رزان …. / توفيق أحمد جاد – واحة الفكر Mêrga raman

رزان ….

لو تعلمين بنيّتي أيّ وجع أخفي تحت خطوط تركتها الأيام على وجهي، وأي صراخ يودّ أن يركض لولا قضبان الصمت التي حبسته، أي صهيل في روحي كلّما مرّ صوتك من سمعي الذي لا ينتبه الآن إلا لك، أيّ خوف.. وأي رعشة تتملكني الآن وأنا أنصت لذاكرتي، وهي تهيل عليّ صورك الضّاحكة.. وأنت تقفزين عن حبل صغير.. ” شبرة أمرة شمس نجوم .. شبرة أمرة شمس نجوم..”

صراخها كان يحمل رائحة الألم وينخر مشاعره، وكوخز الإبر يمرُّ من جلده حتّى آخر قرار في قلبه، يُفني الخطى في ممر مستطيل، ينظر إلى شاشة التلفاز المعلقة، لا يرى صورا ولا يسمعُ صوتاً، وكأنّه غارقٌ في بحرٍ منْ سكونٍ أو عدم .. وكأنّه صار خارج هذا الكون، وما يسكنه إلاّ من صراخها الذي صار يسمعه استجداء .. وكأنها تقول أبي .. أبي .. ينظر إلى زوجته يستجديها بنظراته، لكنّها كانت تطأطئ رأسها، تجمع كلّ صبرها، وتذرف ما خبأه الخوف والرجاء من دمع وألم.

هي تعرف آلام المخاض جيدا.. لكنها لا تملك إلا الدعاء، والرجاء والصبر، وبعض النظرات التي ترسلها إلى زوجها الذي وقف مذهولا وعاجزا تماما، فلا يدري ما يصنع أو كيف يتصرّف!

أيّ مخاض هذا الذي يضرب الأبواب مبكرا.. ولماذا يأتي على وجه السرعة ولا ينتظر إلى موعده.. أي مخاض يأتي في

(الشهر الخامس من الحمل). ؟!

الطبيبة لم تكن مريحة الملامح، كي تتجرّأ والدة رزان على سؤالها، لكن ذلك لم يمنع والدها من اللحاق بها وسؤالها عن وضع ابنته.

قالت الطبيبة: رزان .. رزان بحالة جيدة، والجنين أيضا، لكنّه فقد الكثير من السائل الذي يحيط به، وفي هكذا حالة نحن أمام ثلاثة احتمالات. الأول: أن يستمر تناقص السائل فيبقى حالها على ما هي عليه، لكنّ الجنين سيعيش معاقا. والثاني أن ننجح بإضافة السائل للجنين فيعيش بشكل طبيعي، لكنّ الثالث والأرجح: أن يموت الجنين. (وكله بيد الله سبحانه).

قال والدها: إذن الجنين هو ما يشكل الخطر الآن على حياة ابنتي .. فلماذا لا يتم إجهاضه. ؟!

قالت الطبيبة: الإجهاض بكلّ الأحوال ممنوع.. عليك أن تسلم بالأمر ولما يقدّرُهُ الله.

 

عاد الصوت يتهادى إلى سمعه والصور تركض في رأسه ((شبرة أمرة شمس نجوم) )..ابتسم وكفّيه تعصران وجهه .. ورزان ترقص وتتمايل في يوم زفافها وكأنّها طائر يتعرف لتوه على جناحيه .. العيون تتبع أي حركة تصدر عنها .. عادت ظلال ذلك اليوم لتخيّم على ذاكرته، وبصره مسلّط باتجاه طائرة تتضاءل في الأفق البعيد.. كانت تحملها إلى دولة أخرى .. حتّى أن نبض القلب عاد ليجدّف من جديد، وهي تمرر من ضحكاتها عبر سلك الهاتف من دولة تقع في آسيا البعيدة، حيث تقضي أيام (شهر العسل).

انتصف الليل .. والجميع في المشفى يؤكد على ضرورة مغادرة والديها .. لا ضرورة لبقائكم والحال على حاله .. وقد نحتاج وجودكم في وقت مبكر غداً ..! والصراخ يتحول إلى طنين واختناق كلّما ابتعدت المسافة .. ينظر إلى زوجته التي ما كفكفت دمعها ولا لملمت تبعثرها وخوفها الذي لازمها، حتّى احمرّت عيناها وأصبحت بلون الجمر من شدة البكاء، لكنّه لا حول له ولا قوة.

جلس على حجر كان يسكن بهدوء بجانب بوابة البيت، كان يضعه ليجلس عليه متأملاً، سارحاً بملكوت الله.. قال لزوجته: سأجلس هنا قليلا وأتبعك، كانت تعرف زوجته أنه يريد لملمة نفسه .. وهو بكل الأحوال لن يقدر على النوم، فتركته يمارس طقوسه ويهيم مع خيالاته.

عاد إلى جمع رأسه بين كفّيه .. وبدأت الأصوات تتسل إليه .. الصور والأصوات كلّها .. صوت الطبيب .. صوت الطبيبة .. أصوات الممرضين والممرضات. صراخ (رزان) وصمت طفل بحجم كف اليد محمولا على كفيه .. ملفوفاً بقطعة بلاستيكيّة وملفوف عليها الشرائط اللاصقة. بكاء مرير يتسرب مع برودة الطقس فينكمش .. صوت أنفاسه .. صوت زوج ابنته الذي كان يصل عبر الهاتف من بلاده البعيدة.. حزن وأسف .. وجمل كانت في وقتها مفيدة (المهم البنت، الجنين يعوضه الله) حفرة صغيرة وتراب ناعم يتناثر .. وليل طويل كأنه لن ينتهي.

كان والدها يغطّ في نوبة شرود عميقة حملته بعيدا والأصوات ما زالت تنسكب في رأسه فتأتي رائحتها صورًا مزدحمة وكثيرة (شبره أمرة شمس نجوم .. يسعد هالوجه المهضوم .. أحلى طله، وأحلى ضحكة، وأحلى غمزة، وأحلى هدوم)، ثم طائرا يكاد يهوي، ويعاود الطيران من جديد .. أبي .. رزان .. رررامي

 

لَكَزَتْهُ زوجته، وقالت: قم يا رجل . نظر في وجهها، طالع ابتسامتها العريضة وقال: ما هناك؟

 

قالت: رزان أنجبت وهي بخير .. وكذلك الجنين بخير، قم وسلم عليها يا زوجي الحبيب فقد عوّضها الله خيراً.

 

 

بقلم: توفيق أحمد جاد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *