غربة الروح في ديوان (معاناة الورد والنزوح إلى ذاكرة المخيمات) للشاعر (زبوناته علي)
بقلم: عبد المجيد محمد خلف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفرش قصائد الشاعر (زبوناته علي) أجنحتها في وجه الريح، لتروّضه، وتنتقل به من عالم إلى آخر، يختلف عنه في كل شيء، عالم ملؤه الحب، الأمل، الفرح، السعادة، الحلم، وأخيراً الحرّية التي يسعى إليها البشر كلهم في هذه الحياة، وما المسافة إلا جسوراً يعبر فوقها الجميع؛ ليبلغوا أرض الحرية، حيث يحطّ الرحال نفسه في تلك الأرض، ويتسلّح الراحلون بالنسيان، ويجعلوه لغة لهم نحو الانعتاق، الانعتاق من عبودية الزمن، وقسوته التي تجلد ظهورهم بسياط من نار، ليرتفع صوتهم بالشكوى إلى السماء فقط، طالبة بارقة خلاص من كل ذلك الوجع.
حلم هارب
لا يبقى من الحياة شيء عندما تنتهي الأحلام، وتموت من دون أن تبصر النور، هي رحلة المعاناة من الجرح إلى الجرح، ومن الحلم الهارب إلى الحلم الهارب مرة أخرى، حيث الأمل بقتل المسافة، كي لا تبقى، والأمل بالدروب كي تستعجل الخطو من أجل أن يبلغ الحالم غايته المنشودة؛ في عالم بات كل ما فيه قلقاً، خوفاً، وجعاً، ودرب انكسار نحو قمة لن يتمكّن الهارب من بلوغها؛ لأنه أدار ظهره للريح، ومضى في الدرب غير المنجزة، يجرّ أثوابه البالية؛ ليقصد مخيمات العذاب الأبدي، والخيام التي نصبت فخاخها للقادمين من كلّ حدب وصوب إلى الفراغ العابق برائحة الألم؛ الألم وحده الذي يصعد صوته إلى الأعلى ليشكّل مع الرحيل لوحة تراجيدية لمأساة لن تنتهي، وأيام لا مفرّ من سياطها: “وهربنا من الحلم، كان جرحا ينزف في الظلام، أقصدك، وقصدتك يا دوميز! نصبت أشرعة وخيام، تأخذني هديلاً على هديل”.
رائحة الغياب
للغياب رائحة لا يفقهها إلا من عايشها، وتجرّع ألمها، هو وحده الذي يدفع بالعاشق إلى البحث في المجهول عن أناس كانوا في الذاكرة، يسكنون الضباب، ويتنفّسون الفجر بحثاً عن المفقودين في ثنايا القلب، ولواعجه، لينضمّ إلى ذلك القلب، ويحاول أن يتنفّس قلق السواد، وهواجسه المؤلمة، فالغائبون يمتدون على مسافة البصر، والعين تحاول رصد طريقهم؛ لعلّ خبراً يأتي مع الرياح التي تهبّ على المدينة؛ يدخل السكينة إلى قلب متلهف للقاء الذين عبروا مع غيوم الشتاء إلى حيث لا أمل بالعودة؛ فمفردات الصيف أتت على كل شيء: “حين تغيبين… أستنشقُ أطراف المدينة، أجلسُ محاذاة مخيلة الهاربين حفاةً إلى الأماني العالقة بمراياك. ما منْ كلماتٍ لقلق السواد. أتنفّس امتدادكِ، أنتظر بذهنية الأشياء…، أنا مفرداتُ غيمةٍ تعبر الصيف”.
ذاكرة الأيام
مازالت الأيام تصعد بنشيجها نحو السماء، محاولة أن يعلو الصوت، ليعيد إلى المشهد بهاءه؛ حيث كانت مدينة القامشلي (قامشلوك)؛ كما يحبّ الشاعر أن يسميها، حين أدار ظهره لها، وانطلق مع القوافل التي زرعت الطرقات كلها، وجاستها بحثاً عن حلم ضائع، ليترك أحلامه قتيلة في قامشلو، ويرسل مع كل إشراقة شمس قصائده، مع الحمام إلى أفق الكلمات؛ لتأتي تلك الكلمات مع نوروز، وتشعل الحياة بدموع الفرح بالحرية التي كان يحلم بها: “لستَ وحدك مَن يدرب الحمائم في أفق الكلمات، كي تأتي إلينا برسائل النوروز. لستَ وحدكَ مَن يزرع القمح في براري يأس العناوين، حتى نحصدَ قصائد الحرية، ولستَ وحدكَ مَن أسكنَ في خِيم النزوح و…. و…. وهجرتَ كتاباتِكَ في قامشلوك”.
في محراب الحبّ
يقف الشاعر في محراب الحبّ، متأمّلاً أن تعود تلك الأيام التي خلت، والتي كانت تجمعه مع حبّه؛ في محراب النقاء، حيث لا خيوط قلق تلوح في الأفق، ولا بوادر شقاق، حياة جميلة، لا يكدّر صفوها شيء، وحده الحبّ سيّد روحه، ومفتاح السعادة إلى قلبه الذي يتنسّم رائحة الفرح، وينشر حلمه في الدنيا كلها، ويسمع صوته إلى جميع من في الوجود، فهو الذي زرع صورتها في روح المرايا، وبقي متمسكاً بوعده لها؛ على الرغم من محاولة الغياب أن ينال من ذلك الحبّ، لكنه كان يصرّ في كل مرة أن يكسر جميع قواعد اللعبة، ويحصل على عشقه المنشود، ويمدّ جسراً من الأمل بينه وبينها، ليصل إليها، فكل الدروب تؤدي إليها، وكل الفصول، وما الحنين إلا لغة امتحنها الشاعر، واستطاع أن يروّضها؛ من أجل أن يبلغ ما يسمو إليه: “حبيبي: زرعتُ العشبَ في مراياك، فأحرقه الغياب، وحدك على الطريق، ويلبس البعدُ ضبابَ الحنين، كي لا تأتي إليَّ، السكونُ يأخذني إليك، الصخبُ يأخذني إليك؛ وإليك البرد يأخذني؛ إليك لا جسر يأخذني من ثقل الوجع: وينحدر مني المجيئ، ولا تموت المسافة. عيناك منفى لأرقي، دعي النشيد يتسرّب من الانكسار”.
عبد المجيد محمد خلف
روائي وناقد – سوريا
– ديوان (معاناة الورد والنزوح إلى ذاكرة المخيمات)، للشاعر: زبوناته علي، صادر عن مطبعة الدباغ، الموصل، 2014، ويقع في 90 صفحة، من القطع المتوسط.