الرئيسية / قصة / السترة الرمادية/ بقلم: لمياء نويرة بوكيل

السترة الرمادية/ بقلم: لمياء نويرة بوكيل

 

 

 

 

 

السترة الرمادية/ بقلم: لمياء نويرة بوكيل

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

استحال حلمي فيلما بموسيقى تصويرية حين رنّ هاتفي للمرّة الأولى يوقظني في جوف الليل من عز النوم ولذيذ الحلم …غير أن النغم طال وألح في الإعادة والتكرار، حتى تفطنت إلى أن الواقع هو من يناديني …

خرجت على عجل في ذلك الجو البارد. كانت شوارع المدينة الواسعة موحشة لا يؤنس وحدتها غير تلك المصابيح العمومية المتلألئة، وزخات المطر الرقيقة التي تبللها فتجعل إسفلتها مرآة عاكسة تضاعف الأضواء وأنوار المصابيح. وبقدر ما كانت الشوارع قفراء كانت محطة القطار تغلي ضجيجا وحركة دائبة…

لم يكن يتملكني سوى حلم واحد، أن ينطلق القطار وتسكن الحركة وأستأنف نومي.

امتلأت عربة الدرجة الأولى بالمسافرين. لفت انتباهي عدد المتهندمين المتأنقين الذين علمت فيما بعد أنهم موظفون مرموقون يعملون بالعاصمة ويستقلون القطار يوميا، لتفادي تعب القيادة. لذلك كان أغلبهم يعرفون بعضهم البعض، يتبادلون التحايا بلطف وبشاشة ثم ينزعون معاطفهم وستراتهم ويرخون الكراسي الوثيرة ويستغرق كل واحد في نوم عميق كأنه لم يغادر غرفة نومه وفراشه لحظة. استحييت أن أرخي مقعدي مثلهم وأن أستلقي أمام الغرباء فشغلت نفسي بتأمل تلك السترات المعلقة أتسلى بمنظر أكمامها المبللة والمتدلية، فأراها مرة أشرعة لسفينة تشق بنا عباب بحر هائج متلاطم الأمواج، ومرة يخيل إلي أنها منشورة فوق حبل غسيل تحركها رياح عابثة ، ومرة محلا للملابس الرجالية المستعملة والمعلقة بفوضى وإهمال… ولا أزال كذلك حتى سرى فِيَّ الدفءُ ودب فيّ خدر النوم اللذيذ حالما انطفأت أنوار العربة … وأوشكت أن أنعم بالاستسلام والسكينة لولا تلك السترة الرمادية اللعينة، معلقة عند رأسي، متأرجحة كنواس ، متضخمة كمارد مخيف ، تضربني بكمها الطويل كلما غفوت، فأنتفض وأذب عن وجهي لحظة قبل أن يثقل رأسي سريعا من جديد .. شيء ما بداخلي جعلني أكره تلك السترة وأتخذ منها شعورا عدائيا .. لكن لماذا؟

بدأت أبحث لذلك القلق عن تفسير مقنع وأشحذ ذاكرتي حتى تداخلت الصور والرؤى أمامي …

كانت البدلة الرمادية يومها معلقة على ظهر كرسي في مؤسسة عمومية. بينما ظل طابور المنتظرين يطول ويطول أمام الزجاج الفاصل بينهم وبين مكتب الموظف الحاضر بالغياب، الموجود بسترته المعلقة على ظهر كرسيه، خدعة بصرية توهم الجميع أنه غاب للحظة، لولا أن الوقت يمضي، حتى تنقضي الأمسية وعيونهم على تلك السترة بلا جدوى… بلا جدوى تماما كأسئلة ضابط الشرطة ذاك الذي أجري معي يومها تحقيقا حول ملابسات حادث مرور، والذي كان يحشر أنفه في خصوصيات عني لا تمت إلى القضية بصلة ، مستغلا خوفي يومها وجهلي وإنهاك جسمي …كان باسم تلك البدلة الرمادية الرسمية ينتهك خصوصياتي … الطبيب الشرعي أيضا يومها كان يرتدي بدلة رمادية عوض مئزره الأبيض حين أتى على عجل خارج توقيت عمله …كان مكان الكسر واضحا في الكتف ومع ذلك باسم الدقة والتفاني كان  يرغب في الكشف عن مناطق أخرى من الجسم عسى يطمئن قلبه ويرضي ضميره المهني ويحسن تحرير التقرير الشرعي …

عاودني ذلك الثقل في رأسي…وسرى بي خدر النوم اللذيذ من جديد…  ولكن السترة المعلّقة عادت وصفعتني بكمها … قررت فجأة أن أنتقم، لنفسي ولذلك الطابور، ولكل من قهرته سترة . نزعتها من المجذب في غفلة من الجميع، وفتحت النافذة وألقيت بها لتبتلعها سكة الحديد وتدوس المارد البيروقراطي الساكن فيها. وعدت إلى مكاني منتشية بالنصر المبين وفي سمعي أصداء هتاف وتكبير …

أفقت من انتشائي فجأة على جلبة ونقاش حاد

ـ يا سيدي من فضلك، عجّل وهات التذكرة، إنك تعطل سير عملي.

رد الرجل الوقور متلعثما:

ـ أمهلني لحظة أرجوك، أقسم أنني وضعتها عمدا في جيب سترتي حتى استظهر بها في يسر فور طلبها مني، بيد أني لا أجد لسترتي أثرا.

– أنا آسف جدا يا سيدي ولكني موظف مأمور، إن لم تمدني بالتذكرة اعتبرتك متجاوزا وطبقت عليك القانون.

تصبب العرق من جبين الرجل المسن ذي الملامح الطيبة واستغفر الله العظيم وحوقل وهو يسأل: أين تبخرت سترتي؟ هل يعقل أن يكون سارق بيننا ولم يتوقف القطار؟ … نفذ صبر قاطع التذاكر فانقض على الرجل المحترم يمسك بتلابيبه وراحا يتشاجران ويتلاكمان حتى أصابتني لكمة طائشة فانتفضت لأمسك بتلك اليد الظالمة وصرخة مكتومة في حلقي تأبى الخروج … وإذا بي أرى ذلك الرجل الطيب يلتفت إليّ هامسا بحنو أبوي ويقول:

-لا بأس عليك يا ابنتي، أنت تهذين وترتعدين منذ بدأت الرحلة، يبدو أنك مريضة، اسمحي لي

ثم نزع تلك السترة الرمادية من المجذب ودثرني بها وأضاف:

– ستكونين بأحسن حال بإذن الله …

 

ــــ لمياء نويرة بوكيل، تونس ـــ

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية Hejmara (21) a Kovara Şermola Derket

  صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية   صدر العدد (21) ...

السهل الممتنع في ديوان “للحبر رائحة الزهر” للشاعر نصر محمد/ بقلم: ريبر هبون

وظف نصر محمد الإدهاش مغلفاً إياه بالتساؤل مقدماً اعترافاته الذاتية على هيئة ...

شعاراتٍ العربْ / بقلم: عبدالناصرعليوي العبيدي

فــي  شعاراتٍ العربْ دائــماً تَــلقى الــعجبْ . رُبّما  المقصودُ عكسٌ لستُ أدري ...

 القراءة :النص بين الكاتب والقارئ/ بقلم مصطفى معروفي

من المغرب ــــــــــــ بداية نقول بأن أي قراءة لنص ما لا تتمكن ...

جديلة القلب/ بقلم: نرجس عمران

عندما تضافرتْ كلُّ الأحاسيس في جديلة القلب أيقنتُ أن رياحكَ هادرة ٌ ...

على هامش تحكيم مسابقة تحدي القراءة / فراس حج محمد

من فلسطين تنطلق مسابقة تحدي القراءة من فكرة أن القراءة فعل حضاري ...

نســـــــــــــرين / بقلم: أحمد عبدي 

  من المانيا “1”   توقف البولمان  في المكان المخصص له  بعد ...

أناجيكَ ياعراق / بقلم: هدى عبد الرحمن الجاسم

أناجيكَ بين النخلِ والهورِ والنهرِ وأشكو لكَ الإبعادَ في الصدِِّ والهجرِ إلامَ ...

واحة الفكر Mêrga raman