حميد الحريزي ومحطات مظلوم(1)/ هاتف بشبوش – واحة الفكر Mêrga raman

حميد الحريزي ومحطات مظلوم(1)

حميد الروائي والشاعر اليمامي المتطلّع إلى عالمٍ حرّ إستطاع أن ينتبذ مكانًا في صحن قلبي وقريحتي للمرّة الثّانية ، أن يدخل في ذائقتي وأنا أمرّ في جميع الأمكنة التي شكلّت له حزنا عميقا بقي معلّقا في الذّاكرة حتّى اليوم ممّا حدا به أن يفرغ هذا الوجع النّاجم عن مجتمع مورستْ به شتّى أشكال القسوة والتّعذيب والتّشريد والجهل والإستغلال ، وسطّرها قلمه في روايته الثلاثية (( محطات مظلوم.. العربانة / كفاح/ البياض الدامي ) .
حميد يُعتبر من المحدثين الذين استهوتهم مقولة رامبو من أنّنا لابدّ أن نكون محدّثين بصورة مطلقة في كلّ شيء . رامبو ساهم في نصرة العمّال والطبقات المسحوقة حين شارك في كومونة باريس . وها هو حميد يُساهم بشكل كبير في نصرة العمّال والذين ظُلموا في الحياة عن طريق شاعريته وإبداعه في مجالاتٍ شتّى .
في عام 1953 أطلق حميد الحريزي بكاءه الأوّل في النجف الأشرف ليشقّ درب الأدب الموجع عبر الطفولة المشخابية الريفية ليصبح شاعرا وناقدا يشار له بالبنان، يمتلك العديد من المجاميع القصصية والشعرية والدراسات التي تنتظر الطبع ،عضو الإتّحاد العام للادباء والكتّاب في العراق ثمّ رئيس تحرير مجلة الحرية ، ناشرا شهيرا في أغلب الصّحف العراقية والأجنبية .
أستنير بما يكتبه الروائي حميد ، ينفتح ذهني وتكبر قريحتي وأصول وأجول بين الأسطر التي تحمل كلّ المعاني الإنسانيّة من شاعرٍ وروائي أمضى أكثر من نصف عمره في الأدب والنّضال ومقارعة الطّغاة بالكلمة وبالكلمة فقط ، إنّها طلقته وسهمه صوب الجائرين اليوم وغدا وأمس.. صوب أمريكا التي قال عنها ذات يوم محمود درويش:( أمريكا هي الطاعون والطاعون هو أمريكا).
يُذكّرني حميد بكلّ رجال الفكر اليساري ، الذين بقوا كما الساموراي الأخير ، أولئك الرّجال الذين حفروا أسماءهم وعناوينهم في سجل التأريخ عبر الأزمنة الغادية والآتية ، وعبر شجرة الحياة الخضراء لا عبر النظريات الدينية الرّمادية لأولئك الذين قتلوا بها الشّعب العراقي و أغرقوا العراق بالخزعبلات حتّى بتنا لا نعرف من هو الولي ومن هو السرسري ، حتّى بتنا نُغنّي ( يا روحي جذاب الوكت موذولة الأحباب) فلذا حتما ستكون هناك شموسا أبدية لوارف أغصان حميد الحريزي .
رواية ( محطات مظلوم) تتحدّث عن نضال الحزب الشيوعي العراقي وما مرّ به من نكسات لو تَمّ تجاوزها بشكل أفضل لكان العراق في مصاف الدّول الكبرى مع طرح مضاد لشيوعيي اليوم وهذا رأيه مهما يكن من أمر وخصوصا في مسألة إشتراك الحزب الشيوعي في مجلس حكم برايمر بزعامة أمريكا وإحتسابه على الطائفة الشيعية . استخدم الروائي حميد هنا في سرده أسلوب الفلاش باك ، فيظهر في بداية الرواية (كفاح) مطلقُ السراح من سجنٍ إقتحمه العراقيون أثناء دخول الإحتلال الأمريكي فيرى ما لا يصدّقه عقله الذي مضى في أقبية البعث أربعة وعشرين عاما . عقله الذي ظلّ يُقارع أمريكا عدوّة الشّعوب التي أتت بالبعث في عام 1963 ، حيث دعّمتْ إدارةُ كندي انقلاباً ضدّ حكومة العراق التي كان يرأسُها اللواء عبد الكريم قاسم ، الذي أطاحَ بالنظام الملَكي العراقي الموالي للغرب السي . آي . أي ، فقامت حكومة حزب البعث الجديدة في تطهير البلد من المشتبَه في أنّهم يساريّون وشيوعيّون. وفي حمّام الدّم البعثيّ استخدمتْ الحكومة قوائم بالمشتبَهِ بهم من شيوعيّين ويساريّين آخرين ، قدّمتْها السي . آي . أي ، لاغتيالٍ منظّمٍ لأعداد لا تُحصى من النّخبة العراقيّة المثقّفة. الضّحايا يضمّون مئات من الأطبّاء والأساتذة والتقنيّين والمحامين ، إضافةً إلى شخصيّاتٍ عسكرية وسياسيّة ، وملاحقة آخرين من ضمنهم والد كفاح المسمّى مظلوم بطل روايتنا هذه الذي كان مناضلا شيوعيا في عام 1963 كما سنبيّن لاحقًا . وها هو كفاح الشيوعي الحقيقي اليوم يرى أمريكا بمدرّعاتها في شوارع بغداد ويا للكارثة والمأساة والحيف ، فيا ترى من جاءوا به الآن فوق ظهور دبّاباتهم . أمريكا تلك التي جاء منها مصطلح المكارثية على لسان السيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي للحدّ من الأنشطة الشيوعيّة قتلاً ونفيًا وبشتّى الوسائل ومن الشيوعيّين الذين طالهم القتل جون لينون مؤلّف فرقة البيتلز للموسيقى والغناء أمّا النّفي فطال العظيم شارلي شابلن بينما السّجن طال أعظم سيناريست في القرن العشرين( Trumbo ترمومبو)مؤلّف سبارتكوس.
أبطال الرواية هم ( مظلوم ) أبو مطشر أو أبو كفاح لاحقا وهو فلاّح بسيط في خمسينيات القرن المنصرم يترك الرّيف نازحاً منه نتيجة ظلم الإقطاع ويصبح بائعا للبلبي في النجف ويذوق ويلات الجوع والبطالة وقهر البلطجية ، فتنزح معه الكثير من العوائل نتيجة ظلم الإقطاعي فكان الفلاّح يحزن حتّى على كلبه الذي يتركه هناك لكنّه لا يذرف دمعةَ حزنٍ واحدة على عائلة إقطاعي لما في الكلب من وفاءٍ عظيم . ويصوّر لنا الرّوائي حميد من أنّ كلاب الرّيف تختلف كثيرا في وفائها من كلاب المدينة. ولم لا فالكلب أصبح مضربا للأمثال في العديد من القصص والحكايات منذ قديم الزّمان حتّى هذا اليوم . ففي مطارٍ كولومبي يموت كلب بسبب الإشتياق لصاحبه الذي نسيه هناك وظلّ شهرا كاملاً يبحث عن صاحبه حتّى باءت محاولاته بالفشل وكان يأخذ الطّعام من عمال المطار الذين عرفوا قصّته بفقدان صاحبه ثمّ انقطع عن الطّعام فجأة حتّى هزلَ عوده ومرض ويُعرض على الأطباء فاكتشفوا من أنّه ُمصاب بالإكتئاب والمرض النفسي من جراء فقدانه لصاحبه حتّى مات منزويًا في زاوية من زوايا المطار .
ملعونة هي الإقطاعية وملعونة كلّ أشكال الإضطهاد كما في أمريكا وإستغلال الزنوج من قبل الإقطاعيّين حيث كان هناك قانون في أميركا يسمّى قانون العشرين زنجي أي أنّ كلّ أبيض إذا كان لديه عشرين زنجي يعفى من الخدمة الإلزامية في أميركا ( فيلم…ولاية جونز الحرة Free State of Jones ) إنتاج 2016 تمثيل الشاب )ماثيو ماكانوكلي( والسمراء )كوكومباثا( ومن إخراج )كاري روز(. ولذلك نجد الإقطاعي الأمريكي يملك العديد من الزنوج لحصاد القطن بينما الفقراء الآخرون من البيض يذهبون إلى الحرب لتأدية الخدمة الإلزامية رغما عنهم فيقتلون هناك أو يطالهم العوق .
في عام 1952 تنشب التظاهرات في النجف وعموم العراق ممّا يؤدّي إلى تفتيش عربة اللبلبي لمظلوم بإعتبارها تحتوي على مناشير ثمّ يُسجن وتأتي (غنودة) لتخرجه من السّجن لما لها من علاقات مع الضباط وغيرهم ولم لا فهي زوجة الثري حجي (معيوف) وفرجها المصدق . غنودة هذه إمرأة جميلة وثرية تكره زوجها ذو الكرش المتدلّي . تستدرج مظلوم إلى بيتها بعد أن تعجب بشهامته ووسامته رغم قلّة ثقافته وريفيته وأثناء ممارسة الجنس والتنهيد مع مظلوم تذكر اسم (شياع) على لسانها وبحرقة عالية فأدى بها ذلك أن تعترف لمظلوم المتعكّر مزاجه من ذكر( شياع) من أنّه كان شابا تقدمياً طيبا يتردّد على بيت الغجر الذي تعمل به غنودة وكان يعطيها قيمتها كإمرأة حتّى أحبّته حدّ الجنون ثمّ يأتي أحد الشيوخ الذي كان يحبّ غنودة ويغدق عليها الأموال فأصابته الغيرة من هذا الرّجل ممّا أدّى به أن يفرغ برأسه رصاصات البندقيه فيرديه قتيلا . قصّة شياع هذه أنا شخصيّا مررتُ بها حين كنّا أيام زمان لا يمكن لنا أن نحقّق صبواتنا إلاّ في المبغى ، فكنّا أنا وصديق لي شاعر توفّاه الأجل ، قد عرض علينا عمّه الذي يكبرنا سنّا بكثير في أن نذهب معه إلى غجر السماوة وبالفعل ذهبنا وهناك تعتعتْ أدمغتنا بحليب السباع وأنتشينا ورقصنا فإذا بإحداهنّ مالتْ عليّ بلطفها وغنجها ودلالها لي والأخرى على صاحبي … وأنا بدوري أصبحت بطلاً أصول وأجول في خديها وصدرها مع غنائنا سوية وعلى حين غرّة لم أرى غير أنّ عمّ صاحبي الذي أضافنا يشبعنا لكما وضربا وصفعات أنا وابن أخيه صديقي ..حتّى طردنا من الحفل . في الصباح وجدنا وجوهنا متورّمة زرقاء من شدّة الضّرب ..التقينا به صباحا فقال لنا ( سرسرية جئت بكم ضيوفي وخسرت عليكم مالي ..وبعدها تسرقون حبيبتي ) فتبيّن أنّ إحدى الغجريات كانت صاحبته وعشيقته .
غنودة وفي لحظات البوح وبينما هي في أحضان مظلوم كانت تذرف دموعها بحرقة وألم شديدين لنقرأ موجز ألمها:

(غنودة الغجرية بعد مقتل حبيبها شياع تركت الغجر وجاءت تعيش في المدينة مع معيوف صاحب المتجر والقواد فأصبحت زوجته ومحضيته تحيي حفلاته وسهراته مع كبار المسؤولين والتجارالذين يظهرون في اللّيل ويتوارون في النّهار.. الباشا ، والمرجع وأفندية ولباس عربي و عمائم وكشايد ووو… أذلاء تتحكّم بهم غرائزهم، متهتكين شواذ خلاف ما يتظاهرون به من الرفعة والعفّة والوقار خلال النّهار. ولم يكتفوا بذلك بل هم شواذ حيث يرافقون صبيانا لممارسة الجنس معهم وعلى فراش غنودة دون حياء ).
يخرج مظلوم من السجن وتدعوه غنودة إلى الغرام مرّة أخرى حيث سبق له قبل السجن أن مارس الجنس معها وأشبعها ولوجا وتنهيدا وتفخيذا حتى ارتوت. ذاق من الطعام لذيذه ومن العصائر ما ينعش القلب والسمك وكؤوس الويسكي المخفّف بالعصائر ، إنّه عالم الخمرة المنعش الذي لو حلّ في الأبدان لأطربها وطار بها إلى الفراديس ولم لا فذات يوم وأنا أقرأُ عن دون بريندون ، مخترعُ الشمبانيا/عرفتُ أنّه كان يتذوّقُ النّجومَ حين يشربُها/وحينما يجلسُ في البارِ /كان ينادي النادلَ: ويقول هاتني المزيدَ من النّجوم .
مظلوم لم يصدّق بهذه النّعمة التي حلّت به مع هذه الحورية المسمّاة غنودة بعد أن كان لا يعرف غير التّمر الزاهدي واللّبن ؟ وكيف له أن يصدّق فالعالم الشرقي كلّه في سبات مشغول في عملية التكثيف الجنسي( الإستمناء) والإعداد له في الغرف المظلمة ، شعوب لايمكن لها أن تعرف الجنس إلاّ بعد عمر الثلاثين حيث الزواج بينما تضيع سنين المراهقة هدرا بين الخيلاء والأحلام التي يتوجّب الاستحمام بعدها بما يسمّى بالجنابة . شعوب لديها الجنس محرّم إلاّ لغرض الإنجاب وكأنّه جريمة تستحقّ العقاب من الربّ والضّمير بينما يقول ألكسندر دوماس ( الحبّ الجسدي ، هذه الخلاصة الحيوية للإنفعالات هي الأكثر عفّة في الروح) الحبّ هو ذلك الأمر الذي لايمكننا الشفاء منه . ولذلك ترى المسلم مريضا معقّدا حتّى يتزوّج فيفرغ كلّ لعناته و صبابته العطشة في وعائها العطش هو الآخر في ليلةٍ واحدة، ويظلّ عطشاً شهوانيا حتّى في شيخوخته طالما طحنته سنين الكبت والحرمان وهو مراهقا غرّا غرير .
استطاع الروائي حميد أن يعطينا معاني الحبّ بأشكاله المختلفة ، الحبّ المؤقّت بحميميته المثيرة أوالأبدي المعروف بالرّباط المقدّس . المؤقّت هو العلاقات العابرة لأجل الجنس والغريزة أو كما يحصل في بيوتات الغجر العراقيّة أو المواخير بشكل عامّ حيث تحبّ أحدى الفتيات فتًى شجاعا في كلّ شيء في تعامله معها واحترامه وشغفه بها كأنثى بمشاعر وقلب لا تلك التي يُدنس اسمها تحت المسميّات الأخرى مثلما حصل لغارسيا ماركيز الذي أدّى به إلى أن يؤلّف روايته الأخيرة ( ذاكرة غانياتي الحزينات) وكيف نرى شقاوته ومغامراته وخصوصا مع خادمته داميانا الوفية التي يولجها من الخلف بعد أن يرفع ثوبها فتصرخ آي آي ياسيدي فهذا للإخراج . فالحبّ الذي وقع بين شياع التقدمي المثقف وغنودة الغجرية حبّا خالصا لا يعرف الحدود لكنّه انتهى بنهاية مأساوية.
وصف لنا الروائي حميد الجنس وما هي التنهيدات من جراء ذلك فكان بارعا حقّا. حيث كان يشرح لنا ما يقوله سيغموند فرويد عن الآيروس . ورغم ذلك فإنّ المرأة لا يمكن لها أن تفضل الركون في سوق الهوى مهما كانت الديانة التي تحملها لأنّ كرامتها هي التي تُحدّد ذلك وليس الدّين. فلا يمكن لها أن تبيع الجسد مقابل حفنة دولارات لو أنّ العامل الإقتصادي الذي أشار له ماركس يسعف هذه المرأة في أن تذود عن هكذا فعلٍ شنيع . ومع هذه وتلك فأنّ البغي موجود منذ معبد إيزيس إلى معبد اللاّة والعزة ، إلى هذا اليوم حيث أبسطُ مواخير بلدان الشّرق المتمثلة في حيّ الطرب في البصرة والكمالية في بغداد وما أكثرها في مصر العروبة نتيجة الظلم الواقع على المرأة بسبب الصّراع الطبقي .
يلتقي مظلوم بغنودة لقاءاَ إنتشائياً مثيرا تصرخ فيه الرّغبة قُبلاً وتمسيدا وتعشيق أعضاء في الليل منير العاشقين حيث سراج الخدر الحقيقي للحياة الجنسية بين طرفي الرغبة والتي تـأتي جزء منها على شكل خيالات وفي الجزء الآخر تستلهم من نماذج أدبية وأساطير أو من مشهاهد أفلامٍ ظلّت تضرب في الذاكرة الجنسانية . وماذا يفعل مظلوم الكادح الفقير اتّجاه غنودة وأفعالها ( الشيطان تكفيه عشر ساعات ليخدع رجلا، والمرأة تكفيها ساعة واحدة لتخدع عشرة شياطين ) فلابدّ أن يستجيب مظلوم لهذا الإغراء الغنودي وما أحلى الإصابة بالعشق في هذا العمر الشبابي الوقور الذي جعل من مظلوم أن يحس بهذه الرغبة في العيش التي تولد فيه ثانية وثالثة وفي كل مرة يدركُ فيها طعم الرعشة وسعادة الدخول فيها ولمس كوامن بضاضتها على مهلٍ وخفة عاليتين ، إنّه الربيع فعليك أن تردّد الدنيا ربيع فلا خريف ، إنّها الحسناء التي تجلس قبالتك فعليك أن تغنّي ( أنا وأنت وبس / أنا وأنت / ولاحد ثالثنا /أنا وانت وبس) . إنّه العذاب الجميل فعليك أن تشجو بلسان العندليب عبد الحليم حافظ (موعود معايا بالعذاب / موعود يا قلبي) إنه الذوبان مع لحمها الطريّ المعافى . فعلام إذن يرتعد مظلوم . فلابدّ له أن يلتحق بنسائم الحبّ حيث قفص الترافة والجنس اللّذيذ المحرّم ، فلا تفكيرٌ ينفع ولا وجوم .


يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع في الجــــــــــــــــــــــــــزء الثاني

 

بقلم: هاتف بشبوش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *