الرئيسية / قصة / مصائر مُبهمة/بقلم: هدى الهرمي

مصائر مُبهمة/بقلم: هدى الهرمي

مصائر مُبهمة/بقلم: هدى الهرمي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كنت أشعر بمفارقة غريبة حين وصلتني دعوة إلى مهرجان موسيقى الجاز وأنا أجهّز نفسي لسهرة استثنائية، خصوصا أنّ صديقي تميم عضو بالمجموعة الموسيقية التي لاقت نجاحا باهرا حتى ذاع صيتها بين أرجاء العالم وأحرزت إقبالا جماهيريا منقطع النظير في جميع حفلاتها المتفرّقة هنا وهناك على مدار السنة.

وها هي الليلة تقيم حفلها السنوي بمدينتي الحالمة “طبرقة” اللاصقة للبحر ذات الأجواء المتوغّلة في الشغف والمتأهّبة لطقوس الغواية في كنف الفنّ…

تميم عازف متمرّس على آلة الساكس فون، فلطالما خبرت موهبته منذ بدء تعارفنا في ردهات الجامعة وهوسه بملك الجاز لويس أرمسترونغ…كان يُعدّ موهبة فذّة منذ نعومة أظافره بعد أن تعلّم عن والده العزف على التشيلّو ولكن عبثا اختار لنفسه شيئا آخر في ولاية “لوزيانا” الأمريكية ليختزل جاذبية لون موسيقيّ اخترق القلب النابض لبلد يعجّ بالاختلاف وهو بالمهجر.

قد يبدو الأمر شاذّا بعض الشيء لضابط شرطة تعوّد الولوج في عالم قذر تستفحل فيه الجريمة والانحراف، لكن تذكرة الحفل انتشلتني من مصفوفة معقّدة وانحباس لمجرى الإنسانية لأقتفي أثر إيقاع مختلف لأكسير الحياة…

إنها الحاجة إلى التطهّر من أدران الواقع البائس وكدر التفاصيل الموحشة والقضايا المتخبطة في الحضيض وأنا أكاد انفصل عن العالم الرخو لأكون شاهدا على قسوة المصائر في قلب الظلمة والخواء الأخلاقي المتربص بأجيال متوافدة على الموبقات والعربدة بين حشيش وقتل بشع، بغاء سرى، عصابات السطو والنهب ومافيا التهريب…حتى خلتها كائنات مفزعة مكوّمة فوق بعضها البعض 

تزداد سماكة ووحشيّة كلما اشتد جوعهم ونهمهم إلى حد التناحر والسقوط المرّوع.

رن هاتفي النقال فجأة وابتلعني صوت تميم وأنا أرد على المكالمة:

_أحمد … أنا رهن الإيقاف …تورطت في قضية مخدرات…آسف يا صديقي لقد خذلتك.

_ تميم ماذا تقول ؟؟ كيف ذلك…أين أنت تحديدا ؟؟ الو …. !!

فصل الخط دون أي توضيح أو إشارة منه حتى أدرك ما يجري …

صرت أهذي وأنا انسلّ من صوتي ثم استنشق بقوة. كان وقع المكالمة صادما كلحظة دهشة أطفأت يقظتي على حين غرّة وجعلتني مشوّه التفكير …إنها الطامّة الكبرى! هل تميم متورّط فعلا، الشاب اليافع العاشق للفن، المنغمس في السعي إلى اقتناص حريته وخوض غمار الشهرة ونحت مصيره المشعّ، لكنّه بقي وفيّا لهذا البلد “تونس “يزوره بين الفينة والأخرى كمن يوقظ الأمس ويدمج الغد لكسر تابوهات الزمن …

الصدمة، وسرب الأسئلة اللعينة عالقة في رأسي …هل تميم مجرّد مستهلك! أم هو عميل لعصابة أجنبية …ماذا لو تبين أنه مرّوج قذر في أرجاء البلد !!

أكاد لا أصدق ما سمعت …ربما كان ضحية مؤامرة، كسائر المظلومين الذين احتلوا الزنزانات المتصدعة إثر اتهامات باطلة زجت بهم في قبور مصمّغمة فلم يتبق منهم إلا رائحة الأحشاء الفارغة والوجوه النافرة من ضوء الحياة…

إنني أشعر بضياع وإقفار وأنا في متاهة مربكة خلّفها وابل التخمينات فتشجنت أصابعي وأضحت منهمكة في التهام قبضتي تحت تأثير الغضب حتى بت على وشك الانهيار…

ركضت نحو خزانة ملابسي والتقطت بدلتي الرسمية ثم علقت شارتي وانطلقت خارجا محاولا السيطرة على ذعري الخاص لئلا يطفو على وجهي تعاطفي تجاه ضحيّة مصيره مبهم، لكنه يموت خلفي الآن تحت راية الواجب …

هدى الهرمي

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الطائفية كما ظهرت في الأدب الإنكليزي/ بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

تشير الطائفية في الأدب الإنجليزي إلى تمثيل واستكشاف الانقسامات الدينية أو السياسية ...

مــــاضــرَّ  قــافــلــةً كــــلابٌ تَــنــبَحُ/ بقلم: عــبــدالــناصر عــلــيــوي الــعــبيدي

  ———- بــالــمَدْحِ يَــرتَــفعُ الأمــيــرُ فــيــفرحُ فــتــراهُ يُــجْــزِلُ بــالــعطاءِ ويَــمْــنَحُ – لــكــنْ ...

أمة العرب والأمم المتحدة / بقلم: خالد السلامي

يعتبر العرب وخصوصا العراق ومصر وسوريا والسعودية ولبنان من اوائل المشاركين في ...

من عمق المجتمع، جداريات بجمالية داهشة للقاصة زلفى أشهبون/ بقلم: بوسلهام عميمر

                        ...

تخفي الهشاشة في زمن مغلق/ بقلم: مصطفى معروفي

شاعر من المغرب ـــــــــ صدِّقوا الطير إن هي مدت مراوحها في دم ...

رحل بيتر هيجز: الرجل الخجول الذي غير فهمنا للكون/بقلم جورجينا رانارد/ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

  اشتهر البروفيسور بيتر هيجز بهذا الشيء الغامض الملقب بـ “جسيم الإله” ...

القيم الاجتماعية في عشيق الليدي تشاترلي للكاتب دي اتش لورنس/ محمد عبد الكريم يوسف

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع ...

آهٍ إن قلت آها / بقلم: عصمت دوسكي

آه إن قلت آها لا أدري كيف أرى مداها ؟ غابت في ...

واحة الفكر Mêrga raman