الرئيسية / حوارات / حوار مع الشاعر الكبير أديب كمال الدين/كريمة نور عيساوي

حوار مع الشاعر الكبير أديب كمال الدين/كريمة نور عيساوي

.

الشاعر أديب كمال الدين

 

 د.كريمة نور عيساوي

في رحاب الحروف

حوار مع الشاعر الكبير أديب كمال الدين

 

 

السلام عليكم أستاذي، طرقت باب الحروف استجدي حرفا، فوجدتها هربت إلى دياركم.

قد تعجز الكلمات عن مجاراة الحروف للانطلاق في جلسة شاعرية مع قامة باسقة كالشاعر الكبير أديب كمال الدين، وأمام عجزي لم يكن لي من خيار سوى الهروب نحو سؤال تقليدي ألج من خلاله هذا العالم الرحب والممتع.

د كريمة نور عيساوي:

– أستاذي الفاضل أبدأ بسؤال تقليدي، من هو أديب كمال الدين، تاريخ ومكان الميلاد، التخصص، ما هي البدايات الأولى؟  وما هي أول تجربة خضتموها في مجال الكتابة؟

الشاعر أديب كمال الدين

* وُلِدت في محافظة بابل- العراق عام 1953 في أسرة علم ودين. والدي رحمه الله كان يؤكد على الدراسة والتعلّم. وقد شجّعني على ذلك مثلما شجّع إخوتي وأخواتي جميعاً على هذه المسألة المهمة، كما كان يشجّع، باستمرار وبجدّية، على التفوق والحصول على أعلى الدرجات. وهكذا فقد كان هناك أكثر من درجة دكتوراه في العائلة. وقد كنتُ بطبعتي ميالاً للقراءة منذ الصغر. وساعد وجود مكتبة عامرة في البيت على أن أقرأ منذ وقت مبكر جداً في حياتي مختلف الكتب، وفي مقدمتها قصص ألف ليلة وليلة، وروايات جورجي زيدان وقصص تشيكوف. وفي مرحلة لاحقة قرأت روايات نيكوس كازنتزاكي. وقد ألهبت هذه الكتب خيالي بشكل عميق جداً سهّل عليّ، بالطبع، الدخول إلى مملكة الشعر الغامضة. وفي مطلع السبعينيات التحقت بكلية الإدارة والاقتصاد – فرع الاقتصاد بجامعة بغداد. وأثناء دراستي عملت في الصحافة محرراً في القسم الثقافي، أولا عملت في جريدة الراصد ثمّ في مجلة ألف باء. وبدأت أنشر قصائدي في الصحف، والمجلات حتى طبعت- ولله الحمد- مجموعتي الأولى “تفاصيل” عام 1976.

د كريمة نور عيساوي:

  • ماذا تمثل بالنسبة إليكم تجربة ” تفاصيل ” في مسار كم الشعري العام؟

الشاعر أديب كمال الدين

  • * كان صدور “تفاصيل” حدثاً رائعاً وسعيداً بكلّ معنى الكلمة في حياتي وكان عمري حينذاك 22 عاماً. فقد كانت مجموعتي الأولى، وأولى خطواتي في عالم الشعر. وقد طبعتها على نفقني الخاصة في مدينة النجف الأشرف، بعد أن رفضت وزارة الثقافة والإعلام طباعتها لأنّها (جاءت خالية من ذكر منجزات الثورة والتغنّي بها!). احتفت مجموعتي “تفاصيل” بصدق عميق بجذور الحياة مطلقةً أولى أسئلة الروح عن الحياة ومغزاها وسرّها الأزليّ، احتفت ببراءة عذبة ب”جسد الرؤيا” للرحلة التي تبدأ بالصرخة وتنتهي بها، أعني صرخة الولادة ثمَّ صرخة الموت. هكذا  صار على الشاعر،  لكي يكون شاهداً حقيقياً، أن يفسّر لنفسه وللكون كيف أنّ الصرخة الأولى كانت مبهجة والثانية مرعبة أو العكس بالعكس. صار على الشاعر أن يؤسس فنيّاً لحرف الصرخة التي ستتحوّل إلى حب وعشق وفراق وعذاب ونفي وجوع وعطش وحرمان وأرق ومعاناة، الصرخة التي ستطلقها الروح وهي تصارع أبد الدهر الرعبَ والخوف والفجيعة والظلمة والظلام. احتفت “تفاصيل” ببراءة عذبة ب”جسد الرؤيا” بعيداً عن أكاذيب الأيدولوجيا، وصراعها اللعين من أجل المال والجاه، وما توفّره لأصحابها من متع زائفة ومباهج تافهة، الأكاذيب التي امتلكت صوتاً صاخباً في سبعينيات القرن الماضي، وما تلاها لدرجة أنّه كاد يصيب المتلقّي بالصمم، وأفسدت كثيراً من المنجز الإبداعي العراقي، وأبعدته، بعنف شديد، عن دور الشعر الأوّل الحقيقي. ذكرتُ ذلك بوضوح في المقطع الأوّل من إحدى قصائد المجموعة، وهي قصيدة (قصائد صغيرة):
  • لا تذهبْ أكثر
  • من مائدةِ الأطفالْ:
  • من مائدةِ الفرحِ الباسق،
  • من مائدةِ النخلِ الباسق
  • وغناءِ البَطِّ، تماثيلِ الطينِ، الأعشابْ.
  • لا تذهبْ أكثر من صحراء الغيرةِ والنومِ الأزرق،
  • صحراءِ الكلسِ الأبيضِ والكلْماتِ الشعثاءْ.
  • لا تذهبْ أكثر من جسدِ الرؤيا!
  • هذه هي الوصيّة الشعريّة الأولى التي ألزمتُ بها نفْسي فالتزمتْ بها طوال المجاميع الكثيرة التي كتبتها بعد “تفاصيل” ولله الحمد، هذه هي بوصلة طريقي الشعري المضيئة بالتأمّل، والزهد، والحبّ بمعناه الواسع الكبير. وهي الوصيّة التي همّشتْ منجزي الشعري إعلامياً زمناً طويلاً حين كنت في العراق، لكنّها، دون شك، عمّقته فنياً. ففي زمن الطغيان يُراد من الشاعر أن يلمّع الأكاذيب، ويبيّض الأسود ويسوّد الأبيض فقط. يُراد منه، بعبارة أخرى، أن يضرب على الطبل لا أن يعزف على الكمان. وفي القصيدة ذاتها، أعني (قصائد صغيرة)، طلبتُ من الشعْر أن يعين الجسد المحروم والروح الملتاعة على السير في مواجهة تيّار الزمن المتناثر أياماً تتكرّر ساعاتها وتتكسّر شموسها، أردتُ منه – ولا أدري هل كنتُ على صوابٍ أم لا – أن يأخذ بيدي:
  • ما نفعُ الأشعار
  • إنْ لم تأخذ بيدي؟
  • لقد تساءلت: إن كنتُ على صوابٍ حين طلبتُ من الشعر أن يأخذ بيدي، إذ ما من جواب حاسم حتّى بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على هذا السؤال الغريب كغرابة الحياة نفْسها والمدهش كدهشة الشعر نفْسه! لكنّ المؤكّد أنّ قصيدتي لم تزل تطلق ذات الأسئلة التي أطلقتها في مطلع حياتي الشعريّة، وتصف حبّي الذي بدا أبيض الروح والنبض ولم يزل، وتتنبّأـ منذ زمن موغل في البُعد- بالغربة التي أعيشها الآن:
  • حُبّي ورقٌ تذروه الريحُ وتسكنهُ البهجة.
  • حُبّي ورقٌ لشوارع يسكنُها الغرباءْ
  • وشوارع ضاعتْ كالغربة.
  • حُبّي ورقٌ من طينٍ أسْوَد:
  • ورقٌ يأبى ويهاجرُ، يزرعُ أو ينسى،
  • ورقٌ للماضي والرغبة،
  • ورقٌ للغيرةِ والفتنة،
  • ورقٌ أبيض.
  • وبعد “تفاصيل” توالت مجاميعي بالصدور، ولله الحمد، حيث صدرت مجموعتي “ديوان عربي”1981 ثم “جيم” 1989 ثم “نون” 1993 ثم “أخبار المعنى” 1996 ثم “النقطة” 1999 ثم “حاء” 2002 ثم “ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة وصولاً إلى مجموعتي الأخيرة “في مرآة الحرف” 2016 ، ليصل عدد مجاميعي باللغتين العربية والإنجليزية إلى  18 مجموعة، إضافة إلى المجلّدين الأول والثاني لأعمالي الشعرية الكاملة ومجاميعي الأخرى التي المترجمةً إلى العديد من اللغات.

د كريمة نور عيساوي:

وما هو الصدى الذي خلفته هذه المجموعة عند المتلقي في تلك الفترة ؟

الشاعر أديب كمال الدين:

* حين صدرت ” تفاصيل” كتب عنها الشاعر فوزي كريم مقالة طيّبة في مجلة ألف باء، أمّا الشاعر عيسى حسن الياسري فقد كتب عنها، في جريدة التآخي، مقالة احتفاء رائعة قرأتها بسعادة غامرة وقتئذ مرّات ومرّات. وظهرت مقالات أخرى عنها غابت، للأسف، عن الذاكرة. وأجرى الشاعر فاضل عباس الكعبي حواراً معي لمجلة (وعي العمال)، وكذلك فعل القاص محمد الرديني لجريدة (الراصد).  كما أقيمت أمسية احتفاء بالمجموعة في مديتني بابل قرأت فيها قصائدي وسط محبة الجمهور.

د كريمة نور عيساوي:

هل يمكن أن نتوقف قليلا عند كل مجموعة من مجاميعك على حدة لنتعرف عليها عن كثب؟

الشاعر أديب كمال الدين:

  • * كان الحرف ولم يزل سبباً في خصوصيتي الأسلوبية الشعرية. بيد أن الوصول إليه لم يكن سهلاً البتة. لكن تيار الألم الملهِم الذي واجهني في حياتي منذ طفولتي حتى الآن دفعني إليه، دفعني إلى الحرف وطلسمه العجيب فتماهيت معه حد أنني عشقته فسهّل العشق عليّ الوصول ثم القبول ثم المثول في حضرته. هكذا تعرّفت إلى أسراره فكانت (النون) بهجة المحبّ وحليب العصفور وهلال العيد والحلم والنوم والجمال المهلك والهالك والحرمان والارتباك والدوران والقمع والإحاطة والسيطرة، كانت النون رمزاً لمحبة كلّ شيء قريب وفي متناول اليد كما القمر في متناول المجنون وهو يرى صورته منعكسة فوق سطح الماء! وقبلها – أي قبل مجموعة (نون) كنت قد كتبت (الجيم) إشارة الجنون والجثة والجحيم والجند والحرب والدم. لكن (النقطة) كانت هي الكينونة دون شك. ففيها السرّ الأعظم، وفيها الطلسم الذي لا يفكّ رموزه أحد وإن ادّعاه الجميع لقداسته وعمقه ولطفه الذي لا يعرفه سوى الخواص وخواص الخواص. وستكون (الحاء) حاء الحبّ والحرية والحنان دون شك، لكنها حاء الحرب والحريق قبل ذلك وبعده، وهي حاء الحلم الجبار الذي يكاد أن يختصر الشعر كله ومعناه كله وغموضه الذي لا حدود له.  بعدها أصدرت (شجرة الحروف) فكان الثمر غريباً، والرحلة التي قطعها الغريب أكثر غرابة. وكدتُ أسمّيها “شجرة اليأس” لولا إخلاصي الذي لا حدود له للحرف، ولولا محبتي التي لا يساورها الشك لشجرة الأمل وإن بدت صغيرة جداً وشاحبة جداً ومتعبة جداً لشدة العاصفة التي تحيط بها وبي. وكان عليّ أن أوثّق لما جرى لي بلغة الاعتراف الجميل الذي سيراه بعضهم لذيذاً والآخر مليئاً بالغموض والثالث عذباً والرابع…أو بلغة الفاصلة الجسدية والزمكانية التي تغني القصيدة وتزيد، ربما، من سعة آفاقها لتحتوي الحياة كلها في لحظة نادرة. الرحلة لا تنتهي بالموت ذلك عجب الدنيا العجاب، لأنّ الحرف لا ينتهي وتأويله شعراً لن ينتهي، وفي هذا بعض العزاء لي بأن سكني في لحاء الحرف قد أنار لي ظلمةَ وداعي وأعانني على الوصول إلى شيء ما وإن كان سرّ هذا الشيء مجهولاً للطفه العميق. لقد عالجتُ كوارث الدنيا وظلامها الكثيف بالحرف وداويتها به. وكان العلاج شافياً للوهلة الأولى لكن الظلام كان مزمناً ، فصار عليّ – أنا المنسيّ المنفيّ في جسده قبل وطنه وفي وطنه قبل جسده- أن أعيد العلاج المرّة تلو الأخرى. ولذا أبدلتُ الحرف من (الجيم) إلى (النون (إلى (الحاء) إلى (النقطة) إلى (ما بعد الحرف.. ما بعد النقطة) وإلى (شجرة الحروف) ، ثم حاورت النقطة والحرف وجعلتهما يتحاوران في كلّ شيء ويتناغيان ويتساءلان ويكتشفان بعضهما بعضاً وينصهران إلى حد التلاشي والذوبان ثم جعلتُ النقطة تعترف وترقص وتبكي وتغني وتعشق وتهيم وتجنّ وتشطح وتشرق أبداً في البر والبحر والنهرً. كنتُ صادقاً فكان حرفي صادقاً هو الآخر، ولسانه كان رطباً أبداً بالدعاء والغناء والهذيان، وكانت النقطة طيبة كدمعة طفل يتيم. لذا لا عجب أن رأيتِ البحرَ والطفل والساحر يهبطون من الحرف ليأخذوا بيدي أنا المتأمل المهووس بالجسد والنار والموت لأسير خطواتي المرتبكة وسط القساة والأجلاف والقَتَلة. بعد ذلك أصدرت (أربعون قصيدة عن الحرف) ثمّ (أقول الحرف وأعني أصابعي)، واستمرت المجاميع تتوالى – ويصل عددها إلى (18) مجموعة ولله الحمد- وصولاً إلى آخر مجاميعي وعنوانها (في مرآة الحرف)، لتوثّق مسيرتي ومسيرة الحرف في تناغم اسمه الأمل وسرّه الألم.

د كريمة نور عيساوي:

  • من أين يستمد شاعرنا الكبير تأملاته الفلسفية؟ وما هو دور الإعجاز القرآني في ذلك؟
  • الشاعر أديب كمال الدين:
  • * اعتمدت أسلوبتي الشعرية على الحرف كما ذكرت، وحروفيتي في أصلها قرآنية. فالحرف حمل معجزة القرآن المجيد ولا بدّ لحامل المعجزة من سرّ له، كما أن الله سبحانه وتعالى أقسم بالحرف في بداية العديد من السور الكريمة، وكان في ذلك ضمن ما يعني وجود سرّ اضافي يُضاف الى سرّ القرآن المجيد نفسه. فمِن القرآن الكريم نهلت معارفي في مختلف الأصعدة. فالقرآن الكريم بحر عظيم وفيه علم ما كان وسيكون، أي علم الأسئلة الكبرى التي واجهت البشرية منذ خلق آدم إلى يومنا هذا عبر أخبار الأنبياء والمرسلين، وتفاصيل عذاباتهم ومعاناتهم وصبرهم وغربتهم وأحزانهم وهم يبلّغون في مختلف الأزمنة والأمكنة رسالةَ التوحيد والمحبة والسلام واحترام الآخر وعدم تحقيره أو الاعتداء عليه بأيّ شكل كان وبأيّة صورة كانت. وهو لكلّ كاتب وشاعر وأديب كنز لا يفنى من المعارف اللغوية والروحية والفكرية، والأسرار الإلهية، والقصص المعتبرة، والمواقف الأخلاقية ذات المضامين العميقة، والحوارات الفلسفية واليومية ما بين الخالق ورسله وما بين رسله وأناسهم. ومن التصوّف تعلّمت معنى التأمل في ملكوت ملك الملوك، ذاك الذي يقول للشيء كنْ فيكون. وتعلّمتُ عظمةَ الزهد، وأسرار الروح الكبرى، ومعنى سياحة الروح عاريةً إلا من رحمة ربي في زمن يعبد الناس فيه دنانيرهم ودولاراتهم حدّ الجنون.

د كريمة نور عيساوي:

– سمعتكم مرّة تتحدثون عن مستويات الحرف هل يمكن أن تقربنا أكثر من ذلك؟

الشاعر أديب كمال الدين:

* حين تأملت في الحرف العربي خلال رحلة شعرية امتدت أكثر من أربعة عقود ولم تزل متواصلة بحمد الله، وجدت أن للحرف العربي ما يمكن تسميته ب(المستويات) فهناك المستوى التشكيلي، القناعي، الدلالي، الترميزي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلسمي، الإيقاعي، الطفولي. هكذا وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتخذت الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كلّه أخلصتُ للحرف عبر عقود من السنين حتي أصبح قَدَري الذي لازمني وسيلازمني للنهاية.

د كريمة نور عيساوي:

كيف ينظر شاعرنا للمرأة؟ وما مدى حضورها في شعركم، وما هي نوعية هذا الحضور؟ 

الشاعر أديب كمال الدين:

  • * المرأة: الأنثى هي خلاصة الذكر/ الرجل/ الشاعر وجدواه ومسرّته وفرحه وعذابه وقلقه ولاجدواه. الأنثى هي ماضيه ومستقبله. وهي بالتأكيد حاضره الذي ينتج في فضائه ما يُقّدر له من نصوص. وعلى هذا تكون هيمنة الأنثى في النص منطقية جداً وضرورية جداً. تصوّري معي عالماً ليس فيه إلاّ الرجال. أيّ عالم ممل هذا يا إلهي! المرأة وحدها هي التي تستطيع أن تكسر حاجز الملل، لكنها عند الشاعر تستطيع أيضاً أن تكسر حاجز الصوت أيضاً! وهي تستطيع أن تصبّ في روحه الفرحَ صبّاً مثلما تستطيع أن تكسر له زجاج روحه ليبقى ملتاعاً حتى النفس الأخير. هذه هي الأنثى: جسد ورماد، قصور وخرائب، حياة وفناء. أما عن الانسجام بيني وبين الأنثى، فأنا آخر مَن يحق له الحديث عن هذا الانسجام! لأنه انسجام لا وجود له من قريب ولا من بعيد! ربما يكون الحديث عن علاقة الارتباك مع الأنثى أو التضاد هو الأدق. وقصائدي تكافح من أجل أن يسود بيني وبين الأنثى، بأشكالها المعقدة وبأسمائها المختلفة، نوع من السلام حتى وإن كان سلاماً بالاسم فقط. من سوء حظ الرجل أو من حسن حظه أن الجمال كله كان ولم يزل في جسد المرأة وليس في أيّ شيء آخر في العالم، ومن سوء حظ الرجل أو من حسن حظه أنه لا يستطيع التخلص أو الفكاك أبداً من أثر هذا الجمال السحري الذي يحمله هذا الكائن اللطيف جداً، واللامبالي جداً، والمغلق على نفسه، والمفكر بطريقة مختلفة عن الرجل، وعصيّة على استيعابه!
  • د كريمة نور عيساوي:
  • * ونحن نقرأ بمتعة كبيرة بعض أعمالكم الشعرية، تطالعنا نسمات من النفحة الصوفية، هل الأستاذ أديب كمال الدين متأثر بالفكر الصوفي؟
  • الشاعر أديب كمال الدين
  • بالتأكيد أنا متصوّف، ومتصوّف ملتزم. ولذا بعد أن كتبت العديد من القصائد الصوفية مثل: إشارات التوحيدي، الرجل، أنين حرفي وتوسّل نقطتي، الحاء والألف، محاولة في البهجة، وغيرها، فقد أكرمني الذي يقول للشيء كن فيكون بكتابة مجموعتي الصوفية الحروفية (مواقف الألف) – منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت2011 – وهو ما تمنيت كتابته منذ زمن طويل. كتبتها ب 55 موقفا صوفياً شعرياً تحاول كلها التقرّب الى البارئ عزّ وجل، وتطلب رحمته، وترجو عفوه، وتتضرع إلى سرّه ونوره ومحبته، وتحلم بحنانه وكرمه ورزقه ولطفه، ولا عجب في هذا فهو الرحيم الكريم الغفور الرزاق البديع اللطيف. تبدأ هذه المواقف بموقف الألف وتنتهي بموقف الجنّة. وما بين الموقفين تمر مروراً ليس عابراً بأسئلة الحياة والموت، واليقين والضياع، والخوف والطمأنينة، والمعنى واللامعنى، والظلام والنور، والشيء ونقيضه. هكذا تبدأ بموقف الخطأ والغربة والوحشة والحيرة والماء والنهر والغرق والمهد والرحيل والحرف والشوق والدائرة لتعرج إلى مواقف الأنبياء والأولياء: نوح وإبراهيم ويعقوب وعيسى والمصطفى (ص) وعلي وكربلاء، وتصل إلى مواقف العزة والدمعة والكتابة والسجن والبيت والسجدة والسلام والحمد. وقد كان سروري بإنجاز هذه المجموعة عظيماً لا يشبه سروري المتحقق حين كتب مجاميع السابقات. فتلك المجاميع تنتمي الى عالم الشعر والإبداع، وهذه تنتمي الى عالم الشعر والإبداع والله. والفرق كبير كما ترين. كان فرحي بها، دون مبالغة، كفرح صيّاد اصطادَ سمكةً في بطنِها ليرة ذهب! ثمّ كتبت بعدها مجموعتي الصوفية (إشارات الألف) التي صدرت عن منشورات ضفاف، بيروت 2014  واحتوت على مائة إشارة ، بل مناجاة مع الحي القيوم ، مثل: إشارة الفجر، الأخضر، كن فيكون، الكلام ، التفاحة، الحرب، الخيط، المرآة، رقصة الوحوش، البحر .  وفي إشارة البحر، قلت:

إلهي،

ماذا فعلتُ

كي أنفقَ العمرَ كلّه مع البحر؟

وكيفَ أنجو منه

وهو الذي يحيطُ بي

كما تحيطُ جدرانُ السجنِ بالسجين؟

كيفَ أنجو منه

وهو الذي يتعرّى أمامي

بألوانه الباذخة

وأمواجِه الغامضة

فأذهبُ إليه كالمسحورِ حيناً،

وكالضائعِ حيناً،

وكالمجنونِ أحياناً أخرى؟

كيفَ أنجو منه

وهو الذي غرقَ فيَّ

قبل أنْ أغرقَ فيه؟

غرقَ في أعماقي السحيقة

حتّى صرتُ كلّ ليلة

أموتُ غريقاً

فأحملُ جُثّتي على خشبتي الطافية

هائماً دون أنْ يراني أحد،

هائماً

إلى الأبد.

د كريمة نور عيساوي:

  • أنجِزَت العديد من الدراسات الأكاديمية حول أعمالكم الشعرية في عدد من الدول العربية والإسلامية، وأُصدِرَت العديد من المؤلفات حول تجربتكم الشعرية، ما هو رأيك بما أُنْجِز ؟
  • الشاعر أديب كمال الدين:
  • * نعم كُتب الكثير من النقد عن تجربتي الشعرية ولله الحمد وصدرت العديد من الكتب النقدية والدراسات والبحوث والمقالات التي كتبها نقاد من العراق وسورية وتونس والمغرب والجزائر واليمن والسعودية ومصر ولبنان والكويت وإيران وأستراليا وإيطاليا، مثلما ناقشت العديد من جامعات تلك البلدان أعمالي في رسائل الماجستير والدكتوراه. والنقاد الذين تناولوا تجربتي كانوا بثلاثة أنواع: الأول الذي وصل إلى أعماق النص الشعري، والثاني الذي لمس قشرة النص فقط، والثالث الذي كان قوله تكرارا لما قيل من قبل عن تجربتي. وعموماً فأنا أشكرهم جميعا وبخاصة نقاد النوع الأول، ذلك أن النقد عملية إبداعية صعبة تسلتزم في مَن يزاولها مهارات دقيقة فكريا وفلسفيا وروحيا وشعريا ولغويا. وهذه لا تجتمع بسهولة عند فرد واحد على الإطلاق.
  • د كريمة نور عيساوي:
  • لقد تُرجمت أعمالكم إلى عدد من اللغات، هل تحقق الهدف الذي كنتم ترمون إليه؟
  • الشاعر أديب كمال الدين:
  • * من الضروري أن يطلع القارئ على تجربة الشاعر ويتعرف على تفاصيلها خاصة عندما تكون التجربة تتناول مشاكل الإنسان الكبرى كالموت والحب والوحدة والحرب. وشعري يتناول بقوة هذه المشكلات ليلقي الضوء على أعماقها السحيقة وتفاصيلها التي لا تُحدّ. وقد سرّني كثيرا أن شعري الذي ترجمته إلى الإنكليزية قد نال محبةالناقد والقارئ الأستراليين فاختيرتْ أعمالي ضمن أفضل القصائد الأسترالية المنشورة عامي 2007 و2012 ونُشرت في أنطلوجيات بأفضل الأعمال الأسترالية. كذلك فقد كُتبت العديد من المقالات النقدية في الباكستان تمتدح قصائدي التي ترجمها إلى اللغة الأوردية المترجم البارع اقتدار جاويد وصدرت تحت عنوان (تناص مع الموت). وكذا الحال مع قصائدي المترجمة إلى اللغتين الفارسية والإيطالية.
  • د كريمة نور عيساوي:
  • أستاذي متى تتلفت القصيدة؟ مِن أي باب دخلت الشعر؟ ومَن علّمكَ كتابةَ الشعر؟
  • الشاعر أديب كمال الدين
  • سأجيبك شعرا على سؤالك الشاعري هذا ، فإعجابك الجميل بقصيدتي الجديدة: (تلك هي روحي) جعلك تستلّين بلطفٍ أسئلتك العذبة منها ، وإليك الأجوبة:

سألني سائلٌ: متى تَتَلفّت القصيدة؟

قلتُ: حينَ تبحثُ عن حرفٍ

ينقذُها ممّا هي فيه.

***

 قالَت: مِن أيّ بابٍ دخلتَ إلى الشِّعْر؟

قلتُ: من بابِ الاضطرار.

قالَت: هذا بابٌ هائلٌ، صفْهُ لي أرجوك.

قلتُ: هو مِن هَوْله لا يُوصَفُ أبداً.

***

قالَت: مَن علّمكَ كتابةَ الشِّعْر؟

قلتُ : الموت.

قالتَ: لكنّكَ حيّ!

قلتُ: نعم، أنا الميّت الحيّ.

د كريمة نور عيساوي:

  • أستاذي لو عُدنا للوراء، وبالضبط تاريخ صدور تفاصيل 1976 وخُيرت بين الشعر أو أي فن آخر هل كنتم ستدخلون التجربة الشعرية من جديد؟
  • الشاعر أديب كمال الدين:
  • لا أظن الإجابة تنفع بشيء . فخيارات الإنسان في صياغة مستقبله اعتمادا على نفسه فقط هي خيارات محدودة فكيف بخيارات الماضي الذي صار نسيا منسيا؟
  • د كريمة نور عيساوي:
  • لا يسعني أستاذي الفاضل في نهاية هذا اللقاء إلا أن أشكركم على سعة صدركم ورحابة أفقكم لأنكم اقتطعتم حيزا ثمينا من وقتكم الضيق لتحلقوا بنا بعيدا في فضائكم الشعري الساحر حيث تشدو الحروف بأنغام السلم والسلام والأمن والأمان والتعايش والتسامح والحب والمودة. وأترك القارئ الكريم يتجول حرا طليقا في ردهات السيرة العلمية الحافلة بالمنجزات الأدبية والفنية لأمير الحروف الشاعر الكبير أديب كمال الدين.
  • – أديب كمال الدين في سطور-

 

أديب كمال الدين شاعر ومترجم وصحفي من العراق مقيم حالياً في أستراليا. ولد عام 1953 في محافظة بابل. تخرّج من كلية الإدارة والاقتصاد- جامعة بغداد 1976. كما حصل على بكالوريوس أدب انكليزي من كلية اللغات- جامعة بغداد 1999، وعلى دبلوم الترجمة الفوريّة من المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا 2005. أصدر 18 مجموعة شعريّة بالعربيّة والإنكليزيّة، كما تُرجمتْ أعماله إلى العديد من اللغات كالإيطالية والفارسية والأوردية والإسبانية. نال جائزة الشعر الكبرى عام 1999 في العراق. واخْتِيرَتْ قصائده ضمن أفضل القصائد الأستراليّة المكتوبة بالإنكليزيّة عاميّ 2007 و 2012 على التوالي.

صدرت تسعة كتب نقديّة عن تجربته الشعريّة، مع عدد كبير من الدراسات النقدية والمقالات، كما نُوقشت العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناولت أعماله الشعريّة وأسلوبيته الحروفيّة الصوفيّة في العراق والجزائر وإيران وتونس.

* صدرت له المجاميع الشعرية الآتية:

– تفاصيل ، مطبعة الغري الحديثة ، النجف، العراق 1976 .

– ديوان عربيّ ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق 1981 .

– جيم ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، العراق 1989.

– نون ، دار الجاحظ ، بغداد ، العراق 1993.

– أخبار المعنى ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد، العراق 1996.

– النقطة (الطبعة الأولى) ، مكتب د. أحمد الشيخ ، باب المعظّم، بغداد، العراق 1999.

– النقطة (الطبعة الثانية) ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان 2001.

– حاء ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،  بيروت، لبنان 2002.

– ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ، عمّان ، الأردن 2006.

– شجرة الحروف ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ، عمّان ،الأردن 2007.

– أبوّة Fatherhood ، (بالإنكليزية) دار سيفيو، أديلايد، أستراليا 2009.

– أربعون قصيدة عن الحرف ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ، عمّان، الأردن 2009

– أربعون قصيدة عن الحرف، Quaranta poesie sulla lettera  (بالإيطالية: ترجمة: د. أسماء غريب)، منشورات نووفا إيبسا إيديتوره ، إيطاليا 2011.

– أقول الحرف وأعني أصابعي ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2011.

– مواقف الألف ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2012.

– ثمّة خطأ Something Wrong ، (بالإنكليزية) دار ومطبعة Salmat ، أديلايد ،أستراليا 2012.

– الحرف والغراب ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2013.

– تناص مع الموت: متن در متن موت (بالأورديّة: ترجمة: اقتدار جاويد) ، دار كلاسيك ، لاهور، باكستان 2013.

– إشارات الألف ، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان 2014

– الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الأوّل، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان 2015

– رقصة الحرف الأخيرة ، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان 2015

– في مرآة الحرف ، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان 2016.

– الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الثاني، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2016

موقعه الشخصي:      www.adeebk.com

 

 

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية Hejmara (21) a Kovara Şermola Derket

  صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية   صدر العدد (21) ...

السهل الممتنع في ديوان “للحبر رائحة الزهر” للشاعر نصر محمد/ بقلم: ريبر هبون

وظف نصر محمد الإدهاش مغلفاً إياه بالتساؤل مقدماً اعترافاته الذاتية على هيئة ...

شعاراتٍ العربْ / بقلم: عبدالناصرعليوي العبيدي

فــي  شعاراتٍ العربْ دائــماً تَــلقى الــعجبْ . رُبّما  المقصودُ عكسٌ لستُ أدري ...

 القراءة :النص بين الكاتب والقارئ/ بقلم مصطفى معروفي

من المغرب ــــــــــــ بداية نقول بأن أي قراءة لنص ما لا تتمكن ...

جديلة القلب/ بقلم: نرجس عمران

عندما تضافرتْ كلُّ الأحاسيس في جديلة القلب أيقنتُ أن رياحكَ هادرة ٌ ...

على هامش تحكيم مسابقة تحدي القراءة / فراس حج محمد

من فلسطين تنطلق مسابقة تحدي القراءة من فكرة أن القراءة فعل حضاري ...

نســـــــــــــرين / بقلم: أحمد عبدي 

  من المانيا “1”   توقف البولمان  في المكان المخصص له  بعد ...

أناجيكَ ياعراق / بقلم: هدى عبد الرحمن الجاسم

أناجيكَ بين النخلِ والهورِ والنهرِ وأشكو لكَ الإبعادَ في الصدِِّ والهجرِ إلامَ ...

واحة الفكر Mêrga raman