الشاعر والأديب صالح أحمد (كناعنة): الشعر لا يمنح بريقه لكل مريد، بل هو رفيق الموهبة الصادقة – واحة الفكر Mêrga raman

 

 

 

 

 

الشاعر والأديب صالح أحمد (كناعنة): الشعر لا يمنح بريقه لكل مريد، بل هو رفيق الموهبة الصادقة

يرى الشاعر صالح أحمد أن الشعر الحداثي لم يعد يحفل بالموضوعات، بل أصبح يزخر بالوجدانيات

ــــــــــــــــــــــــ

صالح يوسف أحمد من عائلة كناعنة، يقطن في مدينة عرابة البطوف – قضاء عكا، في فلسطين المحتلة عام 1948. وعى على الدنيا ليجد نفسه فرداً من أسرة عريقة، بدأ مجدها يخبو شيئاً فشيئاً في ظل المتغيرات السياسية والاجتماعية، وليجد والده الراحل، يتحدى واقعه ليكون أول رجل يخرج للعمل في أسرتهم التي كانت يوماً ما ذات أمجاد، ليعيل أسرته ذات العشرة نفوس.

صالح أحمد (كناعنة)

وصالح أحمد هو الثاني بين أبنائه العشرة، سبعة أخوة وثلاث أخوات، إذ لم تعد الأرض تفي باحتياجات الجميع في ظل المضايقات والتضييقيات على الإنتاج الزراعي الذي حرصت دولة إسرائيل على إبقائه في دائرة زراعة البعل (بدون ري) ما أضعف المحصول وقلل من جودته، وفقد وزنه مقارنة مع النتاج الزراعي الحديث. 

قضى صالح أحمد طفولته في عرابة القرية الزراعية التي باتت تنمو بسرعة، لتتحول إلى مدينة بعد سنوات، وللحق يقول: أنها لم تمتلك مقومات المدينة الحقيقية حتى الآن فالبنى التحتية فيها ما زالت لصيقة بمعالم القرية أكثر.

تعلم المرحلة الابتدائية في مدارسها (عرابة القرية)، ثم انتقل إلى مدينة عكا ليدرس الثانوية ومنها إلى مدينة حيفا حيث تخرج من كلية إعداد المعلمين في موضوع التربية الخاصة، وبعد ذلك بسنوات، بدأ يشعر بشوق شديد لدراسة اللغة العربية، فالتحق بجامعة تل أبيب، فنال اللقب الأول في اللغة العربية، ودرس للقب الثاني، ولكنه لم يكمل بسبب ظروف خاصة وقاسية.

في عكا تفتح وعيه على معنى المدينة، فعكا مدينة التاريخ والعراقة، إلى جانب الانفتاح على الحياة بكل زخمها وتطوراتها، عكا العربية الزاخرة بالأمجاد والحضارات، الراقية بأهلها، الذين تمسكوا بها وبمعالمها وما زالوا، وما زالت عكا بفضل صمودهم تحافظ على وجهها التاريخي والحضاري إلى يومنا هذا، رغم إقامة عكا اليهودية الحديثة بعماراتها وأبنيتها وشوارعها الحديثة، والتي جعلت منها مدينة تنبض بالحياة، خاصة وأن أهل عكا العرب استطاعوا أن يمتلكوا قسماً كبيراً من أبنيتها الحديثة فأصبحوا جزءاً من نبضها الراقي المتفتح على الحياة.

كما تفتح وعيه على معنى العصامية، حيث سكن في غرفة من غرف المسجد الكبير (مسجد أحمد باشا الجزار) وبدأ يعمل كل يوم أحد (يوم العطلة الأسبوعية في مدرسته “تيرسنطة” التبشيرية) في أعمال البناء ليساعد في مصروفه، ويخفف بعض الحمل عن والده.

 كما بدأ يتفتح وعيه على القراءة، فكان يدخر من مصروفه القليل ليشتري كتاباً كل أسبوع للقراءة، إضافة إلى ما كان يستعير من مكتبة المدرسة، وقد كان تعطشه للقراءة يدفعه ليقرأ أي كتاب تصل إليه يده، ولكن شغفه بقراءة القصص والروايات والشعر الكلاسيكي كان الأقوى. وهكذا بدأ يتفتح وعيه على الثقافة والحضارة، ومعها وعيه وفهمه للحياة، فكان شبابه، شباباً هادئاً، موزعاً بين الدراسة والعمل، فلم يكن يقبل أن يمر عليه يوم عطلة بلا عمل.

حرص صالح أحمد أن يكون الزوج الطيب الحنون، وأن يدفع زوجته لتكمل دراستها، ولتصبح مربية في روضة الأطفال. كما حرص على توجيه أبناءه وبناته للعلم والثقافة، فحرص أن تكون مكتبته البيتية، شاملة، وزاخرة بقصص الأطفال، والناشئة الملائمة لكل الأجيال.

حوار مع الشاعر والأديب صالح أحمد (كناعنة)/ خالد ديريك

وضع اللبنة الأولى لتكوينه الأدبي في وقت مبكر: منذ طفولتي المبكرة كنت مولعاً بالقراءة والكتابة، فقد كنت أمشي وأنا أرفع إصبعي الشاهد وأكتب على الهواء كل كلمة تعلمتها في المدرسة، وأنا أتهجاها حرفاً، حرفاً بصوت مسموع، وأحياناً أنغّمها بصفير من شفتي. كان الناس يضحكون وهم يرونني، وأسمع بعضهم يهمس، هذا ولد فيه مس من الجنون! وكان أبي يسمع هذا منهم فيعلق على كلامهم بالقول: بل ولدي عبقري وسترون. رحم الله والدي، لقد آمن بذكائي منذ صغري، ولكنه لم يرد لي أن أكون كاتباً، كان يحلم أن يراني محامياً.

في المرحلة الابتدائية بدأت أكتب خربشاتي، وكان معلم اللغة العربية يقول لي: ستكون كاتبًاً وشاعرًاً يوماً ما يا ولد، فدفاتري الأولى كانت ملأى بالخربشات التي كنت أسميها شعراً، ولم تكن سوى خيالات وصور حسية من واقع حياتي البريئة. فقد كنت أعود من المدرسة لأرعى بضع شياه (لم يزد عددها عن العشرة يوماً) تعيننا على العيش، وكنت أدوِّن انطباعاتي عن الطبيعة وتفتحها أمامي يوماً بعد يوم، كما كنت أدون ما أسمعه من أبي وأمي وجدي عن وضع الأسرة الذي انقلب رأساً على عقب من أسرة عريقة ثرية، وجدت لها سطوتها وهيبتها ونفوذها إلى أسرة مكافحة في سبيل لقمة العيش.

في المرحلة الثانوية (التوجيهي) بدأت أكتب شعراً حقيقياً، وكان مدرس اللغة العربية ينقح لي كتاباتي ويشجعني، وبدأت أنشر بواكير قصائدي في الصحف اليومية.

لا يؤمن بما يسمى بالوحي الشعري، ومن تجربته خاصة يقول: إن الشاعر وهبه الله حسًاً مرهفًاً، ووعيًاً محلقًاً، وروحاً شفافة، فهو يختزن ما يدركه حسًا ووعيًا، ويذوته فيعيشه روحًا، ليتولد عنه طاقة فكرية تتفجر إبداعًا ً تعبيريًاً لا يقدر عليه سواه ممن لم يهبهم الله ما وهبه من طاقات الحس والوعي، والقدرة على تذويت التجارب الحسية والحياتية، والتمازج معها وبها وجدانيًا لتتولد فكرًاً منغمًاً ومموسقًاً بحسب نبض حسه ورؤى وعيه وخياله معاً. لذا لا إبداع بلا تأمل، واختزان تجريبي، واستنطاق لمكامن الشعور، الأمر الذي يتنافى تماماً مع ما يسمى (الوحي الشعري)

وأرقى حالات التعبير عنده هي حالات الصفاء الوجداني، حيث تمتلك الشاعر حالة من التجلي الشعوري والوجداني، فيجد الكلمات تنسكب من وعيه بكل عفوية وارتياح، وكأنما هي تكتبه أكثر مما يكتبها!

أو حالات التجلّي الشعوري والحسي وسيطرتها على وعي الشاعر بالكامل؛ في حالات الانفعال القوي والشديد تحت تأثير حدث وتجربة مؤلمة أو سعيدة –على حد سواء- … فتجعله يبوح بمكنون شعوره مقروناً بإرهاصات تجربته، وقوة تأثير الهبَّة الشعورية المصاحبة للحدث، فتدفعه دفعاً للتعبير عنها، وسكب انفعالاته ومشاعره خلالها، هذا في حالات الانفعال الشديد، فكثيراً ما يحملنا حدث ما على التعبير عن انفعالنا معه وبه بقوة، لا شأن لها بالوحي ولا بالخيال، بل هو الوعي والانفعال والتأثر، مقروناً بالثقافة والمخزون التجريبي واللغوي.

يرى الشاعر صالح أحمد أن الشعر الحداثي لم يعد يحفل بالموضوعات، بل أصبح يزخر بالوجدانيات، التي تعني بحقيقة أمرها الكلّيات الحياتية، التي يعبر عنها كل من زاوية حسه ووعيه وتفاعله بها ومعها، بمعنى أوضح: حين أكتب عن القدس مثلاً، لا أشعر أن القدس موضوع للتعبير (أعبر عنه) بل أشعر أنها حالة أعيشها بوجداني وشعوري فأجليها تعبيرًاً، وهذا ما يفسر حالة النفور من المباشرة في التعبير التقريري، والابتعاد عنه إلى عالم التعبير الوجداني والشعوري المشبع بالوعي فكرًاً وحسًاً، لم تعد المرأة مثلاً؛ موضوعاً للتعبير وللشعر كما كانت عند نزار قباني مثلاً، بل أصبحت قيمة وجودية حياتية حسية يتماهى في عوالمها الحس والوعي لتصبح أفقًاً وجودياً يدخله الشاعر بوعيه ليعبر عن ناموس الحياة المتماهي معه.

لذا، لا أقول إنني اكتب في موضوعات محددة، بل أفتح من خلال كتاباتي آفاقاً فكرية ووجدانية وحسية، على أمل أن يلجها القارئ بوعيه وحسه ليجد نفسه في مكان ما فيها، أو خلالها. لذلك، لم يعد شعر الحداثة أحادي الصوت، بمعنى: لم يعد يتذوقه ويفهمه الجميع بنفس الماهية أو المقدار، بل يهضمه ويتذوقه ويعيشه ويفهمه، كل بحسب ما يثير في نفسه من حس ووعي.

أما بالنسبة له كشاعر وككاتب، فقد قال: يشغلني الهم العربي، هذا الهم الذي يعمق بي الجرح كفلسطيني، ويعمق بي الألم كإنسان، ويثير بي الحلم المنشود كباحث عن الحق، وكناشد للحرية، وكعاشق للحياة في هذه الدائرة الحسية والوجدانية أدور بشعري ووعي وأدبي.

كما إنه يرى لا انفصال ولا تنافس بين قصيدة النثر والموزونة بقالبيها الكلاسيكي والتفعيلي، فهذا سؤال ذكي شائك، يلخص النقاش الدائر اليوم في المدارس الأدبية والنقدية الحداثية، والذي يتمحور حول مفهوم الشّعرPoetry-والشّاعري، أو الشّعري-Poetik.

وأنا أرى أن لا انفصال بينهما إذا سلّمنا بأنّ الشّاعر بالمفهوم المعاصر؛ وكما ذكرت في مقدمة ديواني “اليوم قمحٌ…. غدًا اغنية” هو مَن تولد الألفاظ في وعيه مبلورة إلى أفاق فكرية ومعان تحمل مراقِيَ تعبيريّة تسمو باللّغة المألوفة إلى أفقٍ من الفنتازيا الفكرية المتَصَوَّرَة؛ تستثير خيال وفكر ووعي القارئ، ولا يكون الشّاعر شاعرًاً إذا لم تولد المفردات والتّعابير والمعاني في وعيه مموسقة، الأمر الذي يجعلني أجزم بأنّه الوميض الحسّي والتّصوّري والفكري الذي يميّز الشّعر عن أي جنسٍ أدبي آخر، وهو ما يكسب المفردة والتّعبير صفة الشّاعريّة، ليرقى بها إلى مرتبة الشّعر،

ويصف الوزن في الشعر بقوله: وما الوزن إلا أداة ووسيلة من شأنها أن تصقل، تضبط، وتحدد ملامح هذا الوميض وإشراقاته النّغميّة الموسيقية لا أكثر، ولكنّها أبَدًا لا تشكّل شرطًاً للمزاوجة بين الشّعريّة والشّعر، أو بجعل الشّعريّة تنصهر في بوتقة الشّعر لتولد القصيدة، مع التّأكيد على أن لا فصل بين الشّعرية والشّعر من حيث البعد التّلازمي للمصطلحين، فلا شعر بلا شعريّة، ولا يمكن للتّعبير أن يرقى إلى أفق الشّعر إن لم يُتوّج بروح الشّعرية.

وله أيضاً دواوين نثرية، أنا شخصياً، كتبت قصيدة النثر، ولي ديوانان كاملان يعتمدان قصيدة النثر الخالية من الوزن، كما إنني اكتب القصيدة العمودية (الكلاسيكية) وقصيدة التفعيلة الموزونة، ولا أجد أن الأمر متناقض، بل أجد أن روح النص وروح الحدث وروح الفكرة تفرض القالب الشعري والتعبيري بوعي منا أحياناً وبلا وعي أحياناً أخرى، بمعنى: أنني حين أمسك القلم لأكتب، لا أقرر مسبقاً كيف، ولا بأي قالب سأصوغ فكرتي، بل هي تأتي هكذا بتلقائيتها.

لذا لست مع القائلين بأن قصيدة النثر تنافس الموزونة بقالبيها الكلاسيكي أو التفعيلي، بل أرى أنها –قصيدة النثر- أضافت أفقاً جديداً للانطلاق التعبيري.

والخطر الحقيقي في قصيدة النثر برأيه، أنها حين تمارس بلا وعي شعري وثقافة أدبية، تجنح بكاتبها إلى الإغراق بالنثرية على حساب الشاعرية، فكثيرًا ما أقرأ نصوصاً تخلو من الألق النغمي، والحس الموسيقي الذي يفقدها الروح الشاعرية، كما أنه ينقص من قيمتها الشعرية.

يؤكد بأن لا جمود في الشعر، وإنما منهجية التطور والانفتاح فقط: قالوا: كل قديم كان حديث في أوانه (عصره)، وعليه؛ فكل حديث سيبدو قديماً بعد حين، فالقديم والحديث جدلية عبثية، والدليل أننا ما زلنا نتذوق الشعر القديم، ونطرب له، بل نحن إليه بأرواحنا، وحسنا التائق إلى الأصالة وإلى التذوق النغمي الموسيقي الراقي فيه، فيجعلنا ذلك ندرك أن القصيدة مهما شاخت، ستتجدد بوعينا وحسنا كأنما تولد من جديد.

التطور التعبيري والأسلوبي، يفتح أبواباً وآفاق جديدة، ويخلق أنماط تعبيرية وأسلوبية جديدة نعم، ولكنه لا يلغي ما سبقه أبداً.

ومن هنا نخلص إلى نتيجة حتمية، لا ثبات في عالم التعبير، لأن الثبات يعني الجمود، وبالتالي عدم التطور والتجديد، الذي يتنافى والحتمية التطورية والمنهجية نوع من الجمود. لذا، فإن الشعر يقبل منهجية واحدة هي منهجية التطور والانفتاح على الأفق التعبيري لضم كل جديد ومتجدد، ليواكب ركب التطور من ناحية، وليلائم الذائقة التي لا يمكن فصلها عن الواقع الحياتي المتطور.

 الشعر لا يمنح بريقه لكل مريد بل هو رفيق الموهبة: الشّاعر بالمفهوم المعاصر؛ هو مَن تولد الألفاظ في وعيه مبلورة إلى أفاق فكرية ومعان تحمل مراقِيَ تعبيريّة تسمو باللّغة المألوفة إلى أفقٍ من الفنتازيا الفكرية المتَصَوَّرَة؛ تستثير خيال وفكر ووعي القارئ، ولا يكون الشّاعر شاعرًا إذا لم تولد المفردات والتّعابير والمعاني في وعيه مموسقة.

ما يعني أنه ليس بإمكان كل إنسان أن يكون شاعراً، كما ليس من الحق بأن نقرّ بشاعرية كل كلام وسم من قبل كاتبه بأنه شعر، إذ كثيرًاً ما نقرأ كلاماً ظن كاتبه أنه شعر، وهو أبعد ما يكون عن الشعر بالمفهوم العلمي والأدبي والذوقي للشعر.

الشعر أكثر الجانرات الأدبية حساسية ورهافة، فهو وليد الحس الراقي المموسق والفكر المفارق للواقع الملموس إلى الواقع المستشعر المتذَوَّق. لذا، يصحُّ قولنا إنه لا يمنح بريقه لكل مريد أو راغب به، وإن اجتهد، بل هو رفيق الموهبة الصادقة المصقولة بوعي وحس وثقافة.

ويضيف: من المستحسن بل والأفضل، أن يكون الكاتب ملماً بأصول اللغة، ولكن لا ضير في عرض نصوصه على من يراجعها وينقحها له إن وجد في نفسه وثقافته ضعفاً في هذا الجانب، لأنه لا يؤثر على الإبداع والفكر، وما أكثر الشعراء والأدباء (ومنهم الكبار المبدعون) من يعرض نصوصه على غيره للمراجعة والتدقيق.

ينأى بنفسه عن المجاراة الشعرية ولا يحبذها، أنا شخصيًا لا أحب المجاراة في الشعر، لم أجربها أبداً، أنأى بنفسي عن كل السجالات الشعرية التي تدار هنا وهناك، أحب أن أعبِّر عن نفسي وإحساسي وفكري ومنطقي بأسلوبي، وأرى أن السجالات تنأى بالشاعر عن الإبداع الحقيقي إلى الغرور التنافسي الذي لا يثري فكره وإبداعه، كما يظن البعض خطأ، بل ينتهي تأثير سحره مع انتهاء السجال.

ومن محاسن الشعر الحداثي أنه قلل من هذه الـ “المجاراة” والسجالات، لأنه كما أسلفت وليد الوعي والحس الواعي التفاعلي، الذي لا يستقيم مع السجالات ولا يصلح للمجاراة.

كما أنه حاصر المنطق الانتمائي لغير الذات الواعية، أو هكذا يراد له، وكل مجاراة باتت لا تغذي إلا النعرات الذاتية المتمحورة على الأنا المنتفخة زهوًاً لا أكثر.

وعن وجود حالات من المحسوبية في الحقل الأدبي قال: لا يخلو الأمر من هذا وذاك، بمعنى: أن المحسوبية موجودة، وبشكل كبير؛ ويكاد يكون مسيطرًاً، والعلاقات الشخصية تفرض نفسها في معظم اللقاءات الأدبية وأمسيات القراءات الشعرية، ما يجعلها حقلاً للمجاملات والمحسوبيات التي تضر بالمستوى الأدبي والثقافي، وتصيبه بشبه شللية.

ويتابع حديثه: لو أردنا الحقيقة، فهناك ندوات ولقاءات أدبية على مستوى راقٍ، تهدف إلى تقديم الأدب الراقي، ويقوم عليها أناس يمتلكون الحس الأدبي الراقي، ويهتمون بالمستوى الثقافي الأدبي الرفيع، وهي وإن قلت، تبشر بالخير.

رأيه في الحركة النقدية بعالم العربي: الحركة النقدية في العالم العربي عامة تعاني من تعثر وتقصير، مقابل زخم كبير من النصوص والتعبير، وخاصة في مجال الشعر، وهذا أحد أسباب هذا الزخم غير المنضبط للشعر، بمعنى: أن غياب النقد المنضبط، والمسؤول والموضوعي، ترك الساحة مفتوحة على الغث قبل السمين، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن النقد بدأ ينحو نحو المحسوبية، وتحكمه العلاقات الشخصية والمزاجية وليس المنهجية والموضوعية، ما يجعل النقد وخاصة في مجال الشعر، لا يثري المشهد الثقافي، بل يساهم في حالة الهلهلة السائدة –إن صح التعبير- والنقد الجاد –إن وجد- نجده يتبع المنهج الأكاديمي، التحليلي الرمزي، الذي لا يلائم الذوق العام للقارئ العادي.

ثم يردف قائلاً: الساحة الأدبية اليوم بحاجة للنقد التعبيري، والنقد التوجيهي، والنقد التحليلي بمفهومه التبسيطي، بمعنى: النقد القادر على تحليل النص وتبسيطه لوعي القارئ، وتوجيه الكاتب إلى مكامن الضعف والقوة في نصه، وتوجيهه إلى الأفضل.

وأسمح لنفسي بهذا المقام أن أقول: أننا بحاجة إلى مارون عبود جديد، ورشاد رشدي، وجلال العشري، وعلي الراعي، ونازك الملائكة من جديد.

نحن بحاجة إلى جيل من النقاد يضبط الحركة التعبيرية ويوجهها الوجهة الصحيحة البناءة، ويثري الوعي الأدبي بمفاتيح الفهم والتحليل للنصوص الأدبية المستحقة.

وعن الكتابة المسرحية وخصوصيتها، يسترسل في حديثه، للكتابة المسرحية صعوباتها المرتبطة بخصوصيتها، وتفردها عن كل جانر أدبي آخر، فعلى الرغم من التشابه بين الجانر المسرحي والجانر الروائي تحديدًا في مجال الحبكة والحوار وتنوع الشخوص، والتطور الحدثي، إلا أن الكتابة المسرحية تبقى ذات خصوصية مميزة، تحددها ضرورة المباشرة والتكثيف، والتركيز على الفكرة المركزية، والتقليل قدر الإمكان من الهوامش والقضايا الجانبية التي من شأنها أن تشتت تركيز القارئ والمشاهد، وعليه: فإن صعوبة الكتابة المسرحية ترتبط عضوياً وفنياً بالحد من التمركز حول الذات، وتحجيم التدخل الذاتي للكاتب في إدارة السلوكيات العامة للأشخاص، وتمركزه حول الفكرة التي تتكفل بحركة الأحداث وتوجيهها، مما لا يترك مجالاً للتحليل والشرح والوصف وغيرها من المحسنات التعبيرية التي ترحب بها الجانرات الأخرى وخاصة الرواية.

لذلك فكل الأحداث يجب أن تنمو وتتوالد بصورة طبيعية تدفع بالعمل نحو الذروة إما مباشرة أو من خلال ذروات محدودة كلها تؤكد على التصاعد الدرامي، بعيداً عن الأحداث الثانوية والتفرعات أو ما يطلق عليه “السرد المستعرض للأحداث” مما يصرف ذهن الجمهور عن موضوع الصراع الأصلي ومضمون العمل.

إنتاجه الأدبي والإبداعي:

أعمالي تتنوع بين الشعر والمسرح والدراسة الأدبية. كتبت الكثير من القصص القصيرة، ونشرتها في الصحف والمجلات والمواقع، ولكنني أعترف بتقصيري في هذا المجال، إذ لم أصدر حتى الآن مجموعة قصصية، ولكنني أحضر لمجموعتي القصصية الأولى بإذن الله.

صدر لي حتى الآن:

1-أحلى نداء – شعر- 1985

2- الصرخة – مسرحية – 1987

3- سبع عجاف – شعر – 1991

4- رموز فجر المرحلة – 1998

5- مدارات الروح – شعر – 2001

6- الخماسين – شعر- 2003

7- مدن المواجع : خواطر شعرية 2010

8- العمق الفكري والفلسفي في أدب معين حاطوم… دراسة، ط1- 2011- ط2- 2014

9- مرثاة لتضاريس السّلالة؛ شعر، 2014

10- فلسفة معين حاطوم الحسّيّة في السمفُسرديّة _دراسة نقدية تحليلية- آذار-2015

11- اليوم قمحٌ.. غذًا أغنية، شعر..كانون ثاني – 2016

12- ما جئت إلا كي أغني، شعر.. 2017

13- مغامرات النحلة سالي، قصة للأطفال، 2018

وهناك مخطوطات تنتظر الطبع:

1 ـ يا قدس – شعر

2- ربيع الحكمة اللزجة.. حكم وخواطر

3- المذهبية في الأدب العربي من الجاهلية حتى أواخر العصر العباسي – دراسة

 

أحب أعماله إلى قلبه، أما عن أحب أعمالي إليّ فهذا من أصعب الأمور التي يمكن للكاتب أن يأخذ قرارًا محايدًا فيه، فكل أعمالي حبيبة إلي، لأنني أشعر بها كجزء من فكري وشعوري، ولكنني أشعر أن بعض الأعمال، لها خصوصية مميزة، مثل ديواني “اليوم قمح… غدًا أغنية” لأنه جاء بصفة مميزة وأسلوب مميز، حيث تضمن 156 ومضة شعرية، كل ومضة منها تحمل خصوصيتها التعبيرية والفكرية، يربط بينها أفق شعوري وتيار وعي فكري متجانس ومتوافق بينها.

كما أن ديوان (مدن المواجع) يحمل سمات خاصة، وهو أكثر ديوان لي حظي بتفاعل من قبل جمهور القارئين، وهو تجربتي الأولى في مجال قصيدة النثر.

وقضية الرضا عنده في مشواره الأدبي هي قضية نسبية، بشكل عام أنا راضٍ عن نفسي كشاعر، ولكن بتحفظ، لأن الرضا التام عن النفس يعني بلوغ القمة أو الكمال الذي لا أدعيه، ولا أومن أنني سأبلغه مطلقاً، من ناحية أخرى، أنا راضٍ عن نفسي في مجال الدراسات، فكتابي “العمق الفكري والفلسفي” نال تقديرًا جيدًا، وصدرت طبعته الثانية بعد مرور سنتين على طبعته الأولى، ويكفيني فخرًا أن الفيلسوف معين حاطوم،  قال أنني وصلت إلى 75% من الأفكار الفلسفية المركزية التي عالجها في ديوانه موضوع البحث، إضافة إلى أنني أحضر لمجموعة دراسات في الأدب الفلسطيني ، إضافة إلى مجموعة أشعار للأطفال، ستصدر خلال العام الحالي بإذن الله.

مقارنة أحوال (عرب-1948) مع بقية الفلسطينيين: الشعب الفلسطيني شعب المواجع، شعب الصبر على المواجهات والمضايقات اليومية، حيثما حل، ونحن البقية الباقية على أرض فلسطين التاريخية (عرب-48) نعاني أشد المواجع والمضايقات، فنحن نعيش في مواجهة يومية مع مخططات الصهيونية السرطانية، حيث تتم عملية استيلاء تدريجية ممنهجة وبطيئة للأرض، وتحويل الانسان الفلسطيني إلى مواطن يعيش القلق اليومي.

من أبسط مواجعنا، أننا نعاني من حالة الانشطار النفسي، فنحن محسوبون كمواطنين إسرائيليين، نحمل الهوية والجواز الإسرائيلي المفروض علينا، في حين أننا نفسياً وروحياً ومنطقياً ننتمي للشعب الفلسطيني، نتأثر لمعاناة كل فلسطيني على وجه الأرض، نتأثر للأحداث الدائرة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، لأننا نؤمن بعمق أننا جزء منهم، وأنهم أخوان لنا، ولكننا لا نملك لهم إلا الدعم المعنوي، والتأييد النفسي والشعوري والتضامن الوجداني المطلق، والفعلي المحدود والمحصور بالتفاعل والانتفاض في وجه العنجهية والبلطجية الصهيونية.

من ناحية أخرى، فنحن نشعر بشيء من الاستقرار الاقتصادي، حيث مجالات العمل المتوفرة لنا في الداخل، مقابل معاناة إخواننا في الضفة والقطاع حيث تشح أبواب وإمكانات العمل.

أما من الناحية الثقافية، يعانون من حصار ثقافي، حيث نجبر على تعليم الأبناء وفق منهاج تضعه دولة إسرائيل، والذي لا يتوافق في مجمله من الثوابت الاجتماعية والحضارية والانتمائية لنا، كذلك فنحن نشعر بعزلة عن عالمنا العربي فمن الصعوبة بمكان التواصل الثقافي مع إخواننا العرب ومشاركتهم المشهد الأدبي والثقافي، الأمر المتاح بشكل أفضل لإخواننا في الضفة والقطاع والشتات.

بالمحصلة، نحن شعب المعاناة، كل فريق منا له معاناته، وقد ينال حظًا ًفي مجال معين، مقابل حرمان في مجال آخر، ويبقى الأمر نسبياً.

من أشد الذكريات تأثيراً على نفسيته ومسيرة حياته، أنني أصبحت مدرّساً (معلماً) على الرغم من أنني لم أفكر ولم أحلم يوماً أن أمتهن مهنة التدريس، كنت دائماً أفكر أنني سأكون صحافيًا……كاتبًا …. شاعرًا…. ..

حدث أن مرض والدي رحمه الله، ولم يعد قادرًا على العمل، وأنا ما زلت طالباً في المرحلة الثانوية (توجيهي) وكان أخي الأكبر، قد تخرج، وتسجل للدراسة الهندسة المدنية.

أبي الحكيم، تنبه إلى وضعي، إذ ليس بالإمكان أن أدرس بالجامعة إلى جانب أخي، والموارد المادية آخذة بالنضوب، ونحن: أنا وأخي أكبر الأبناء العشرة، كنت في عطلة الربيع أعمل في مجال البناء مع أبناء عمومتي، لأساهم في مصروفات العائلة، فلم أكن أسمح لنفسي بأن يمر عليّ يوم عطلة بلا عمل، هكذا عودت نفسي.

عرض عليَّ دكتور شريف كناعنة ابن عم أبي، ورئيس جامعة النجاح في نابلس في حينه، أن يساعدني للدراسة عندهم فرفضت، لأنني لا أريد أن أجد نفسي عالة عليه، فميزانية الوالد لا تسمح، ومجالات العمل هناك في نابلس شبه معدومة.

عدت من العمل يومًا لأجد والدي قد أحضر طلب التحاق بدار المعلمين (كلية إعداد المعلمين) في حيفا، وجهزها، ويطلب مني التوقيع، بالطبع كان الأمر مفاجئا لي، فأنا لم أعتد على رفض طلب لأبي أياً كان، ولكن الأمر يتعلق بمستقبلي، أدرك والدي صعوبة الأمر بالنسبة لي، فقال: أنت ذكي ومجتهد، ولكنك خيالي، تعتقد أن الكتابة ستوفر لك معيشة كريمة، هذا حلم بعيد، بل وهم مؤكد، اخترت لك هذا المجال، لأنك تستطيع أن تدرس وأن تعمل في نفس الوقت، ففي حيقا مجالات عمل كثيرة في ساعات المساء، كما أن مهنة المعلم ستترك لك وقتاً كبيراً للمطالعة والكتابة.

وهذا ما حدث، التحقت بكلية إعداد المعلمين، وكانت المفاجأة الثانية، إذ رأت اللجنة الفاحصة بي ملائماً لقسم التربية الخاصة، وليس قسم اللغة العربية الذي رغبت به، وهكذا وجدت نفسي معلماً رغم أنفي، وصدق والدي رحمه الله، فقد قربتني هذه المهنة من الحياة، ومن واقع المجتمع التربوي والفكري، ومنحتني مساحات من الوقت لأمارس الكتابة، وفعلاً كنت أعمل مدرساً، ومحررًا أدبياً في صحيفة صوت الحق والحرية، منذ 1993- حتى 2016.. حيث قامت دولة إسرائيل بإغلاق الصحيفة.

يتمنى الشاعر والأديب صالح أحمد (كناعنة) من النخبة المثقفة العربية ورواد الأدب خاصة أن يتذكروا أن لهم أخوة في فلسطين (48) لديهم حركة أدبية راقية، تحتاج إلى دعمهم وتعاونهم ومشاركتهم.

أشكركم جزيل الشكر أخي الأستاذ خالد ديريك، وأثمن غالياً تشريفكم لي بهذا اللقاء الراقي، والحوار الجاد الهادف والممتع.

حوار أجراه: خالد ديريك

ـــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *