الرئيسية / قصة / العالق…/ بقلم: ياسمين خدومه

العالق…/ بقلم: ياسمين خدومه

العالق…/ بقلم: ياسمين خدومه

ــــــــــــــــــ

من كان يظن أنّ يوسف سوف يعلق هنا؟ لم يكن الأمر غير سفرة يسيرة يقضي منها مآربه ثم يعود، نعم كان من المقرّر أن يزور والدته بسبب مرض ألمّ بها، ثم يقفل راجعا إلى منفاه حيث أسرته وعمله، هذا ما كان يجب، لكنه ولظروف قاهرة علق حيث لا يتوقّع، بمرور الوقت وجد نفسه في مواجهة المرض وتشابك المسؤوليات، الوالدة مرهقة، أمراضها تثقلها فوق ثقل سنواتها، حين سأل الطبيب عن إمكانية شفائها السريع لم يؤكد له هذا الأخير الأمر بصورة قاطعة، قال من تحت نظّارته الطبية السّميكة:

– الأمر يدعو إلى عملية جراحية عاجلة.

– كم يتطلّب وقت الشفاء يا دكتور؟

كان سؤاله مرتبطا بعلاقة العودة إلى أسرته التي تركها خلفه، نعم من حقّه أن يطمئن قلبه على والدته، لكن أسرته أيضا هناك في أمسّ الحاجة إليه، هو رجل البيت، المعيل والحامي..

الطبيب يهزّ رأسه من دون أن يصل به إلى بر الأمان، فما يشوش خاطره الآن هو نجاح العملية من فشلها، ينتابه الخوف، خوف كبير ويوسف يواجهه بالسؤال عن مدّة الشفاء، كأنه قطع يقينا بأنّ الطبيب، كل طبيب إذا ما عُرضَ أمامه مثل هذا الأمر سوف ينجح، كأنه يقول له بالهمس ” أنت قدّها وقدود يا دكتور ” بإمكانه أن يتجاوز بأمه الخطر، والسؤال المهم الآن هو متى ستشفى؟

ابتسم الطبيب، طابت نفسه فيوسف لم يسأله عن نسبة نجاح العملية، هكذا اطمأن إلى أنّ الأمر في يده هو وحده، ترك يوسف في الردهة ودلف إلى غرفة العمليات..

ظلت لأيام تحت الرقابة، تزورها ابنتها ياسمين بأمل أن تجلس إلى جوارها، تحضن أصابعها النحيلة في كفّها، لكن وصاية الأطباء تقول ” ليس بعد .. ” الأم عالقة في الأنابيب، قلبها واهن، وابنتها بالكاد تصدّق ما يحدث، ويوسف يعلق في الخارج، يعلق مع نفسه، يعلق في الخوف.. أقفلت المطارات، وسكت كل ما في الحياة والأحياء، يا ألطاف الله، منذ أن هجم الفايروس تغيّرت حياة النّاس، من يصدّق أن يعلق كل شيء بكل شيء.

الأيام تتطاول، تمتد، الليالي كرقاب زرافات، لن تحظى ياسمين بالجلوس إلى والدتها في سرير واحد بحكم المرض المعدي المتفشي، الخوف يلجم الناس، ويوسف لا يعرف ما الذي يفعله:

– ايه يا أمّي..

من وراء الزجاج العازل يطالعه وجهها الشاحب، أخته لا حظّ لها في احتضان أمهما، جوّاله لا يتوقف عن الرنين، تتصل زوجته، لم يعد الانتظار يشبع صبرها..

– اتصلوا من العمل.. قالت

– المطارات مقفلة.

– متى؟

– لا أعرف..

– وما أفعل؟

– تصرّفي..

في آخر مكالمة دارت بينهما قالت له لقد استلمت أوراق إنهاء عملك هذا الصباح، نزل الخبر كالصاعقة على أم رأسه، فتحت الرسالة على عجل، قرأتها، طالعت بتوتر ظاهر، بدت الخيبة على وجهها.. ولولت، بكت، جرت لا تلوي على شيء وعلقت بالجوّال:

– ألو..

كانت تبكي على الطرف الآخر، وعرف هو.. سريعا عرف أنهم أوقفوه عن العمل، قال يطمئنها:

– لا تقلقي الله الرازق.

بكت.. فقال مرة أخرى:

– ثقي بالله..

حين التفت إلى السرير، سرير أمه، طالعه وجهها الشاحب، عضّ على شفته بيأس وقلق وغادر..

هي عالقة في الأنابيب مثلما تعلق أخته ياسمين في أمل شفاء والدتها، أما هو فيعلق في الانتظار، ينتظر القادم، لا يعرف أين ولا كيف.. لكنه ينتظر على الطرف الآخر بأمل واهن، وروح ضعيفة يائسة..

 

ياسمين خدومه/ تونس

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

تخفي الهشاشة في زمن مغلق/ بقلم: مصطفى معروفي

شاعر من المغرب ـــــــــ صدِّقوا الطير إن هي مدت مراوحها في دم ...

رحل بيتر هيجز: الرجل الخجول الذي غير فهمنا للكون/بقلم جورجينا رانارد/ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

  اشتهر البروفيسور بيتر هيجز بهذا الشيء الغامض الملقب بـ “جسيم الإله” ...

القيم الاجتماعية في عشيق الليدي تشاترلي للكاتب دي اتش لورنس/ محمد عبد الكريم يوسف

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع ...

آهٍ إن قلت آها / بقلم: عصمت دوسكي

آه إن قلت آها لا أدري كيف أرى مداها ؟ غابت في ...

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

واحة الفكر Mêrga raman