الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / في الحاجة إلى علم كلام جديد / بقلم: إبراهيم أقنسوس

في الحاجة إلى علم كلام جديد / بقلم: إبراهيم أقنسوس

في الحاجة إلى علم كلام جديد              

بقلم: إبراهيم أقنسوس

………….

يحتاج تاريخ الفكر لدى المسلمين، إلى المزيد من الحفر المعرفي والمنهجي، وإلى المزيد من تقليب وجهات البحث والنظر، بغاية الانفتاح على قراءات أخرى، تروم تقديم إجابات جديدة، وأكثر عمقا ونجاعة، للكثير من الأسئلة والإشكالات، التي ترتبط بالمنجز الفكري، للعقل المسلم، عبر مراحله وسياقاته المختلفة. ويبدو الأستاذ الباحث، الدكتور علال بلحسني، موفقا في اختيار مبحث (علم الكلام)، من خلال كتابه (علم الكلام بين سياقات النشأة وعوامل التطور) (1)، لتسليط الكثير من الضوء، على مجمل القضايا، التي كانت موضوعا لجدل طويل، ونقاش عريض، لم ينته منه الفكر الإسلامي، ولا يبدو أنه سينتهي منه، في الأمد المنظور على الأقل، لأسباب كثيرة ومتداخلة، يلتقي فيها الديني بالسياسي، ويتعالق فيها الذاتي بالموضوعي.

يبادر الباحث ، في مقدمة الكتاب ، إلى الدفاع العلمي ، عن اختياره لهذا الموضوع ، مؤكدا على ضرورة معرفة القديم ، من أجل تأسيس علم كلام جديد (ص :6) ، وهي نفس الغاية التي اختتم بها بحثه ، حين اعتبر جهود الأوائل نبراسا ، يستنير به من يتولى مشعل التفكير ، داعيا إلى ابتكار مناهج جديدة ، تجيب عن أسئلة الحاضر ، وعدم الاكتفاء بمناهج القدماء ، التي تجيب عن أسئلة عصرهم (ص: 269) ، ما يعني أن الأمر يتعلق بقراءة تروم فهم قضايا الفكر الإسلامي ، في شقها المرتبط بعلم الكلام ، من أجل تحقيق تجاوز إيجابي ومنتج ، وهي الغاية التي صاحبت الكاتب طيلة هذا البحث ، تلميحا حينا وتصريحا أحيانا ، وهو يأتي على تقديم قراءة مركزة ، لجل آراء واختيارات الفرق الكلامية ، كما وردت في الكثير من المراجع والمصادر المعتبرة في هذا الباب ، وهي على التوالي ، وكما يعرضها الكتاب ، ( فرقة المعتزلة ، فرقة الأشاعرة ، فرقة الخوارج ، فرقة الشيعة ) .

ويبدو الكاتب معنيا بتقديم مركز لأهم ما عرفت به كل فرقة ، وأهم ما أثارته من قضايا وخلافات ، سواء ما تعلق بخلافاتها ، فيما بينها ، وبين غيرها من الفرق ، كشأن المعتزلة والأشاعرة ، أو ما تعلق بخلافاتها الداخلية ، بين عناصرها وأعضائها ، ثم فصائلها التي انبثقت عنها بعد ذلك ، كالخلافات بين الفرق التي انشقت عن فرقة الخوارج ، وهي فرقة  الأزارقة (ص169إلى ص 182) ، وفرقة النجدية (ص183إلى ص189) ، وفرقة البيهسية (ص189إلى192) ، وفرقة الصفرية (ص192إلى196) ، وفرقة  الإباضية (ص 196إلى ص208) ، أو الخلافات التي انبثقت عن فرقة الشيعة ، بين ما سمي بالفرق الغالية أو الغلاة ، وما سمي بالرافضة ، ثم فرقة الزيدية ، على خلاف بين المؤرخين والعلماء ، في تحديد معنى هذه التسميات ، ومقتضياتها العقدية والفكرية (ص 230 ، 231 ) ، وأعدادها وتصنيفاتها .

ويقدم الكاتب عرضا علميا مركزا، حول الكثير من الخلافات والتدقيقات التي كانت مثار جدال نظري بين هذه الفرق، بكل عناصرها وأقسامها التي انبثقت عنها، الغالية منها والرافضة والمعتدلة، أو ما سمي كذلك، استنادا إلى المصادر والمراجع المعتمدة في هذا الباب، وكما هي مثبتة في الفهرس (لائحة المصادر والمراجع: ص: 271 إلى 288). يستفاد من تتبع المواقف النظرية والفكرية ، لمجمل الفرق التي أتى ذكرها في هذا البحث ، أن هناك فروقات معرفية ومنهجية واضحة ، فيما بينها ، فإذا كنا نستطيع أن نلاحظ ونقر، بتوفر فرق ( المعتزلة ، والأشاعرة ، والشيعة ، الإمامية خاصة ) ، على بناء نظري عقدي وفكري معين ، فإنه يصعب أن نعثر على ذلك بالنسبة إلى الفرق الأخرى ، التي ظهر أنها تعتمد في دفوعاتها على آراء وتأويلات ، تبدو مفتقدة لأي تماسك معرفي أو منهجي ، أو هكذا نقرأ ، بالنسبة لفرقة الخوارج ، بجل تقسيماتها ، ( الأزارقة ، النجدية ، البيهسية ، الصفرية ، الإباضية… ) ( ص132 إلى ص208) ، وأيضا بالنسبة لبعض فرق الشيعة ، الغلاة منهم بخاصة ، (ص232 إلى 239) .

 

ومن الناحية المنهجية، يبدو الكاتب منشغلا بتتبع المسارات الفكرية الأساس للفرق الكلامية، التي أتى على ذكرها، بداية من النشأة، مرورا بأهم التحولات والتغيرات التي طرأت عليها، انسجاما مع العنوان الذي اختاره لهذا البحث، (علم الكلام بين سياقات النشأة وعوامل التطور)، ويمكن الإشارة في هذا الصدد، إلى بعض الملامح المنهجية التي يمكن قراءتها في هذا الكتاب، وهي على التوالي:

أولا: الميل إلى تقديم المعلومات بشكل مركز، وضمن عبارات دالة، هي أقرب إلى الخلاصات المفيدة والوافية، مثال ذلك نقرأه أثناء حديثه عن فرقة الخوارج، يقول: (وعليه فمبتدأ الخوارج هو ذو الخويصرة، حين اعتراضه على الرسول صلى الله عليه سلم، ثم صاروا جماعة لا تحمل شعارا بعينه في أحداث الفتنة ….) (ص144)، وفي موضع آخر يكتب (وعليه فالخوارج كانوا فرقة واحدة، تسمت بالمحكمة، وبقيت حتى سنة أربع وستين على ذلك، ثم انقسموا بعد عودتهم من مكة وظهور فتنة ابن الأزرق …) (ص203). فالكاتب يعمد إلى جرد مركز لأهم الأقوال، المرتبطة بموضوع معين، يخص فكرة محددة في بحثه، ثم يعقبها بخلاصة، مثال ذلك قوله: (يمكننا أن نستخلص من هذه الأقوال، أن الجارودية هم متطرفو الزيدية …) (ص: 242)، وفي موضع آخر، وبعد عرض مختلف الآراء يقول: (ولا شك أن معنى البداء يكون فيمن علمه ناقص، ويجهل عاقبة الأشياء …) (ص: 265).

ثانيا: الميل إلى مناقشة الكثير من الروايات، والترجيح فيما بينها، مثال ذلك مناقشة مسألة قتل الأطفال، عند الأزارقة (ص 170). ويمكن ملاحظة هذا الملمح المنهجي، في الترجيح بين الآراء والروايات، في أكثر من موضع، مثال ذلك قوله: (ولعل أرجح الأقوال فيما يخص المؤسس الأول لهذه الفرقة هو ما ذهب إليه الأصبهاني والمسعودي ….) (ص196)، وفي موضع آخر، يتعلق بالموازنة بين الفرق من حيث الاعتدال، أو الغلو، اعتمادا على مذهب أهل السنة، أو كما جاء في الكتاب، يقول: (وهذه الفرقة تبدو أكثر اعتدالا من الجارودية فهي تقول بقول زيد، لكنها أخطأت في تكفير عثمان …) (ص244)، وبنفس المنطق يتحدث عن فرقة الزيدية يقول: (هذا وتعد فرقة الزيدية من أكثر فرق الشيعة اعتدالا …) (ص248)، ونفس الكلام يصدق على حديثه عن فرقة الإمامية، (الإمامية ماعدا الفرقة التاسعة، التي ذكرناها، تقول بحدوث الصفات …. ) (ص: 263).

ثالثا: وحين يتعلق الأمر بالفرق الكبيرة، التي شهدت انقسامات كثيرة، وتتطلب منهجيا قراءات أكثر طولا، نجد الباحث، يعمد إلى تقديم نظرة موجزة ومركزة عن كل فرقة، ليعود بعدها إلى التركيز على الفرقة الأبرز، مفردا لها حيزا أكبر، مثال ذلك، حديثه عن فرق الشيعة بجل تقسيماتها، ثم عن فرقة (الإمامية الإثنا عشرية)، بما هي الفرقة الأكبر والأبرز (ص: 249 إلى 268).

رابعا: اعتماد لغة تقوم على الاحتياط العلمي، وأخذ مسافة مقدرة من التقييمات والأحكام، بكلمات وعبارات تفيد هذا المعنى مثال ذلك قوله: (ولعل المنهج المعتدل الذي نهجته هذه الفرقة ….) (ص198).

خامسا: يميل الكاتب أحيانا، إلى تحليل بعض النصوص التي تبدو ذات دلالة خاصة، في بحثه، بغرض استنباط المفيد منها، مثلا مقارنته بين التعاريف المحددة لمعنى كلمة (شيعة) (ص: 218 و219).

سادسا: مثير للانتباه والتقدير، هذا المجهود المعتبر الذي بذله الكاتب، في تجميع المعلومات، استنادا إلى مصادر ومراجع كثيرة ومتنوعة، مع الاجتهاد في عرضها مرتبة، بشكل يساعد على تلقيها وحسن التفاعل معها.

فضلا عن هذه الإشارات المنهجية السريعة، يمكن أن نشير إلى ما يمكن تسميته، ببعض الرهانات والمقاصد التربوية والفكرية لهذا البحث، كما يمكن قراءتها، ونعرضها كما يلي:

أولا: يفيدنا هذا البحث، في الوقوف على الكثير من الملامح والحيثيات النظرية العقدية، التي حكمت النقاشات، وأيضا الصراعات بين مختلف الفرق الكلامية، التي قدمها هذا الكتاب.

ثانيا: يدلنا هذا البحث أيضا، على المدى الذي يمكن أن يبلغه الصراع العقدي (السياسي)، حين يصحبه ويسنده خلل في المنهج، إذ يصبح قتل المسلم مثلا، بعد تكفيره، أمرا مستساغا، ومبررا بتأويلات ونصوص، في مقابل ترك غير المسلم، بنفس المسوغات والتأويلات والنصوص (ص: 182)، فمشكلة الكثير من الفرق الغالية، كما يقدمها الكتاب، كانت في الحكم على إيمان الناس، وهو بالطبع مسار مغلق، نتائجه وخيمة، وتمثل فرقة الخوارج، كما يقدمها الباحث، نموذجا دالا في هذا الباب.

ثالثا: ويبدو الباحث موفقا في تقديم صورة علمية دالة عن (فرقة الخوارج)، من خلال التركيز على الكثير من تأويلاتها وآرائها، بما يعني أن هذا المسار (الخارجي)، يمكن أن يتكرر في كل زمان ومكان، متى ما توفرت شروطه واقتناعاته العقدية والتأويلية، ويأتي على رأسها: الانغلاق الفكري، اعتقاد أو توهم امتلاك كل الحقيقة، جهلا حينا، وتأويلا أحيانا، واعتبار الجميع ملزمين بمنهج محدد، وطريق واحد ووحيد، (ص: 176 إلى 180).

بعد الانتهاء من قراءة هذا البحث الماتع والمفيد، تقفز سريعا إلى الذهن، جملة أسئلة تبدو ملحة، يأتي في مقدمتها، السؤال التالي: لماذا يصر الكثير من المسلمين اليوم، على إعادة واستنساخ، الكثير من المباحث والقضايا، بنفس المناهج والأخطاء التي ارتكبها أسلافهم، ولماذا لا يستفيدون من دروس الماضي ؟؟، من أجل مستقبل، هو مستقبلهم ؟؟ ،

ما يعني الحاجة إلى علم كلام جديد، وهو العنوان الذي تحمله هذه القراءة، والذي يعني في النهاية أيضا، الحاجة إلى عقل إسلامي جديد.

 

1) _ (علم الكلام بين سياقات النشأة وعوامل التطور)

د. علال بلحسني _ ط: 1 _ يوليوز 2018 _

طباعة: سليكي أخوين _ طنجة.

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

على نكْءِ الجراحِ أرشُّ مِلحاً / بقلم: عبدالناصر عليوي العبيدي

ولــي قــلبٌ تعاندُهُ الصّروفُ ونــهرُ الــحادثاتِ بــه يحوفُ – إذا تــركَ الــرَّبيعُ ...

غزة غزوات / بقلم: عصمت شاهين دوسكي

منى النفس غزواتها وحدها على كبد شروخها راع الصدود عادة حملت الوهن ...

غزة الأمة وأمة غزة/ بقلم: خالد السلامي

منذ نكبة فلسطين في ١٩٤٨ تلك السنة العجفاء بل وقبلها حين بدأ ...

الظل والقرين/ بقلم: فاطمة معروفي

قصيدة من ديوان “نفس الماء” ضوضاء الصمت…… من حولي تكبل نقطي تمسح ...

أسمال الفزاعة البالية للشاعر بادماسيري جاياثيلاكا / ترجمة : بنيامين يوخنا دانيال

هايكو ( 1 ) أسمال الفزاعة البالية يسحب الحباك خيوطها * من ...

في الجهة الأخرى من الخديعة / بقلم: سالم الياس مدالو

  في الجهة الاخرى من الخديعة تفرك الغربان باجنحتها الشوك العوسج والحنظل ...

حلبجة الجريحة / بقلم: عصمت شاهين الدوسكي

  هلموا اسمعوا هذا الخبر نبأ اليوم قد تجلى حضر من قريب ...

واحة الفكر Mêrga raman