الشجرة الكبيرة/ بختي ضيف الله المعتز بالله – واحة الفكر Mêrga raman
بختي ضيف الله المعتز بالله

الشجرة الكبيرة

قصة قصيرة …

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تأمّل في عينيها المطبقتين على الذبول، المحاطتين بالابتسام.
– ما أروع وجهك يا أمي !

هكذا كان يجاملها.
زارها هو وأبناؤه – دون علم زوجته – ليقضي فترة طويلة معها، تحدثه عن طفولته المليئة بالحب.
لم تسأله – ككل مرة- عن عدم حضورها!
، تخبئ ألماً شديداً بين ضلوعها، وهو يعلم ذلك خاصة حين تحدق في الرداء الأبيض للنافذة الكبيرة المطلة على الحي الفقير.
– ما يؤلمك يا أمي ..
– لا شيء يا ولدي..لا شيء..
تحاول أن ترسم وجهاً جميلاً، مختلفاً، على وجهها.
يعصره ألمه مرة أخرى، يدير وجهه إلى الحائط، يزيد أثر دمعه بكمِّ معطفه الأسود.
– هل تريدين أن أشتري لك ألبسة جديدة تستقبلين بها الربيع؟
التفتت نحو النافذة ..الشجرة الكبيرة وقد أزهرت بعض أغصانها، لم تعد كسابق عهدها، ربما لكبر سنها أو لعدم الاعتناء بها.
– لا أريد أي شيء، لم يعد يعجبني الجديد..يا ولدي.
خرج  وأولاده كطائر جريح !
أطلقت دمعها المحاصر، عادت إلى فراشها النظيف والمرتب بعناية، حاولت ترتيب فكرها المشتت بين شرود زوجة ابنها الشرسة، التي لا تريدها و حيرة ابنها وهو أب لأربعة أولاد وبنت رضيعة.
تذكرت زوجها الذي كان مبتهجاً بولده الوحيد. قال لها ذات مرة: سيكون لنا مجد عظيم بفضل هذا الصغير.
تحدث نفسها:
– كم أنا سعيدة-الآن- لأنك أخذت حلمك معك، ما أروع أن تكون النهاية في أوج السعادة، رحلت وأنت باسم الثغر..منتظرا.. !

لم يبق لها أنيس غير سيدة مات زوجها وهي في ريعان شبابها طردت من (القبيلة) لأتهامها بفعل المنكرات، وسيدة أخرى لا تكلمها، تتخذ من النوم  ملاذاً ونقطة للهروب، تغشاها الكآبة.
تقضيان لياليهما في الكلام الذي لا ينتهي حتى يأخذهما النعاس، فتنامان نوماً ينسيهما غربة الوجود !

في الصباح الباكر- وعلى غير العادة- يطرق طارق حجرتهن.. أن عليهن إخلاءها والانتقال إلى أخرى، لا بد من توسيعها حتى تتسع إلى عدد أكبر ولا بد من قلع الشجرة الكبيرة من جذورها فهي تأخذ حيزاً كبيراً من المبنى.
بكت بكاءً شديداً، حزنا عليها فهي تعني لها الكثير في فكرها، ترسم في نفسها الأمل المفقود.
في تلك اللحظة اشتاقت إلى وحيدها وأبنائه.
– ليته يزورني في هذا اليوم، لعله يشاركني حزني.
العامل:
– الحاجة..لا تضيعي وقتي المحدود، لدي أعمال كثيرة..
انتقلنَ إلى حجرة أخرى. لم ترتب سريرها هذه المرة. بقيت تراقب العمال وهم يجرون الشجرة، تناثرت أزهارها وأوراقها كتناثر عبراتها على خدها المحمر.
وُضِعت في شاحنة كبيرة لتُرمى بعيداً عن المدينة، تمنت أن تكون دفءً للفقراء.

حاولت مرات عديدة أن تتصل بابنها ولكن دون جدوى قد يكون هاتفه مغلقاً أو خارج مجال التغطية، يرجى الاتصال بعد حين، حاولت في كل حين، يكرر الهاتف جملته غير المفيدة.. !

أصابها حزن عظيم حتى مرضت، لم تعد تستطيع القيام بشؤونها الخاصة لولا مساعدة رفيقتها.
في كل مرة يسوء حالها وقد طال غياب ابنها فتطرح الأسئلة المنشطرة عن سر الغياب، يلبسها الاشتياق.

في يوم مختلف من طلعته، زارتها بنت في  العشرين من عمرها، ذات ملابس قديمة لكنها نظيفة، على وجهها الوسامة، وعلى لسانها حلو الكلام.
– عمتي..بحثت عنك حتى وجدتك !..لقد اشتقت لرؤية وجهك الحسن عن قرب، وتلمس يديك !
اندهشت من كلامها وهي تناديها بالعمة وتتمنى لقياها وتلمسها، وتكنُّ لها كل هذا الحب !
قطعت دهشتها قائلة:
– أنا من سكان الحي الفقير، أصبت بشلل مدة طويلة، كنت أجلس على كرسي متحرك بالقرب من نافذة بيتنا، أرقب وجهك الجميل وأنت ترقبين حركات المارة من الناس..فملكتِ قلبي، تقتَسمِين معي ألمي دون علمك !
كان كلامها بلسماً لجراح قلبها. أجلستها بجانبها بعدما احتضنتها بقوة .
وواصلت البنت حديثها وهي مستأنسة به، تروي لها أحداثاً كثيرة لم تسمع عنها، فهي حبيسة دار المسنين، إلا خبراً واحداً كان صعباً عليها إخبارها به..
صمتت طويلاً، وهي مطأطئة الرأس، كيف يمكنها أن تخبرها وهي في لحظة أنس وغبطة وانتشاء !
– تكلمي يا ابنتي، لا تخافي..
– عمتي أنّ و حيدَك هو صديق خالي، وقد تأكدتُ أنه ابنك، وأنه مريض، طريح الفراش لا يقوى على الحركة ولا على الكلام، أصيب بصدمة عنيفة بعد أن أخذت الشرطة زوجته لارتكابها جرماً لا يعلمه أحد غيره.
خرجت من عندها بعدما تركتها تسبح في بحر أحزانها.

كم هو صعب ألا يستطيع المرء أن يعبر عن ألمه الذي يسكن صدره، ليته يستطيع أن يقنع أولاده ليكونوا ألسنة للخطاب، يكلموا جدتهم البعيدة، أي خوف غرسته زوجته في نفوسهم حتى تبعدهم عنها ؟!

في الصباح الباكر استيقظ على صلصلة الأواني، بعدما نام نوماً طويلاً. رائحة قهوة منعشة تملأ المكان، تقترب شيئا فشيئا.
سقوط الأواني من يديها المرتعشتين خففت من قوة مفاجأتها.
استيقظ الأولاد من نومهم العميق وهرعوا مسرعين إلى المكان:
– يا أبي ..جدتي هنا ..يا أبي ..جدتي..
صاح: ما..ماااااا..ياما..
جاءها حبوا. استظل الجميع تحتها ودموعهم منهمرة فرحاً بعودتها.. كشجرة كبيرة تحمي ضعفهم!
 

بقلم: بختي ضيف الله المعتز بالله/ الجزائر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *