الرئيسية / مقالات / الانحلال يشكو الإنسان في مجتمعاتنا / بقلم: جوتيار تمر

الانحلال يشكو الإنسان في مجتمعاتنا / بقلم: جوتيار تمر

الانحلال يشكو الإنسان في مجتمعاتنا

بقلم: جوتيار تمر/ كوردستان

29/6/2021

ـــــــــــــــــ

يقول نايف عبوش في مقال له بعنوان الكبسلة والانحلال الأخلاقي: بات الكل يدرك خطورة انتشار ظاهرة المخدرات والكبسلة في أوساط الشباب مؤخراً، حيث تكمُن خطورتها كما يعلم الجميع في أنها تلقي بظلال تداعياتها السلبية -التي تتنافى مع الآداب العامة -على المجتمع ككل، وليس على المدمن بتعاطيها فحسب، حيث يخسر المجتمع بالانحلال القيمي، ضياعَ شبابه المدمن، بهدر طاقتهم الكامنة، في حين يفترض تفجيرها في مجالات نافعة.

ومع إرجاعه-عبوش-  وإرجاع الكثير من الباحثين المتخصصين أسباب انتشار تلك الظاهرة في مجتمعاتنا إلى ضعف الوازع الديني من جهة، وانتشار التكنولوجيا من جهة أخرى، فضلاً عن ضعف البنية التربوية التعليمية، وانهيار القيم الأسرية وتفكيكها، وتلاشي دور الإعلام الإيجابي، فأننا بحق أمام إشكالية اكبر من تلك المسببات، والتي اتفق معها على انهها من أسباب الانحلال الاجتماعي الذي باتت مجتمعاتنا تعيشها وفق نمطية ممنهجة ومدروسة، هدفها إبقاء الشباب والطاقات ضمن دوائر التيه والضياع على المستويين الذاتي والاجتماعي، وبعبارة أدق، فان المسببات الأكثر إيلاما ليست فقط في غياب تلك الأسباب المذكورة فحسب، أنما انحلال المجتمعات تبدأ بانحلال القيم الأساسية في بناء المجتمعات وضياع مقوماتها، بمعنى عدم اعتماد آلية بناء المجتمع الناجح، يقول جابر العماني في مقال له بعنوان المجتمع الناجح : المجتمع هو اكبر مجموعة بشرية تمتاز بالعلاقات الواسعة من جميع النواحي المختلفة، وحين نريد تطوير مجتمع لابد أن لا نكتفي بالبحث عن حقيقة الأفراد باتجاهاتهم الخاصة، أنما يجب البحث عن الأفراد الذين سخروا إمكانياتهم وتوجهاتهم، من اجل صناعة المجتمع الناجح المهتم بالمصلحة العامة، التي من خلالها يستطيع الجميع أن يرتقوا بالمجتمع، ويجعلوه مجتمعاً  ناجحا واعياً، بعيداً عن الانزلاقات والانحرافات الفكرية والنفسية.

وبذلك يمكن تلخيص احدى اهم الركائز في المجتمع الناجح ” العدالة الإنسانية” باعتبارها شاملة للجميع للحاكم والمحكوم، للغني والفقير، للقوي والضعيف، فان اردنا جني ثمار  وجودنا في دوائر اجتماعية محددة لنا، فالعدالة نظام اقتصادي اجتماعي رائع  وراقي، دائما الهدف منه هو إزالة  الفوارق الاقتصادية بين طبقات المجتمع، حتى أن كنت رافضاً لنظرية الطبقية، إلا أنها نظرية لا مناص منها في ضوء الإنسان نفسه، الذي حتى في سعيه لخلق أنموذج اشتراكي يبقى يعيش تحت مظلة الحاكم والمحكوم، وأصحاب السلطة والعاملين لتنفيذ مخططات السلطة نفسها.

فحين يحدد احد المختصين ” ظاهر محسن هاني الجبوري” مقومات المجتمع يرتكز على في رؤيته على بعض المقومات تلك والتي يقصد بها الركائز أو الأسس التي يرتكز عليها البناء الاجتماعي للمجتمع، واذا ما وجدت مثل تلك المقومات فان المجتمع يظهر للعيان، ويتمكن من القيام بالعمليات الاجتماعية وينمو ويتطور ويكون قادراً على إشباع احتياجات أفراده وإقامة علاقات مع المجتمعات الإنسانية الأخرى، وتصنف مقومات المجتمع الإنساني إلى نوعين أساسيين، الأول: المقومات التكوينية، أي العناصر والعوامل التي ينبغي أن تتوفر في أي مجتمع أو تجمع بشري لكي يتحول ذلك المجتمع من شكل غير منظم إلى شكل منظم، وتتمثل بالأرض والسكان والضوابط والقيم الاجتماعية، واللغة والتاريخ والمصير المشترك أو الأهداف المتبادلة، أما الركيزة الثانية : فهي المقومات الوظيفية باعتبارها مجموعة الانساق الموجودة في المجتمع والتي تؤدي أغراض محددة، وبتكامل تلك الانساق يتكون البناء الاجتماعي أو النسق الاجتماعي أو النسيج الاجتماعي وتتحدد خصوصياته، ويحددها الجبوري في ” المقومات الدينية ، السياسية، الثقافية، الأسرية، الاقتصادية، العسكرية…الخ” ، فضلاً عن مقومات جغرافية، سكانية ديموغرافية، وحضارية.

حقيقة أمام تلك المقومات نجد انفسنا في عجز تام، ليس في تحقيق مرتكز واحد من تلك المرتكزات فحسب، أنما في فهم وهضم آليات وموجبات ومفاهيم وحقائق تلك المرتكزات والمقومات، فدينياً، تحولت الأديان إلى بؤر  تستقطب المتشددين لخلق أنموذج خارج عن الأطر الإنسانية في تعاملاتها، لاسيما في محاولتها لدعم وتثبيت عقائدها الساعية لفرض السلطة بالقوة والإرهاب والتفجير وقطع الرؤوس والسبي وأسواق  النخاسة، أو ما يمكنه عده بمفهومهم الترهيب والترغيب، في حين اتجه البعض إلى مسايرة السلطات العلمانية ودعمها بدعوى الحفاظ على كيان الأمة وعدم التسبب في التفرقة فتصبح الأمة معرضة للغزو الفكري والعسكري والاقتصادي من قبل أعدائها، فاصبحوا وعاظاً للسلاطين بتعبير “علي الوردي” ، وبلا شك ما بين التيارين هناك فرضية التيه التي يعتنقها بعض الشباب العدمي الرافض والمعارض لكل شيء، وبالتالي اصبحنا نعيش ضعفاً ووهناً واضحاً في المرتكز الديني الذي كان بإمكانه أن يكون مقوماً أساسيا في ضبط المجتمع أخلاقيا.

أما المرتكز السياسي، فحالة السياسة التي تتبناها السلطات الحاكمة في مجتمعاتنا كفيلة بان يترك الواعي مجال السياسة اجمالاً، وحين أقول اللاسياسة فانا اقصدها بكل تمفصلاتها ودلالاتها التي قد لا تعجب الكثيرين ممن يدعون بانهم ساسة وسادة وأحزاب عريقة ضحت وقدمت الكثير للوطن والأمة والشعب وللأرض ، ذلك كله أجمالا مبني على مرتكز الخيال الجامح لتلك العينة التي تدعي السياسة، فأي شخص حتى وان لم يكن مختصاً أو معنياً  بأمور  إدارة الدولة أو إدارة المؤسسة السياسية يمكنه التعامل مع الواقع السياسي كهؤلاء المدعين بكونهم ساسة وسلطة، وحتى لا نكون مجحفين نرشق الآخرين – المدعين – زوراً  وبهتاناً ،يمكننا الاستدلال على بعض الحقائق التي ساهمت وتساهم لحد الآن بانحلال المجتمع، فباعتقادي أن الانحلال الاجتماعي يبدأ بانحلال السياسة، لأن السياسة والتي هي السلطة حين تتحول إلى أداة جمع وتهويل وترهيب حينها ينفلت الخيط الأول لركائز المجتمع، ويبدأ بالانحلال تدريجياً، والعينة السياسية المدعية التي نمتلكها في مجتمعاتنا خير شاهد على أواصر العلاقة بين الانحلال واللاسياسة، عدم وجود رؤية واضحة المعالم، عدم وجود خطط لانتشال المجتمع من هاوية الاختناق سواء المادي المعيشي أو النفسي أو الفساد الإداري، أو تسلط فئات غير واعية جاهلة بأمور السياسة على فئات المجتمع المثقفة والمنتجة والواعية، فضلاً عن استعباد الطبقات الأخرى العاملة، وبالتالي خلق أنموذج مستهتر ومبتذل في آن واحد، يتحكم بموارد الشعب، يتحكم بأفكاره، يتحكم بمعيشته، يتحكم بطموحاته، يتحكم بآليات الاقتصاد، يستخدم أساليب الترهيب والشدة والقسوة والاضطهاد في التعامل مع إشكالياته الداخلية في حين يكون كالنعجة المسالمة أم ألد أعدائه وذلك لكسب ودهم  ودعمهم لبقائه على كرسي السلطة على حساب مكتسبات الأمة وقضيتها العادلة،  وفي المقابل يدعي في شعاراته المثالية – المثالية المتعالية – بانه أنموذج يواكب التطورات على الساحة العالمية – العولمة –  لاسيما في بناء المشاريع والعمارات والناطحات والطرقات وغير ذلك التي تؤكد مقولة الإسمنت قبل الإنسان، كل ذلك فرض نموذجا جديداً لانحلال المجتمع تحت مدعيات لا قيمة لها أم قيمة الإنسان نفسه، باعتبار أن الوجود يستمد أهميته من وجود الإنسان فيه، والا فليكن للمريخ قيمة للكادحين والموظفين والساعين لحياة هادئة هانئة ملائمة لكينونتهم الإنسانية، وعلى هذا الأساس فأننا أمام الداعم الرسمي- الساسة –  للانحلال الاجتماعي، فلا انحلال بدون انحلال سلطوي غائب عن معاناة الاجتماع، غائب عن فهم نمطية الحياة ، غائب عن ملامسة مشاكل الاجتماع – القاعدة الجماهيرية – غائب عن القيام بمسؤولياتها تجاه مشاكل المجتمع.

أما المرتكزات الاقتصادي، والذي هو عمود الوجود ليس لمجتمع واحد فحسب أنما للمفهوم الكوني البشري، فأننا في مجتمعاتنا أمام أنموذج هزيل للاقتصاد يعتمد على آلية مستهلكة، لا يستفيد منها سوى القوى المتسلطة على رقاب الشعب والأمة، فحولت الأرض إلى مستعمرات تتنافس عليها الشركات وتستخرج مواردها الأولية والتي هي ركيزة الاقتصاد الفعلي للمجتمع، متجاهلين تماماً القيم الأخلاقية التي تربطهم بفهم وأدارك معاناة الشعب ومبتعدين عن اتباع الخطوات الناجحة لجعل الاقتصاد نقطة تحول في بناء المجتمع الناجح يقول   Joey Potrykus: يركز الاقتصاد الناجح والمتقدم على النمو الأخلاقي والبيئي والاجتماعي، كما أنه يحافظ على تنمية وتطوير جوانب الحياة جميعها الخاصة بالفرد، فالاقتصاد الناجح لا يقتصر فقط على الإنتاج والاستهلاك، بل يسعى إلى توفير ثقافة سلوكية صحية للمواطنين، وبالإضافة إلى ذلك فهو يركز على زيادة رفاهية المواطنين بشكل مستدام، والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي للدولة ” ، وبمقارنة بسيطة عن المفهوم المطروح، والواقع الذي تعيشه مجتمعاتنا سنلاحظ حجم الهوة بين مفهوم الاقتصاد الناجح، والاقتصاد الانتقائي المصلحوي الساعي لدعم أصحاب الشركات والسلطة والساسة المدعين على حساب القاعدة  الجماهيرية من جهة، وعلى حساب الدولة – الإقليم – من جهة أخرى، وبالتالي تحول الاقتصاد في مجتمعاتنا إلى أداة انحلال مساهمة في ضياع الشباب وهدر طاقاته في اللجوء إلى الهجرة من جهة، أو اللجوء إلى براثين ما ينسيه وجوده ضمن دوائر وجغرافية تلك السلطات الساعية لهدم كل قيم الإنسان الإنسانية من جهة أخرى، وبالطبع المخدرات والمشروبات والدخانيات وغير ذلك هي وسائل متاحة تساعد السلطات الحاكمة على توفير تحت شعار رفاهية المجتمع وتطوره، والحقيقة الشعار الأمثل هو إبقاء الطاقات والطموحات مدفونة وهدرها وعدم فسح المجال أمامها لرفع صوتها، وذلك يدعم فرضيتنا القائلة بان الانحلال يبدأ من السلطوية.

وفي المجالات الأخرى أو الركائز والمقومات الأخرى، كالثقافية التي تعتمد تماماً على الانصياع الأعمى للتقليد الخارجي بكل مجالاته وعدم وجود أية ابتكارات وإبداعات داخلية نابعة من صميم المجتمع وبدعم أساسي من الساسة، اقصد بسبب تلك الآليات التي تتبعها السلطات سواء في مناهجها التعليمية أو التربوية، وعدم حضنها للطاقات والإبداعات وتنميتها، الأمر الذي اثر سلباً على بنية المجتمع المفكك أصلا بسبب جهالة التعامل مع القيم الأسرية الناجحة، وضياع القيم الأسرية لاسيما في تعاملات الأهل مع الأولاد والأولاد مع أولياء الأمور، وابتعاد الطرفين عن الأخلاقيات اللازمة توفرها لتماسك الأسرة، ومسائل الزواج والطلاق والضغوطات الأسرية في ذلك المجال، كلها أمور لا يمكن فصلها عن البنى الأساسية في بناء المجتمعات والمتعلقة بالدرجة الأساس في توفير بيئة ملائمة آمنة مستقرة، بعيدة عن النزاعات المذهبية الطائفية الدينية السياسية الحزبية، والمصالح الاقتصادية النخبوية، وفي المجال العسكري تشتت القوة العسكرية بين ولاءات مذهبية طائفية حزبية وفق أجندات مفروضة عليها مسبقاً من الجوار الحالب لخيرات البلد سواء بدعم الفوضى  السياسية أو الفوضى المذهبية الدينية أو الفوضى الحزبية، فأننا أمام ممر سالك أخر مساهم للانحلال الاجتماعي، فضلاً عن ذلك فان المجالات الأخرى التي ذكرنها كالجغرافيا أيضا تساهم بشكل مخزي لانحلال المجتمع، وبالطبع ليس العيب في الجغرافيا نفسها، أنما في توظيفها وفق آليات لا تدعم الاستمرارية سواء الاستمرارية المعيشية لفئات المجتمع بصورة عامة، دون المساس بالفئوية السلطوية التي مثلاً تتبنى سياسة البناء العشوائي غير المنظم والمؤثر سلباً على معيشة العديد من مكونات المجتمع سواء بفرض واقع مخزي عليهم وترهيبهم على عدم الاعتراض لتلك المساعي البنائية الانتقائية السلطوية المصلحوية أو من خلال إحجام حقوق الناس في العيش بكرامة في بيوتهم وذلك بإقامة مشاريع خاصة لجهات خاصة لأفراد خاصة في مناطقهم غير المؤهلة لتلك المشاريع، فيصيب الشلل بذلك جميع بنى ومكونات الشعب والأرض والأمة، وتتجه تدريجياً بكل بخطى متسارعة إلى مراحل الانحلال النهائية، فيخسر الإنسان نفسه، ويلجأ إلى كل ممكنات التيه والضياع للابتعاد عن ذلك الواقع المخزي والمذل لإنسانيته.

وذلك ما يجعلنا نتوصل إلى مقولة أن الانحلال يشكو من الإنسان، لأنه الإنسان المصلحوي اللاواعي أصبح يشكل تهديداً واضحاً على مفاهيم الانحلال نفسها، قبل أن يكون تهديداً على نفسه وجوده وأرضه وشعبه وخيراته وموارده الطبيعية وقيمه الأخلاقية، ونزاعته وطموحاته في خلق أنموذج متطور متمكن من نفسه وواثق من أدواته وإمكانياته وطاقاته على الخراب المسمى الأرض.

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أمة العرب والأمم المتحدة / بقلم: خالد السلامي

يعتبر العرب وخصوصا العراق ومصر وسوريا والسعودية ولبنان من اوائل المشاركين في ...

من عمق المجتمع، جداريات بجمالية داهشة للقاصة زلفى أشهبون/ بقلم: بوسلهام عميمر

                        ...

تخفي الهشاشة في زمن مغلق/ بقلم: مصطفى معروفي

شاعر من المغرب ـــــــــ صدِّقوا الطير إن هي مدت مراوحها في دم ...

رحل بيتر هيجز: الرجل الخجول الذي غير فهمنا للكون/بقلم جورجينا رانارد/ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

  اشتهر البروفيسور بيتر هيجز بهذا الشيء الغامض الملقب بـ “جسيم الإله” ...

القيم الاجتماعية في عشيق الليدي تشاترلي للكاتب دي اتش لورنس/ محمد عبد الكريم يوسف

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع ...

آهٍ إن قلت آها / بقلم: عصمت دوسكي

آه إن قلت آها لا أدري كيف أرى مداها ؟ غابت في ...

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

واحة الفكر Mêrga raman