة باتتْ خاليّة و مهجورة حتّى من رجال الدين فسكنها العنكبوت و امتلأت غبارا، فلتاريخها الدّموي في نفوس النّاس صارت مهجورة و منسيّة تمامًا.

 

كلمة أخيرة:

 

في الأخير يمكن القول أنّ للشاعر “هاتف بشبوش” كتابات شعرية موسومة بالدقّة و المعنى و المغزى العميق، فهو قامة أدبيّة شامخة غنيّة عن التّعريف، حيث كتاباته تمتاز بالواقعية من أرض الواقع المعاش سواء في الغرب أو في الشرق، يُقدّمها للقارئ البسيط بطريقة سلسة سهلة المفهوم، بعيدة عن الغموض و التعقيد، حيث اعتادنا كتاباته الواضحة بأبجديته السماوية التي صنعها ببصمته الخاصّة.

 

بقلم: نوميديا جرّوفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *