الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / صادق الزعيري حين يكتبُ على الأرض ( الجزء الثاني) / هاتف بشبوش

صادق الزعيري حين يكتبُ على الأرض ( الجزء الثاني) / هاتف بشبوش

 

صادق الزعيري حين يكتبُ على الأرض ( الجزء الثاني)

 

يظل القلب يحب ويتماهى في الحب لأرضه أو لحبيبته و لا يعرف متى يتوقف كما نقرأ أدناه من نفس النصوص القصيرة :

 

سيدي القلب

الى أي زمنٍ

تظلّ تحب

ــــــــــــــــــــــــــــ

الشاعر صادق هنا عاشق في حالة نفاذ الصبر وامتحان الانتظار، ولكن أي نوع من العشق هذه المرة، هو عشق الناس والنضال في سبيل نيل الجميع لحياتهم الحرة الكريمة في المأكل والملبس ولذة الاشتراك في كل شيء حتى تحقيق الاشتراكية التي ينشدها الشاعر في أبياته المطرية الهاطلة:

 

أيتها الغمامة البيضاء

إذا لم تمطري على الجميع

غادري سمائي فورا

ــــــــــــــــــــــــــــ

في الفيلم العالمي الشهير يوم الحساب من تمثيل الممثل الذي دخل عالم السياسة وأصبح حاكما على ولاية كاليفورنيا والذي يدعى (آرنولد شواردزيغر). الفيلم في أحد أجزائه تدور فكرته في كوكب المريخ حيث يمتلك الهواء أحد الرأسماليين الجشعين فيقوم بالتحكم بأرواح الناس عن طريق بث الهواء لهم أو قطعه وحبس أنفاسهم، وبهذه الطريقة تتجلى لنا معاني الاحتكار وكره الناس بأبشعِ صوره. بينما الحب الذي ينشده صادق هو تلك الغاية التي لا يدركها الا الذين عافوا الدنيا وغنائمها وهذه نراها واضحة في قلب الشاعر صادق لافي قلوب الملوك والطغاة كماهرون الرشيد الذي قال (أمطري أينما شئت فسوف يأتيني خراجك). حب الناس هو العقيدة التي يتزيّن بها الشاعر صادق ولذلك راح يرثي صديقه الدكتور ناجي كاشي الغرائبي المسرحي والشاعر المنكوب لما في رحيله من تراجيديا أحزنت الكثيرين ولما في قلب الشاعر صادق من حبٍ عظيم لهذا المسرحي . لنر الشاعر بخصوص هذه الفجيعة في نص (يا ناجي…لماذا لم تخبرنا عن رحيلك):

 

يا ناجي …نحنُ المفجوعينَ بخطفكَ

سنجيئ اليكَ واحداً بعد واحد

قلْ لي

هل في الأرضِ متسعُّ

أم ترانا نموت بدون قبور

……………..

أنت شهيدُ

سيقيمُ المغدورُ صديقك

كاظم وروار وليمة موتك

…………………

يا ناجي ..أحزاني ذات خمسة نجوم

آلامي بحجم البحرِ الميت

آه

من دكتاتورية هذا الموت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

حين يأتي الموت على حين فجأة فهو جميل ، لأن الميت لا يدري ولا يشعر بما خلفه ، أي سيصبح عدماً بعد ما جاء من العدم ، ولكن حين يكون الموت قرارا كما اتخذه الروائي الشهير همنغواي حين وضع البندقية في حلقه فهو صعب للغاية ، وحين أتخذه يسنين وهو يودع امه منتحرا فهو الأصعب أيضا ، وآنا كارنينا في رائعة تولستوي التي اتخذت من سكة القطار خلاصا أبديا فهو الأصعب مرات ومرات ، ولكن موت غادة التاميليات بطلة الكسندر ديوماس التي نخر بها المرض نخرا عشقياً مميتا ، فكان الموت لها راحما وخلاصا من كل عذابات الحب وإرهاصاته . ويبقى المرء معذبا على الدوام في التعبير الهوميروسي أما التعبير الديني فالإنسان من بلاء الى بلاء ، وبين هذا وذاك يبقى المرء في شقائه ضعيفاً وما من معين .

الحياة تمضي بنا دون ان نعرف حتى اذا عرفنا نجد انفسنا كما الناي الذي يطرب ويقسّم اللحن ويُبكي الآخرين و يريح النفس الحزينة والعليلة . لكن من يعرفه عند الانكسار والتحطيم والهلاك والموت؟ … هكذا نحن بني البشر المتمارد حين تجف أوصالنا بعد ان كانت تدق، نموت مجهولين وسط زحمة هذا الموت المليوني الذي لا حصر له ولا عد … فمن اين جئنا والى اين نمضي … وماذا كنا نفعل هنا في هذه الارض إذا كنا سنرحل غير مأسوفٍ علينا عدا من قلة قليلة ضئيلة تنحصر في العائلة والصديق ان وجدوا. أما موت ناجي كاشي فينتظر وليمته التي ستقام له من قبل صديقه الشيوعي الشهيد كاظم وروار المذكور في بيت القصيد أعلاه الذي شبع موتا منذ أكثر من ثلاثين عاما وهو يدافع عن وطنه في شمال العراق والذي بصق في وجه جلاده قبل موته فكان تحديا صارخا وشجاعا أصبح مثلا يضرب في قوّة الشهادة والصمود .

ناجي كاشي كتب عنه الكثيرون ومنهم أنا صاحب المقال الذي قال بحقه :

 

يا سيّد الصداقةِ المؤججِ بطهرِ دماه

لقد بنيتَ مزاركَ فينا

يا أيها المسرحي المُحب

شيّدنا أمارةَ الدمعِ في المنفى

قربَ كنائسهِ القديمة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشاعر صادق بكى على صديقه ناجي كاشي بكاءً توثيقياً كي يبقَى اسمه مسافراً في محطات التأريخ. موت ناجي خلق البكاء بين محبيه وناسه لما فيه من الإبداع وحب الآخرين، بكينا عليه وهذا ديدن العراقيين في البكاءِ منذ سومر وبابل، فلا غرابة أن نرىَ الدمع يترقرق من عيني صادق في نصه الموسوم (البكاء بين يدي الوطن):

 

باسم الله

نذبحُ يوميا هذا الوطن

الواقفَ كالنخلة

والخانعَ كالإسفلت

……..

وطني امرأة تصرخُ

في صوتٍ عال

قدامَ العالم

لا أستثني احدا

الكلّ يرومُ مضاجعتي

………………

وطني….. هل صارَ شجيرة موز

الكلّ يبغي تسلقها

………..

وطني …. قميصهُ

قُدّ

من قُبُلٍ ومن دُّبرٍ

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(كل جراحةٍ فلها دواءٌ … وسوء الخلق ليس له دواءُ……. علي بن أبي طالب)

بنى لينين الاتحاد السوفيتي من العدم ورحل ووجدوا في جيبة ستة روبلات فقط. هزم ستالين النازية ورحل بلا بيت وبقيت ابنته (سفتلانا) تعيش في بيوت الإيجار بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي.

جوهر الموضوع هو أن هؤلاء لم يتربوا فكريا ومعرفيا وثقافيا واجتماعيا على فكرة أخلاق الغنيمة كما سياسيونا الذين تعلّموا من أسلافهم فيما مضى في تقاسم الغنائم . حتى النساء كانت توزع على المحاربين باعتبارها غنائم ولذلك اليوم ما حصل من سبي للأيزيديات من قبل داعش لهو الفكرة ذاتها التي تبنوها من الفكر السلفي الذي في أدمغتهم. بينما عنتر بن شداد العبسي الأبي الجاهل كان يقول          ( يسألكِ من شهدَ الوقيعة إنني …أخشى الوغى وأعفّ عند المغنمِ ) . إذن هي ألأخلاق التي تردع المرء وتعلّمه في أن يحيد عن السرقة مهما كانت بينما اليوم في عراقنا السليب وكما قال الشاعر صادق أصبح مثل شجيرة موز حتى القرود تتسلّقها كي تحصل على موزها المجاني. فما الذي قدمه المسلم المؤمن لبلاده غير القتل والجهل والتخريب . فهل هذا وطنُّ أم مبغى؟ .

الشاعر صادق شبه الوطن مثل امرأة تصرخ والكل يريد مضاجعتها وهذه تشبه ما أخبرتنا به رواية الإخوة كارامازوف الشهيرة وما حصل (ليزافيتا سمردياشا) البنت المعتوهة الخرساء التي تجوب الشوارع والتي يجدونها حبلى فتولد وهي تصرخ وتموت ووليدها بالقرب منها ولم يعرف أحد من اغتصب هذه المجنونة المسكينة فتذهب ضحية المجتمع وتصرّف الرجال البشعين.

يستمر الشاعر في الحديث عن الوطن القتيل وعما حصل من انفجار في شارع المتنبي من قبل أعداء الكلمة في نصه المدور والمفتوح (المتنبي يقتل ثانية):

(في سوق الوراقين يغتالون الكلَمَ الطيب حتى لا نرث لسان ابن السكيت البغدادي …حتى لا نولد من رحمِ أفكار ابن الرشد. حتى نصلب مراتٍ اخرى فوق صليب الحلاج. حتى يصدأ سيف حسين بن علي …)

ثم يقول :

 

أسألُ كم قاتلُّ في هذا الزمن الأردأ

يطعنُ فكراً مغدوراً

انّ الحرفَ لا يقتل سهواً في وطني

ـــــــــــــــــــــــــ

لا ليس سهوا يُقطع لسان ابن السكيت من قبل الخليفة المتوكل في قصة شهيرة نظرا لدفاعه عن الحسن والحسين وهم أطفال ومفاضلته لهم على أبناء المتوكل في جلسة سكرٍ جمعت الخليفة المتوكل مع صديقه الحميم اللغوي ابن السكيت. ثم المجرم صلاح الدين الأيوبي وحرقه لكل كتب الفاطميين عند افتتاحه مصر وسقوط الدولة الفاطمية. بل عزلَ الرجال عن النساء لكيلا يتناسلوا. ولهذا لم نجد اليوم من نسل الفاطميين في مصر بعد إن كانوا أمة بحالها ، فأينها هذه الأمة …..هل تبخرت ؟ .

يستمر الشاعر في بوحه الشعري وهذه المرة يصف لنا الشعر نفسه وكيف يتأتى له دون أن يطرق بابه بل يأتيه على حين غرّة. لنقرأ بصدد ذلك أدناه من نص (إنه لص):

 

الشعرُ لا يخجل مني

يضاجعُ ورقي دون استئذان

يأمرُ قلمي أن يكتبه

……

حتى ان أغلقت الأبوابَ لا مهرب منه

يكسرُ نافذة الفكرة

ويدلق محبرتي قسرا فوق سرير الطرس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشعر بشكل عام هو الرغبة في حياة بلا موت وبما انه ليس أكيداً من أنّ هناك حياة اخرى، فالشعر أخبرنا بأنها حياة رائعة. في الشعر نستطيع انْ نجد كيف انّ اللغة واللسان هما عضوان فعالان. أنه كلام الشاعر النابع من نهر خياله والذي يصب في محكمة العقل أنه الأسمى من الأيديولوجية أنه الانفعال المنبعث من الروح القلقة أنه الجنون الإبداعي والباكي حرقة ًوألماَ على المصير المفقود والضائع لبني الإنسان. في الشعر نتساءل ولم نتوقف عن السؤال حتى لو لم نحصل على إجاباتنا ولأن البوح ينبع كالنهر فانه لا يتوقف عند مصب بل سيظل جاريا متحركا بأمواجه العاتية ولذلك الشاعر صادق يستمر في التساؤل دون توقف مثلما نقرؤهُ في الفلقة الرائعة أدناه التي كان فيها مسؤولاً وليس سائلا في نص (سؤال):

 

سألتني …في المطار

يا تُرى من أين جئت؟

إنني أقرأ في عينيكَ حزن الانتظار

……

هل أقولُ إنني من بلدٍ يُجلدُ فيه

المرءُ في وضح النهار

حسنا …. سأجيبك أنتِ السائلة َ العينين

إنني اُصلبُ مراتٍ على لوح المنافي

ومراتٍ على لوح الجدار.

 

 

 هاتف بشبوش، شاعر و ناقد (عراق/دنمارك)

 

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman