26 يناير، 2025

واحة الفكر Mêrga raman

أدبية ثقافية عامة

اللعبة / فتحي نصيب

اللعبة

قصة قصيرة…..

 

جاءتني صورتي في المرآة لتنبهني إلى ضرورة قص شعر رأسي فتوجهت في المساء إلى محل حلاقة بجوار البيت.

ما إن فتحت الباب وهممت بالدخول حتى تسربت إلي روائح عطرية.

ــ أهلاً وسهلاً ….تفضل….

كان المحل خالياً من الزبائن فحظيت بمعاملة خاصة، اشتغل مكيف الهواء وأُلقم جهاز التسجيل بشريط ” لأم كلثوم ” هُرع الصبيُّ نحوي طالباً مني الجلوس فجلست، فتح الصبي الصنبور وجسَّ حرارة الماء ثم أومأ لي مبتسماً فدفعت رأسي أسفل الصنبور، دعك شعري بنعومة مستخدماً ” شامبو ” له رائحة جوز الهند.

جلست على مقعد آخر، طوقتني منشفة بيضاء وأحكم ربطها حول عنقي.

ــ شاي؟

ــ شكراً.

ــ قهوة؟

ــ أشكرك.

ــ سيجارة؟

ولأنهي هذا الود المصطنع أجبته: لا أغير سجائري.

أخرجت علبتي فتعمّد الحلاق أن يبطئ من حركته حتى يُشعل لي سيجارتي أولاً فشكرته.

كان الحلاّق كهلاً وبدا شعر رأسه أسود فاحما. لا ريب أنه يستعمل صبغة للشعر. فسواد شعره غير طبيعي.

انتحى الصبيُّ جانباً وظلّ يرمقني عن بعد.

انبعث صوت ” أم كلثوم ” من آلة التسجيل:

” وانتبهنا بعد ما زال الرحيق               وأفقنا ليت أنّا لا نفيق

هزّ الحلاق رأسه طرباً وقال: الله …. الله …. هذا هو الفن يا أستاذ.

أومأت برأسي علامة الموافقة وكانت هذه الإيماءة كافية ليحاضر عليّ في الفن المقارن بين عمالقة الطرب قديماً والهرج الذي نسمعه هذه الأيام.

قال: زكريا أحمد وعبد الوهاب وفريد …. لا يمكن أن يظهر أحد بعدهم.

قلت: صحيح.

قال: المطربون الآن مثل الورد الصناعي: لا لون ولا طعم ولا رائحة.

سقطت خصلات من شعري أمامي، طغى الشيبُ وانحسر اللون الأسود. كيف لم أنتبه إلى هذا من قبل؟

قال الحلاق: كانت الحياة أجمل وأكثر بساطة.

تذكرت فجأة جدة أمي، كانت طاعنة في السن وأذكر أن خصلات شعرها حمراء، سقطت أسنانها كلّها وبعد سنوات عديدة ظهرت أخرى مكانها. اعتدنا اللعب معاً، وحين أخطف منها إحدى ألعابي تولول باكية كطفلة في الخامسة وتذهب تشكوني إلى أمي فتنزع اللعبة من بين يدي وتعطيها إيّاها. نعود نلعب مجدداً وأخطف اللعبة فتعود جدتي لتولول من جديد وهكذا. إلى أن سألت عنها ذات يوم فقيل لي: لقد ماتت.

ــ حتى كرة القدم تحكمت بها بالمادة ولم تعد تمارس كهواية.

لا أعرف كيف انتقل كلامه من الفن إلى الرياضة.

 ” يقظة أطاحت بأحلام الكرى          وتولّى الليّل والليّل صديق ”

قال الحلاق: لم يعد ثمة أصدقاء في هذا الزمن.

كنـَّا شلّة واحدة وفي نفس الفصل، اعتدنا أيام العطلات أن نذهب إلى إحدى الغابات لننصب الفخاخ وأتولى تنظيف العصافير من أحشائها ثم نشويها ونشترك بتدخين سيجارة ونعود إلى بيوتنا عند المغيب.

ذكر الحلاَّق كلاماً مبعثراً عن: الزحام والتلوث وارتفاع الأسعار والبطالة والانتفاضة.

طلبت قهوة بدون سكر.

فإذا النُّور نذيرٌ طالعٌ                  وإذا الفجر مطلُّ كالحريق ”

دفع الصبيُّ أمامي فنجان القهوة، ازداد الشيب كلما سقطت خصلات شعري.

ــ نعيماً.

تناول الحلاق مرآة صغيرة ووضعها خلف رأسي، رسمتُ ابتسامة عريضة حين رأيت منطقة قاحلة في منتصف الرأس، تواطأ الحلاّق معي بابتسامة أعرض.

فرغت من الحلاقة والقهوة، وفرغت ” أم كلثوم ” من أغنيتها، نقدته أجرته وإكرامية للصبي. توجهت إلى البيت دون أن أعرف ـ حتى الآن ـ السبب الذي يدفع جدة أمّي للنواح كلّما انتزعت منها إحدى لعبي.

 

 

من مجموعة القصصية (مرايا السراب)

بقلم: فتحي نصيب / ليبيا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.