الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / أنسي الحاج وخواتمه الكيانيّة 10/مادونا عسكر

أنسي الحاج وخواتمه الكيانيّة 10/مادونا عسكر

 

أنسي الحاج وخواتمه الكيانيّة

ذات (5)

 

عندما نبحر في فكر الفلاسفة وولوجهم في تعريف الحقيقة تتجلّى لنا حقائق عدّة من خلال طروحاتهم ومفاهيمهم. ولا يمكننا الوقوف عند تعريف واحد فلكلّ منهجه الفكريّ والأيديولوجيّ، إلّا أنّ النّمط التفكيري الفلسفي يصبّ في هدف واحد، ألا وهو البحث عن الحقيقة.

يقول أفلاطون: “يجب أن تذهب إلى الحقيقة بكلّ روحك”، ويذكر سقراط أن لا نقترب من الحقيقة إلا بقدر ما نبتعد عن الدنيا. وأتت الأطروحة الكانطيّة لتعتبر أنّ الحقيقة بناء عقليّاً يتمّ بتعاون العقل والحواس. فالحواس تمدّ العقل بالمعرفة وهو بدوره يوظّف مقولاته لإعطاء المادّة صوراً إبيستيميّة. وبالتّالي يبيّن كانط أنّ الحقيقة ليست على نحو جاهز لا في الواقع ولا في الفكر، وإنّما الحقيقة تفاعل دياليكتيكي بين معطيات التّجربة والمفاهيم العقليّة. أما مارتن هيدجر فقد حاول أن يتجاوز أطروحات الفلسفة التّقليدية بأن تساءل حول الكيفيّة الّتي يمكن أن تكون بها الحقيقة استنساخاً للواقع وترجمة أمينة له.

أسّس الفلاسفة خطابات متعدّدة حول الحقيقة شكّلت أساساً فكريّاً ومنطلقاً أيديولوجيّاً وقاعدة تحرّك الكيان الإنسانيّ باتّجاه البحث عن الحقيقة. وأمّا الفكر الأنسي فذهب إلى كسر القاعدة، وحلّ مكان البحث التّساؤل عن أهميّة البحث عن الحقيقة. “البحث عن الحقيقة، نقول. من يتحمّل الحقيقة؟ لماذا البحث عنها، لماذا الحقيقة ولا أحد- ابتداء من الطّفل و”حقائق” الحياة، وانتهاءً بالمريض وحكم موته، مروراً بالعاشق وحقائق محبوبه بين العيوب الجسديّة والخيانة- لا أحد، يتحمّل الحقيقة.”(*)

يطرح أنسي الحاج فلسفة الحقيقة وأهميّة البحث عنها ببساطة السّؤال، ودهشة العارف، وشقاء الباحث المتعب، وحزن الإنسان المنهك من قسوة الحياة. ولئن طرح أنسي فلسفته من عمق خبرته الإنسانيّة، بعيداً عن النّظريّات والأيديولوجيّات، وولج أغوار ذاته ومن خلالها أغوار الإنسان، تجرّد من الخيال والوهم ليسقط تأمّلاته على الواقع. “إنّ الجمع الأفلاطوني بين الحقّ والخير والجمال يجافي الخير ويكذِّب الحقّ ويهاجم الجمال. الجمال هو المهرب من الحقّ. الخير لا ينجم إلّا عن الطّيبة- وما أدراك ما في الطّيبة من رحمة ونقاء بعيداً عن صرامة الحقّ- لا ينجم إلّا عن الطّيبة أو عن نقاء الجهل.”.

مع أنسي تتبدّل المفاهيم، وتنقلب المقاييس ليتجلّى المعنى المبين للحقيقة الأنسيّة، ألا وهو الانقلاب على المفاهيم العظمى وجعلها ملامسة للكيان الإنساني، ومتقاربة من فهمه كي لا يضيع في المثل العليا غير الممكن إدراكها.

(الجمال مهرب من الحقّ/ الخير بعيداً عن صرامة الحقّ)، وهنا مواجهة بين الجمال والخير والحقّ. وكأنّ الجمال والخير يحيان بمعزل عن الحقّ. فالجمال يهرب من الحقّ لأنّه يجد ذاته في الحرّيّة وليس في القيود. ذاك لأنّ أنسي يرى قيداً ما في الحقّ بحسب ما عبّر عنه في الجمع الأفلاطوني بين الخير والحقّ والجمال. الحقّ صارم ويتطلّب قواعد وأصولاً، وأمّا الجمال فمتفلّت في الفكر الأنسي ويشكّل مهرباً من الحقّ. كذلك الخير متحرّر من صرامة الحقّ، لأنّه ينطلق من الطّيبة التلقائية البعيدة عن الالتزامات والفروض والواجبات. إنّها الطّيبة البسيطة غير المخطّط لها، والحاضرة في الإنسان بمعزل عن الإملاءات والتّوجيهات. الخير هو الرّحمة النّقيّة المنبعثة من الدّاخل الطبيعي والّتي لا تتقيّد بالخارج.

“وحتّى لو أخذنا الحقّ بغير معنى الحقيقة فهو فظّ لا يحتمله الحيّ الّذي سيموت”. بمعنى آخر كيف يمكن للمحدود المملوء بالشّكوك والتّساؤلات والهواجس أن يحتمل الثّابت اليقينيّ. وكيف يمكن للحيّ الّذي سيموت، أي المشرف على النّهاية أن يحتمل الحاضر أبداً. وكأنّي بأنسي يقول إنّ الحقّ متجرّد حدّ الإحساس بالأمور، حدّ تلمّس الواقع المؤلم الّذي يجنح إلى الانهزاميّة. “الحقيقة للشّرطة. للتّجريد المتوحّش وللشّرطة المتوحّشة. الحقيقة عدوّة أو عاجزة. عدوّة للقلب الضّعيف وهو حتماً أجمل منها، وعاجزة عن إغاثة المظلوم لأنّها منذ الأزل تأتي بعد فوات الأوان.”

في حين أنّ الكيان الإنساني يبحث عن الحقيقة، يُظهر أنسي الحاج عجزها أو عداوتها من حيث أنّها لم تقدّم بذاتها إجابات على العذابات الإنسانيّة الملتبسة المعنى، وهي غالباً في موقع انتظار الباحث عنها. ويكمن عجزها أو عداواتها في السّؤال الإنسانيّ الّذي ما برح يشكّل هاجساً قاسياً، ألا وهو “لماذا؟”. قسوة هذا السّؤال تقابله قسوة عدم الوصول إلى إجابة واضحة جليّة. ما يسمح للظّلم أن يستفحل، وللقهر أن يتعشّش في النّفوس، وللحقد أن يتفشّى، وللتّمرّد أن يبلغ مداه. ولعلّ أكثر ما يعذّب الإنسانيّة قدوم الحقيقة بعد فوات الأوان، بعد أن استنفدت الإنسانيّة كلّ طاقتها في البحث.

——–

(*) كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 68

 

 

 

 

 

مادونا عسكر/ لبنان

شاعرة,باحثة

 

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

القيم الاجتماعية في عشيق الليدي تشاترلي للكاتب دي اتش لورنس/ محمد عبد الكريم يوسف

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع ...

آهٍ إن قلت آها / بقلم: عصمت دوسكي

آه إن قلت آها لا أدري كيف أرى مداها ؟ غابت في ...

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

واحة الفكر Mêrga raman