الرئيسية / قصة / رجلٌ هندي يُهديني جوازهُ الدبلوماسي/ بقلم: أحمد الشحماني

رجلٌ هندي يُهديني جوازهُ الدبلوماسي/ بقلم: أحمد الشحماني

رجلٌ هندي يُهديني جوازهُ الدبلوماسي

بقلم: أحمد الشحماني

ــــــــــــــــ

بدايةً ….

 

يجب أن أعترف أنا إنسانٌ تلاحقني الخيباتُ أينما يممتُ وجهي ..

الخيباتُ تطاردني ليلَ نهار كأنها تعويذةُ العمر ….

 

أُتيحتْ لي فرصٌ كثيرة لم استغلها، مثلما عشقتُ نساءً كثيرات أضعتهن خلفَ جَنازتي، وها أنا أبحرُ وحدي، بجناحٍ مكسور، وقلبٍ مُمزق، في زورقِ العمرِ التائه …

 

*     *     *

 

في أيلول/ سبتمبر عام 1990 التحقنا نحنُ خريجي الكليات الإنسانية للخدمةِ العسكرية الإلزامية -إلى كليةِ الضباط المُجندين في بغداد.

 

في هذا الوقت يكونُ قد مرَّ قرابةَ الشهر على اجتياح القوات العراقية للكويت.

 

استغرقتْ عمليةُ الالتحاق بفحوصاتها وتدريباتها وقتًا تجاوزَ الأربعين يومًا، وأيضًا تضمَّنتها مراجعات للاختبار البدني في مبني الكلية العسكرية الثانية …

 

انطلقتُ من مدينتي الجنوبية الناصرية مهرولاً إلى بغداد، تجرّني روحي من ياقةِ قميصي الصيّفي، فارغَ الجيبِ إلا من بعضِ النقودِ التي لا تُكفيني لمدةٍ تتجاوز الأسبوعين على أكثرِ تقدير، لأعيشَ حياةَ الكفاف.

 

اخترتُ فندقًا درجة عاشرة بعد المئة أو رُبَّما درجة عشرين بعد الألف، فندقًا بائسًا في منطقةِ البتاويين، ليلته بنصفِ دينار عراقي، في غرفةٍ بائسةٍ، يسكنُ فيها خمسةُ أو ستةُ أشخاصٍ، تتغير وجوههم كل ليلةٍ، بعضهم عسكريين، وبعضهم أولاد شوارع، وسكارى ومكسلين، وأصحاب سوابق.

 

لم أكن مُكترثًا لنظافةِ الغرفةِ بقدر تفكيري كيف أقضي الليل الصيّفي فوق سطح الفندق إذ كنتُ أشعرُ كأني طفلٌ تائه في مدينةٍ تائهة, لكن هذا الإحساس المُوغل بالتيّه سرعان ما يتبدّد أمامَ مُتعةِ تأمل الليل المُزيّن بقلادةِ القمر وصويحباته النجوم المتلألئة في كبدِ السماء رغم انبعاث رائحةٍ كريهةٍ ومقرفةٍ تشمئزُ منها النفس البشرية, أجدها تتصيّدني حالما أضعُ رأسي على وسادةٍ مصنوعةٍ من قطعةٍ أسفنجيةٍ مُتهالكةٍ مُمزقةِ الأطراف, تُصبغها حيامن السكارى والمعتوهين الذين رُبَّما ضاجعوا ألفَ امرأةٍ عاهرة من نسجِ خيالاتهم, أو رُبَّما مارسوا الإستمناء ليلاً وسكبوا كل مياه قاذوراتهم على هذه القطعة الأسفنجية القذرة التي صارت من نصيبي …

وآه من نصيب وقدري ..

 

حين يأتي الليلُ، استلُّ قطعةَ الإسفنج من الغرفةِ القذرة، وأحملها بيدي كطفلةٍ مُدللة إلى سطح الفندق، وأرميها على بقعةٍ مُظلمةٍ يتسللُ إليها ضوءُ القمر خلسةً، ألصقها قربَ الجدار العلوي لسطحِ الفندق، وأرمي فوقها جسدي المُتعب المُنهك …

 

*     *     *

 

على سطح الفندق، يتجمعُ عشراتُ الأشخاصِ ليلاً، ينشطرون ويتكاثرون إلى مجاميعٍ حلزونية الشكلِ، فترى مجموعةً تَحتسي الخمرَ وتستمعُ إلى أغاني عبادي العماري وسعدي الحلي، ومجموعةً تستمعُ إلى أم كلثوم وعبد الوهاب، وآخرين يضحكون ويقهقهون بصوتٍ عالٍ وهم يحكون قصص مغامراتهم في الحرب وأيام الشباب والمراهقة التي تُخَّلدها قصصهم الصاخبة المثيرة للجدل. كنتُ أشعرُ وكأني ضائعٌ وسط مجاميع من البشر، مرةً أضحكُ على نفسي، ومرةً أبكي وأرثي قدري الأحمق الذي أتى بيّ ورماني على سطحِ فندقٍ بائسٍ متهالك، وجعلني بينهم كالمعتوه، وألعنُ الفقرَ الذي أجده قد تَسيّدَ الموقف.

 

في النهار أذهبُ إلى مقر الكلية العسكرية الثانية لاستكمالِ المقابلاتِ والاختباراتِ البدنية، فكنتُ أذهب بعينٍ مُغمضةِ الجفنِ، مُتعبٍ، مُنهكٍ بسببِ عدم قدرتي على النوم ليلاً، وكيف أنامُ والحُورُ العين تُحيطُ بيّ فوق سطحِ الفندقِ البائس من كلِ الاتجاهات، وتُسمعني أعذب الموسيقى الرومانسية؟

فواحدةٌ تُغريني بصدرها العاجيُّ المُدوَّر، المزروع بتفاحتين ناهدتين، وأخرى تجرّني إلى مَخدعها وبيدها كأسٌ مُحلى بالنبيذِ المُصفى، وثالثةٌ تحَّدثني عن أسرار النساء وكيف يلتصقن بأنهارِ الخمرِ وينتشين ثمالةً في أحضانِ الرجال، ورابعةٌ وخامسةٌ حتى يحين الصباح وتستيقظ عروستنا شهريار من نومها المباح …

 

في أوقات العصريات, تمسكني روحي من ذراعي وتصطَحِبُني معها إلى شارع السعدون لممارسةِ طقوسها المُحببة فأجدُ نفسي مُتجولاً هنا وهناك  حيثُ التجمعاتُ البشريةُ, ومطاعمُ شواء المشويات المُغرية التي تغتالني روائحها الطيبة, وتتراقصُ روحي لها اشتهاءً وطربًا دونما لقمةٍ لذيذةٍ تقذفها لي تلك المطاعم اللعينة فألوذُ بشهيتي حسيرًا مُعذبا, وحيثُ محالُ الملابسِ, وأجسادُ النساءِ الممشوقاتِ, المكتنزاتِ الشفاه, اللاتي يتراقصن بمؤخراتهن الشهيّة حدّ الوجع, واللاتي يسرقن اللب حتى لا حراكَ به وهن أضعفُ خلق الله إنسانًا …

 

وحين أشعرُ بالتعبِ أجلسُ في حديقةِ الأمة، وألعنُ أبو الأمة. أجلسُ كأيِ شحاذٍ كسولٍ أترقبُ الوجوه الذاهبة الآتية، وزفيرُ أنفاسي يرشُقني بألفِ وجع.

*     *     *

في إحدى العصريات، وبينما كنتُ أتجوّل وكعادتي في شارع السعدون، وإذا برجلٍ هندي أسمر حنطي ضعيف البدن كأنهُ نسخةٌ مني استوقفني متسائلاً إن كان بوسعي أن أرشده إلى شارعِ أبي نؤاس.

 

تحدثَ معي في الانكليزية. لم أبخل عليه، ومتى كنتُ بخيلاً مع الناس؟ ..

 

رافقتهُ في جولةٍ عصرية إلى شارعِ أبي نؤاس لنؤنس أرواحنا من زحمةِ تجمعات شارع السعدون المُكتظ بالبشر …

 

جلسنا في حديقةٍ في شارعِ أبي نؤاس بعد أن استأذنا من شاعرنا الجميل أبي نؤاس. حدَّثني الرجلُ الهندي عن ماضي حياته الجميل في الكويت الذي تسببتْ أجواء -الاجتياح العراقي للكويت -في الثاني من آب/أغسطس في خروجهِ من الجنةِ، وخروجه من الجنةِ سبَبَ له اشكالات نفسية ووظيفية إذ كان يعملُ في السفارةِ الهندية في الكويت، وحاليًا هو في بغداد ينتظرُ بعض الإجراءاتِ، وينتظرُ أيضًا بعض الأصدقاء الذين سيلتحقون به ويسافرون معًا إلى الأردن وبعدها إلى بلده الأم الهند.

 

في خضمِ حديثُنا، سألني إن كنتُ طالبًا أو موظفًا. قلت له يا سيدي أنا خريج كلية الآداب وحاليًا مُساق إلى العسكرية، إلى كليةِ الضباط المُجندين لأداءِ خدمةِ العلم. سألني إن كنتُ قد سافرتُ سابقًا إلى دولةٍ أوربية أو دولةٍ مجاورة، فجاءوه جوابي مسرعًا كأنهُ خيولٌ متسابقة:

 

  • كلا يا سيدي، نحن العراقيون مثل جبر، من (….) أمهِ للقبر..

ضحكَ الرجلُ الهندي بعد أن ترجمت له ماذا تعني هذه العبارة المُؤلمة، وسألني من هو جبر؟

 

ضحكتُ أنا أيضًا وقلتُ له:

  • يا سيدي أنهُ مثل عراقي يحكي مُعاناةَ رجلٍ لم ير في حياته غير القهر، من ذاك إلى ذاك، من فتحةِ مهبلِ الأم إلى فتحةِ مهبلِ الأرض.

 

سألني سؤالاً آخر إن كنتُ أحبُ مغادرة العراق كأي إنسانٍ حر، فجاءوه جوابي:

 

  • أجل يا سيدي ومن منّا لا يحبُ مغادرة هذا السجن الإسطوري المصنوعةُ سقوفه من عذابات البشر؟

 

استمر حديثنا المُمتع لأكثرِ من ساعتين، وشعرتُ بأنه بدأ يتفهم وضعي ويستشعر حجمَ طموحي وحُلمي لمغادرةِ العراق، إذ ذاك أخرجَ جوازًا من جيبهِ وقالَ لي:

 

  • بإمكانك أن تغادر العراق بجوازي الدبلوماسي إن أردت. خذه يا صديقي، وأنا أضمن لك المغادرة مع أصحابي الذين سيلتحقون بيّ بعد أيام قليلة ..

 

  • وماذا بخصوصك أنت يا سيدي، كيف ستغادر البلد؟ ..

 

  • لا تقلق سأغادرُه عن طريقِ السفارةِ الهنديةِ بعدما أتيّقن من مغادرتك العراق ووصولك إلى مكانٍ آمن، سأدّعي بأني فقدتُ جوازي ..

 

تسمَّر قلبي بين يديَّ كعصفورٍ مذعور، بين مُستوعبٍ لفكرةِ الرجلِ وبين رافضٍ لفكرتهِ ….

 

وبينما أنا مشغولٌ في فكرةِ الجوازِ ومغادرةِ العراق ومبادرة هذا الرجل الهندي الطيب، عَبثَ صوتهُ بصمتي قائلاً:

 

  • ما رأيك يا صديقي أن نتناول سمكًا مسقوفًا طازجًا؟ أرجو أن تقبل دعوتي …

 

وافقتُ على دعوتهِ …

 

وبينما نحن متجهان إلى مطعمِ السمك المسقوف، سألني إن كنت أحبُ أكلَ السمك.

  • أجل يا سيدي أنا من عشاق السمك.

بادرني بسؤالٍ آخر..

  • متى آخر مرةٍ تناولت وجبةَ سمكٍ يا صديقي؟

 

أحرجني سؤالهُ المُوجع.

  • قبل ثلاثةِ أيام يا سيدي ..

 

بينما أنا في الحقيقةِ لم أذق لأكثرِ من شهر وجبةَ طعامٍ فيها عظم سمك ..

آه من عذاباتِ روحي …

 

جلسنا في أحدِ المطاعم، واخترنا سمكتين طازجتين، كانتا ترقصان في حوضِ ماء، وبعد شوائهما جاء بهما النادلُ إلينا لنأكلهما بشهيّةٍ مُفرطة.

 

افترسنا السمكتين اللذيذتين وكرَعنا بعدهما كوبين من الشاي المُهيّل.

 

خرجنا من المطعم وأكملنا الطريقَ باتجاه شارع السعدون، وتوقفنا قربَ المكان الذي التقينا فيه. ناولني الرجلُ الهندي كارت فيه اسمه واسم الفندق الذي يقيم فيه، وطلبَ مني أن أزوره في اليوم التالي ..

 

زرته في اليوم التالي عصرًا، في الفندق الذي يسكن فيه، وتناولنا بعض القهوة. عرضَ عليّ بسخاءٍ وطيبة ذات العرض السابق أن أسافر بجوازه مع أصحابه الهنود إلى الأردن ومن ثم إلى أي بلدٍ آخر …

 

صرخَ صوتٌ في داخلي، رافضًا للفكرةِ إذ شعرتُ بخوفٍ يُسيطرُ على هواجسي ويحتلُ كلَّ مدنِ أفكاري .

 

  • معذرةً لا أستطيع المغامرةَ بجوازِ شخصٍ ليس جوازي. قلتُ له بصوتٍ صريح ..

 

شكرتهُ على مبادرتهِ الإنسانية الطيبة، وعانقتهُ، ورجعتُ أدراجي إلى فندقِ البتاويين البائس أنشدُ ملحمتي، واستعدُ للنومِ فوقَ سطحِ الفندق لاستمتع واستعذب أغاني وحكايات السكارى والمكبسلين والتائهين، ولسان حالي يقول:

 

الحياةُ مع البائسين رغم عذاباتها وأوجاعها فيها نكهةُ تستعذبها الروح ….

 

أحمد الشحماني

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية Hejmara (21) a Kovara Şermola Derket

  صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية   صدر العدد (21) ...

السهل الممتنع في ديوان “للحبر رائحة الزهر” للشاعر نصر محمد/ بقلم: ريبر هبون

وظف نصر محمد الإدهاش مغلفاً إياه بالتساؤل مقدماً اعترافاته الذاتية على هيئة ...

شعاراتٍ العربْ / بقلم: عبدالناصرعليوي العبيدي

فــي  شعاراتٍ العربْ دائــماً تَــلقى الــعجبْ . رُبّما  المقصودُ عكسٌ لستُ أدري ...

 القراءة :النص بين الكاتب والقارئ/ بقلم مصطفى معروفي

من المغرب ــــــــــــ بداية نقول بأن أي قراءة لنص ما لا تتمكن ...

جديلة القلب/ بقلم: نرجس عمران

عندما تضافرتْ كلُّ الأحاسيس في جديلة القلب أيقنتُ أن رياحكَ هادرة ٌ ...

على هامش تحكيم مسابقة تحدي القراءة / فراس حج محمد

من فلسطين تنطلق مسابقة تحدي القراءة من فكرة أن القراءة فعل حضاري ...

نســـــــــــــرين / بقلم: أحمد عبدي 

  من المانيا “1”   توقف البولمان  في المكان المخصص له  بعد ...

أناجيكَ ياعراق / بقلم: هدى عبد الرحمن الجاسم

أناجيكَ بين النخلِ والهورِ والنهرِ وأشكو لكَ الإبعادَ في الصدِِّ والهجرِ إلامَ ...

واحة الفكر Mêrga raman