قراءة في “ثورة غباء” للكاتبة نزيهة اليدالي الحسن/ بقلم: بوسلهام عميمر


بعيدا عن نظرية الفن للفن، قراءة في “ثورة غباء”
للكاتبة نزيهة اليدالي الحسن من موريتانيا
“ثورة غباء” أول منجز أدبي للدكتورة نزيهة اليدالي الحسن الموريتانية، كان كافيا ليمنحها جواز سفر تقتحم به ساحة الكتابة من بابها الواسع عن استحقاق، و أثبتت فيه باقتدار جدارتها على درب الكتاب الكبار. حملت معها هذه المجموعة القصصية، أكثر من سؤال، سواء على مستوى بناء معمارها الأدبي أو على مستوى موضوعات قصصها وما تتضمنه من رسائل ودلالات وإشارات تصريحا أو تلميحا.
ففهرس منجزها الأدبي هذا، لا يزيد عن أكثر من ثلاث قصص؛ “ثورة غباء” بأربعة وثلاثين صفحة، “الضحايا” بأربعة وأربعين صفحة و “أبواب مواربة” بثلاثة وعشرين صفحة بعد المائة. أما تيماتها، فحدث ولا حرج، وضعت الأصبع على أكثر من جرح نازف، لا يزال المجتمع الموريتاني كغيره من كثير من الدول المتخلفة أو المسماة تلطيفا السائرة في طريق النمو يعاني آثاره. فمن عالم عصابات شبيكو، إلى عالم “الفروسية”، إلى صالونات القمار، إلى الاتجار في البشر، النساء منهم على الخصوص و على الأخص القاصرات منهن، إلى عالم الشعوذة و السحر الأسود، إلى الزواج السري وما يترتب عنه، إلى “المخسور” أو ما يعرف بالراقد في البطن بسنين، إلى عالم التربية وغيرها من الموضوعات؛ سياسية واقتصادية و عادات اجتماعية وتعليمية وغيرها مما ورد بجمالية فنية في قصص هذه المجموعة “ثورة غباء”.
“الكتابة تجريب”. وهو ما نلفيه بوضوح في هذه المجموعة القصصية. أكثر من سؤال يفرض ذاته حول تجربة الكاتبة هاته، يخص بالأساس مسألة تجنيسها و حيث يمكن إدراجها؟ هل في إطار جنس القصة القصيرة، علما فهذا الجنس معروف بقصره، و بمحدودية عدد شخوصه وأحداثه و بمحدودية زمكانه. فماذا عن القصة الثالثة “أبواب مواربة” بأكثر من مائة وعشرين صفحة، هل يمكن تصنيفها ضمن القصة الطويلة جدا، أم ضمن الروايات القصيرة جدا؟ ففضلا عن طولها، هناك تعدد شخوصها، وتعقيد أحداثها، وامتداد زمانها، و تنوع أمكنتها وأفضيتها بين داخل الوطن وخارجه؟
فبجانب شخصيتها الرئيسية “ليلى” تحضر صديقتها مريم في كل محطات القصة تقريبا، كما تحضر شخصية اغلانة بأدوارها المؤثرة في مسار الأحداث بحكم تمرسها في عالم الجريمة وما راكمته فيها من تجارب، ويحضر “الشيف” باعتباره الرأس المدبرة لكل عمليات ما يعرف بالفروسية والمعاملات المالية المشبوهة، وشخصية المفوض السيدة الغظفه التي برزت في نهاية القصة تولت التخطيط للإيقاع بهما في قبضة العدالة، فضلا عن زوجي ليلى ومريم على نقيضهما تماما. أما تشابك الأحداث وتعقدها ودراميتها، فالقصة حافلة بها. فمن تحول ليلى من خطيبة مفوهة وداعية إلى الفضيلة إلى الانقلاب الكلي على مسارها، وعلاقة مريم بليلى لا رابط بين وضعيهما الاجتماعي، وكيف تطورت لدرجة اتهام مريم بسحر ليلى والسعي نحو فك ارتباطهما، إلى نبوغهما التعليمي و نيلهما أعلى الشواهد، إلى انغماسهما في حمأة عمليات النصب والاحتيال والقمار في الكازينوهات والكباريهات المصنفة، إلى الفرار من العدالة، إلى سقوطهما أخيرا في كمين محكم، ساهم في نصبه كل من لارباس زوج مريم والمحامي وأحد الأحزاب السياسية أغراها بأن تكون على رأس لائحته الانتخابية والاعلام. كان هدفهم واحد، استدراجهما للعودة إلى البلاد ليتم القبض عليهما في المطار بمباركة والديهما اللذين أرهقاهما ماديا ومعنويا. معترفة بكل ما اقترفته في حق ضحاياها تارة بلعب دور جنية وتارة عرافة وقارئة الكف وانخراطها في المخطط الجهنمي بخصوص المريض الميؤوس من حياته بسرقة ملفه من أحد المستشفيات الأوربية، و كذا العربي الذي وعدوه بمضاعفة أمواله والمرأة العقيمة التي أوهموها بأنهم فهموا علتها وأن عليها تحويل الأموال إلى حسابها وقس على ذلك مما اجترحته يداها في حق ضحاياها.
أبانت الكاتبة عن حنكة عالية في نسج خيوط قصصها الواقعية والاجتماعية الثلاث، بما تتميز به لغتها من بساطة من قبيل السهل الممتنع، وطبعا بدون إخلال بلغتها الأدبية السلسة والمنسابة، وبدقة تصوير فضاءات مسرح العمليات، ووصف الشخصيات ورصد مشاكلهم وتحدياتهم وآمالهم وآلامهم، وكذا كشف أحوالهم النفسية بما يجعلهم أقرب إلى الواقع وما يعج به من تشظيات وانكسارات، التزاما بقواعد هذا الفن المتعارف عليه و الذي ظهر كردة فعل ضد الرومانسية الحالمة.
إنها غير قصص الخيال تسمح للكاتب بالسياحة في عوالم غير محفوفة بالمخاطر. فالكتابة الواقعية تكون على تماس بالواقع وتناقضاته وبشرائحه المجتمعية المغتنية والمنكوبة، فحيثما يكون الفقر المدقع يكون الغنى الفاحش، مما يضطر الكاتب وإن كانت الأسماء مستعارة، يقدم لعمله الأدبي بتأكيده، على أن أي تشابه في الأسماء أو الاحداث، إنها فقط محض صدفة، كوسيلة للتخلص من مقص الرقيب بتهمة التشهير والإساءة إلى الغير.
الكاتبة فضلا عن تمكنها من ناصية صنعتها الإبداعية في الكتابة القصصية، فإنها من خلال موضوعات قصصها التي اشتغلت عليها، تؤكد على قصدية الكتابة و رساليتها وانشغالها بهموم مواطنيها وانصهارها في قضايا مجتمعها، بعيدا كل البعد عن اتجاه الفن للفن. فتناولها لموضوعة “المخسور” أو ما يصطلح عليه “الراكد” أو “الراقد”، تستهدف من ورائه تسليط الضوء على أكثر من معضلة اجتماعية، وتصحيح أكثر من قضية ثقافية ودينية. إذ اختلف الفقهاء في مسألته الغريبة حول أقصى أمد للحمل، بين سنتين و ثلاث سنين ليستمر حسب بعضهم إلى أربع سنوات، وأوصلها الزهري إلى ست سنوات، علما فعلى المستوى الطبي لا أساس لكل هذا النقاش. فالمرأة لا يمكن أن يزيد حملها عن اثنين وأربعين أسبوعا إلى ثلاثة وأربعين، بعدها فمآل الجنين الموت لا محالة. إنها مجرد تبريرات للحمل خارج الزواج وكحيلة للتستر على خطيئة عابرة كما تورده الكاتبة على لسان شخوص قصتها. في ص63-64 في جواب كبير القبيلة ردا على استنكار إمام جامعهم لموقفهم بأنه مخالف للشرع وتلاعب بالأحكام، فأجابه بصريح العبارة “أيها الامام لو كنت من قبيلتنا لكان لك رأي اخر .. الهدف هنا هو ستر ابنتنا. فقد وجدنا ضالتنا في أجل سبع سنين”63. وزاد قائلا، “صدقني أيها الامام أنا مقتنع بما تقول ولكنها سلطة المجتمع وقرارات القبيلة ما زالت متحكمة فينا”64. وكذلك كان الموقف الصارم من الطبيب بقول أخ إدوم ارجالها “هل تطعن في الثوابث الدينية؟ إن “مخسور” حكمه معروف شرعا ويلحق إلى سبع سنوات وأختي قد تطلقت منذ خمس سنوت”. علما فالموقف الطبي يتماهى مع موقف الشرع الإسلامي نفسه، لما يحدد عدة طلاق المرأة في ثلاثة أشهر وعدة الأرملة في أربعة أشهر للحسم في قضية حمل المرأة من عدمه.
فالكاتبة على صهوة إبداعها، تعالج ما يعتمل في جسم واقعها من ظواهر اجتماعية، لا يزال عامة الناس متشبثين بها، والأخطر متلحفة برداء الدين، كقولهم بالزواج السري لإضفاء الشرعية عليه، ومن تم إخراس ألسنة السوء المتربصة بحمل النساء. فالكاتبة لما تتناول هذه الظاهرة، ليس بهدف تبريرها بقدر ما تنبه إلى ضرورة نبذها. يبلغ بها الغضب مبلغه لتتساءل مستنكرة على لسان شقيق الميمون، بقوله قي ص83، “هناك سؤال محير لم أجد له جوابا حتى الآن .. هل إشكالية “مخسور” مطروحة في بقية دول العالم أم تنفرد بها بلادنا؟”
الإبداع اختيار، لما ينخرط بوعي وبمسؤولية في حمأة لظى ما يكتوي به المجتمع، لا بد أن يدلي بدلوه أدبيا في قضاياه التي تؤرق مواطنيه، وتفت في عضدهم بهدف تسليط الضوء عليها والبحث في سبل تجاوزها والإسهام بفعالية في حلها، أو على الأقل طرح الأسئلة بشأنها وتوجيه الأنظار إلى خطورتها. وإن كان فالإقدام على هذا النوع من الزواج السري ليس من باب الترف دائما. إنه يعكس معاناة أخرى عادة ما لا يقاسيها في صمت إلا ضحاياها من المطلقات أو العوانس، ترصد الكاتبة بعض تجلياتها، مما يدرج في دائرة الطابوهات. إنه كحل وإن كان مؤقتا تنفس من خلاله المرأة عن نفسها. فالمطلقة في العادة، هي من يؤدي الثمن غاليا ماديا ومعنويا، إذ الرجل سرعان ما يقلب الصفحة، و يفتح علاقة جديدة ليعيش حياته بشكل طبيعي، وكأن شيئا لم يكن. فهي من تتحمل مسؤولية الأطفال و تنشئتهم حتى يبلغوا أشدهم. وبالمقابل ماذا يتحمل الرجل بأكثر مما يفرضه عليه القانون من نفقة، بعد أخذ ورد ودعاوى بتقليصها وكأنه يدفعها لأعدائه وليس لأبنائه؟
فماذا عن حق المرأة الطبيعي؟ إلى الجحيم كل احتياجاتها البيولوجية، تقول أمينة بطلة قصة “ثورة غباء”، وهي بين مطرقة قبول عرض الحافظ بالزواج السري وسندان رفضه “صاح بها ضميرها: “توقفي، انتبهي، لا يجوز الرجل متزوج وأب، أنت سيدة محافظة، لا يليق بك في مثل هذا العمر. صاحت بها أنوثتها: “ارحميني يا هذه، ضقت ذرعا بنظرياتك عن المحافظة والأخلاق وقمت بوأدي حية، ما الذي تخافين منه؟11-12. وتزيد قائلة “إنها الضرورة تبيح المحظور في العرف” تمتمت أمينة وهي تنسق مع الحافظ موعد اللقاء وكيفيته“14. القصة لا تتوقف عند حدود الطلاق، إذ تعرج على قضية فشل زواج أمينة الأول من زوجها “سيدي”، إذ تقر بأنه لم يكن لها فيه نصيب، بما أنه تم بتنسيق بين عمتها وأمها، فقد كانت مرصودة له منذ صغرها. فمن يوم طلاقها قررت أن لا تتزوج غير من يحبها ويقدر أنوثتها. ذلك ظنها بالحافظ قبل أن يُخيب آمالها. فلم تكن بالنسبة إليه سوى رقم عابر لا أقل ولا أكثر، مما جعل صدمتها أكبر. بتعبير بليغ عبرت الكاتبة عن ذلك قائلة “لم يعتبرها أكثر من احتياطي استخدمه لما غاب الأصل، وعند عودة الأصل انتهى دور الاحتياطي .. هذه هي قوانين زيجات السر “22. كما لم يفتها في قصتها هاته أن تعرج على آفة أخرى تتعلق بهذا الزواج السري المقنع على لسان إحدى صديقات أمينة بقولها “أنا لست مثلك فأنت لا تستثمرين في جمالك، لقد وقعن مثل غيري من النساء على كنز: إن موسم الزواج السري في العاصمة يزدهر في بداية العطلة الصيفية وينتهي مع الافتتاح المدرسي“37
قبل الختم، لا بد من التأكيد على جملة قضايا، تميزت بها مجموعة “ثورة غباء” نوردها كالآتي:
أولاها تركيز الكاتبة على ظواهر اجتماعية بعينها (المخسور أو الراقد، الزواج في الخفاء، الانحراف في سن فوق الأربعين) إنما لتؤكد على ضرورة انخراط الإبداع القصصي في التنوير المجتمعي والتطوير. إنها ظواهر لا تزال تعشش بين ظهراني المجتمع وتنخره، لا بد من القطع معها خاصة وإنها محل معارضة حتى من قبل الفقهاء المتنورين، يفندون كل ما يعتمد عليه مؤيدوها، معتبرينها نوعا من التعتيم على فساد أخلاقي وهروبا من القانون. إنها تؤكد على لسان بعض شخوصها أن الصراع على أشده بين التقليد والتحديث، حول الانتقال للعيش في إطار دولة مركزية بما تعنيه، يتحمل كل فرد أمام القانون جريرة جريمته، بعيدا عما هو سائد يختصر جزء منه ما نجده في ص167 “هذا هو قانون المجتمع. يخطئ الفرد ويدفع الجميع ثمن ذلك الخطأ بحجة الستر والمروءة وصلة الرحم”
ثانيها سؤال تربوي في غاية الأهمية، يتعلق بالتحول الكبير الذي طرأ على مريم و ليلى بطلة القصة الثالثة، التي انقلبت مائة وتمانين درجة، ورد على لسان صديقتها “ليلى التي كانت تقف على المنابر فتزلزل كلماتها المؤثرة والمعبرة القلوب .. ينتهي بها الامر لاعبة قمار ومرابية وصاحبة سوابق؟ ليلى التي عارضت حافظ إبراهيم في قوله أنا البحر ….. وعارضت علي محمود طه في قصيدته لفلسطين:
أخي جاوز الظالمون المدى ++++ فحق الجهاد وحق الفدا” 97
تحول في حقيقته يستدعي أكثر من سؤال. تحول ليس كأي تحول يطرأ على أي واحد من عامة الناس. إنه تحول من العيار الثقيل، يهم نخبة المجتمع وزبدته. فليلى ناقشت رسالة تخرجها في الدكتوراه ببحث عنوانه “المال والمجتمع في الفكر الخلدوني”، وصديقتها مريم كان موضوع بحثها “الأخلاق ومكانها في النظرية السياسية”121. مما اعتبرته عصابات الفروسية وشبيكو “صيد ثمين “ليلى بنت الناجي، دكتوراه في الفلسفة، شاعرة وأديبة، تلقب بالليدي في أوساط “الجو” تصرف المال بجنون” 158
فما الذي دهاهما ليسقطا في أحضان الجريمة المنظمة، و تصبحا أداة طيعة في يد عصابات تنفذان ما يطلب منهما بالنقطة والفاصلة، ويخالفان كل القوانين التي تجرم أفعالهما، ويهددان بالسجن في أية لحظة، وينصبان على البسطاء في إطار ما يعرف بالفرسان والفارسات مقابل عمولات خيالية؟ “لقد بلغ استهتار ليلى بالقيم والأخلاق التي تربت عليها حدا لا يطاق، لدرجة أنها صارت تتقمص عدة شخصيات في آن واحد. فهي في المساء فتاة ليل تنتقل بين الكازينوهات والبيوت السرية، وفي النهار مشعوذة .. وبين الأوقات المرأة الخارقة صاحبة البركات التي ترقي المرضى وأصحاب المس عن طريق الهاتف”197
ألا يستدعي هذا التحول من النقيض إلى النقيض، وضع أكثر من علامة استفهام حول الشواهد الجامعية؟ أليس من المفروض أن تكون عن جدارة واستحقاق، تخول للحاصل عليها فكرا مستنيرا، وعقلا كبيرا، وبعد نظر ووضوح رؤية، وشخصية مستقلة يصعب عليها تسليم قيادها لكل من هب ودب، ربما حتى لمن لا علم له ولا معرفة؟ ثم ألا يدعونا هذا التحول المثير لمراجعة مجموعة من المفاهيم التربوية لطالما تناقلناها عبر عصور. فوالداهما لم يقصرا في تربيتهما على القيم، وعلماهما حتى نالا أعلى الدرجات، حتى إن والد ليلى السالك “اختار لها اسم ليلى الاخيلية متمنيا ان تكون الوافدة الجديدة مثل ليلى الاخيلية ادبا وشعرا وحضورا في المحافل“.106 صحيح تطبعت في بداية عهدها ببعض ما تمناه لها، إذ كان تأثرها كبيرا بصالونات الأميرة نازلي ومي زيادة و سارت على دربهما بحفز من والدها، لكن سرعان ما انقلبت حياتها رأسا على عقب، فكانت النهاية المأساوية بالحكم عليها وصديقتها مريم بالسجن، إثر غرقهما في أتون عالم الجريمة؛ قمار ومعاملات مشبوهة ونصب واحتيال واتجار في البشر وغيرها مما يخطر على البال وما لا يخطر، لدرجة أن تطلب من مريم بعد أن شدت على يديها بقولها “استثمري في جمالك وذكائك وأغلقي باب الماضي وارم مفتاحه وراء ظهرك وتأكدي أنني بعد ستة أشهر سأجعلك تنتقمين من زوجك مغلاة شر انتقام“169
ثالثها الكاتبة لم يفتها أن تسجل مجموعة ملاحظات بشأن قطاع التعليم، كجدوائية الشواهد العليا إن لم تكن حرزا تؤهل حاملها، على الأقل كما يقال إن لم تغنه تحفظ ماء وجهه، تقول في ص128، “دخل لارباس زوج ليلى عالم السمسرة والإيراد والتصدير وناقش أطروحة الدكتوراه التي رماها في درج المكتب لعدم اكتراث، بعد أن دخل عالم المال والاعمال البعيد كليا عن تخصصه”
رابعها مجموعة قصصية أقل ما يمكن القول عنها أنها وثيقة جد هامة، قد يجد فيها الأنثروبولوجي ضالته لدراسة المجتمع الموريتاني، وخاصة ما يعتمل في جسمه من شد وجذب بين النزوع إلى المحافظة على النظام القبلي التقليداني والسعي نحو الدولة المركزية و الحداثة والاحتكام إلى القوانين المعمول بها دوليا في النزاعات والمحاكمات والمعاملات المالية، فكم منها لا تزال رهينة لاجتهادات عتيقة، مما يجعلها تتم إلا إذا كانت مشفوعة بالرأي الفقهي.
خامسها وثيقة تطلع الباحث على طبيعة الإنسان الموريتاني تقول في ص103″الموريتانيون من أكثر الشعوب طيبة ونسيانا للأخطاء، فقط لا تجاهري بالكبائر والمعاصي والإجرام في المجتمع، عيشي عالمك الموازي في الخفاء ولا تبالي“، أضف إليها كشفها عن تجارة السحر وما تدره على محترفيها من أموال طائلة مستغلين سذاجة تفكير البسطاء، تقول “كانت لهفة إدوم ارجالها على الانجاب تزداد كلما تقدمت في العمر وكانت تحمل الزهرة مسؤولية تبطيل مفعول “الحجاب الخارق” الذي دفعت فيه ناقتين“47 وغيرها مما فصلت فيه بفنية عالية.
سادسها وثيقة كافية لتطلعنا في قصتها الثالثة “أبواب مواربة” على مجموعة من المعاملات المالية بلغة أدبية سلسة منسابة، كتعريف القراض و المضاعف والمرابحة التي تحولت اليوم حسب الكاتبة إلى “عملية مرتبطة بالمصارف ومحاطة بكثير من الشبهات، وإن كان العلماء قد وجدوا لها صيغ شرعية كثيرا ما يتم التحايل عليها” 140 و تبقى حسب إحدى محترفات النصب “أنجع الحلول وأكثرها انتشارا وأوفرها دخلا ولكنه يحتاج إلى إرادة وشجاعة وجرأة. ستنضمين إلى منظمات “شبيكو” أو تلتحقين بركب “الفرسان والفارسات .. أؤكد لك ستربحين المليارات في الداخل والخارج“141
سابعها وثيقة تنبئ عن الوضع السياسي كما هو في جل البلاد العربية ممن ترفض نخبتها أي مساس بمصالحها تقول “لقد نجحت هذه الطبقة في القضاء على مبدأ من أين لك هذا“، والكشف على أن أكثر السياسيين حتى لا نعمم إنما تفانيهم في الترشح للانتخابات ودخول المعترك السياسي سوى “لضمان الحصول على جواز سفر دبلوماسي يسهل عليها عمليات التهريب والفروسية“198 وقس على هذا، فمصالهم شتى مادية ومعنوية، و للأسف لم تكن السياسة أبدا بقرة حلوبا ووسيلة اغتناء، بقدر ما هي فعل تطوعي لخدمة الوطن و المواطنين.
ثامنها، قد يجد فيها الناقد الأدبي الحصيف مادته الخام يشتغل عليها، لا من ناحية مبنى قصصها ولا من جهة موضوعاتها. فالكتابة الإبداعية مهما كانت قوة موضوعاتها، وعمق دلالاتها وإشاراتها، وبعد نظرها وانخراطها في التغيير المجتمعي، لن تكون ذي بال، إذا افتقدت لماء الإبداع وعذوبته. فالمجموعة القصصية “ثورة غباء” حافلة بالتناصات من مختلف الحقول والمجالات. فنجد قصيدة مانع العتيبة يصور حوارا بين أنثى حالمة ورجل واقعي مطلعها:
قالت أحبك قلت: لا تتسرعي ……. فالحب حتى بابه لم تقرعي
قالت: وهل للحب باب مغلق …… فأجبت: لا تثقي بباب مشرع
ومن تراثنا الإسلامي تقول على لسان ليلى، “ماذا؟ هل جننت أنا أسترجع ما وهبته لك؟ هل تريدين مني أن آكل ما تقيأت“147 مستحضرة بشكل ما قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن العائد في صدقته إذ شبهه بالكلب يعود في قيئه.
ومن الشعر القديم تستحضر الكاتبة أبو العتاهية على لسان ليلى قبل انحرافها “فلنستمتع بجلستنا هذه ولا تجعلنا نلطخها بتبعات هذا العالم المظلم .. فهذا أبو العتاهية يقول:
دع الاقدار تمضي في معيتها ++ ولا تنامن إلا خالي البال
ما بين غمضة عين وانتباهتها ++ يصرف الامر من حال إلى حال
كما وظفت الاغنية في القصة، أغنية “لبابة بنت الميداح” تؤدي كلمات الشاعر المختار السالم ولد أحمد سالم:
لئن جنيت على تفسي سأعترف … قد يغفر الله للعشاق ما اقترفوا
ذوبي على لغتي الخضراء راضية … فالحزن يحلو إذا أهمل الأسف32
وأيضا بمهارة المتمكن من ناصية صنعته، نجد حضور الأمثال، تقول في سياق حديثها عن معلاه ومستقبله المشرق الذي كان ينتظره، لكن “حياته انقلبت رأسا على عقب بعد أن قاده حظه العاثر إلى الزواج من مريم التي “علت عينها على حاجبها ففسد واجبها“، فضلا عما تضمنته من حكم كقولها “كل ما ظهر في غير وقته سينتهي في غير وقته“31. فالمجموعة القصصية مفعمة أيضا بالتعبيرات الجمالية، تنم عن علو كعب الكاتبة في الفن القصصي، النماذج أكثر من أن تحصر. وعلى لسان اغلانة لما قرر الشيف التخلص منها “لكن اغلانة ليست لقمة سائغة ولا لباسا يرتديه الشخص متى شاء ويخلعه متى شاء” 183.
كاتب من المغرب