الرئيسية / حوارات / حوارٌ مع الشّاعر السّوريّ المغترب القس جوزيف إيليا/ نصر محمد

حوارٌ مع الشّاعر السّوريّ المغترب القس جوزيف إيليا/ نصر محمد

حوارٌ مع الشّاعر السّوريّ المغترب القس جوزيف إيليا

أجرى الحوار: نصر محمد -المانيا –

___ــــــــــــــــــ

 

الشّاعر القس جوزيف إيليّا: (شجرةٌ قديمةٌ جديدةٌ لا تشيخ

أوراقها ولا تبلى ثمارها وجذورها ممتدّةٌ عميقًا في تربة الإبداع الخصبة وعصيّةٌ على هجمات القحط وضربات الجفاف) سوريٌّ تربّى على وقع الشِّعر والقصيد ونهل من الّلغة أعذبها ومن الكلمات أجملها من مدينة المالكيّة التّابعة لمحافظة الحسكة تولّد ١٩٦٤ وقد كان رئيسًا للطّائفة الإنجيليّة قرابة خمسة وعشرين عامًا حتّى نزوحه إلى بلاد الاغتراب في ألمانيا.

إنّه يكتب الشِّعر العموديّ والتّفعيلة وأناشيد للأطفال، وقد تم تكريمه من قبل بعض المحافل الأدبيّة في سوريا والوطن العربيّ والعالم.

إنّ القضيّة الّتي حملها على كاهله وجعلها محور قصائده هي التّبشير بالإنسانيّة داعيًا الإنسان للعودة إلى إنسانيّته بعيدًا عن لغة التّطرف الدّيني والمذهبيّ والفكريّ والقوميّ والسّياسيّ والدّينيّ

ولقد صدر له عدّة مجموعاتٍ شِعريّةٍ منها:

( امرأةٌ من بنفسجٍ ) و ( نمضي ولا نمضي ) و ( ديوان خاص بالأطفال ) قيد الطّبع و ( أنا لغةٌ أخرى) و ( أحبّكَ حتّى وإنْ ) و ( إنّي هنا ) و الجزء الأوّل من مؤلّفاته الشِّعريّة الكاملة

كما أنّه قد شارك بنصوصٍ له في دواوينَ مشتركةٍ مع كبار الشّعراء والشّاعرات.

____

 

١ -ما هي الشّجرة الشِّعريّة الّتي ينتمي إليها شاعرنا القس جوزيف إيليّا؟

 

– إنّها شجرةٌ قديمةٌ جديدةٌ لا تشيخ أوراقها ولا تبلى ثمارها وجذورها ممتدّةٌ عميقًا في تربة الإبداع الخصبة وعصيّةٌ على هجمات القحط وضربات الجفاف لأنّها أصيلةٌ أصالة التّاريخ وثابتةٌ ثبات الجبال وتحمل في داخلها عوامل بقائها وخلودها وهذه الشّجرة الشِّعريّة هي الشِّعر الموزون المقفّى ذات الشّطرين أو التّفعيلة تحت ظلّ هذه الشّجرة الوارف أجد مسرّتي وعناصر وجودي وولادة أناشيدي.

 

٢ -يقال: لكي تكون شاعرًا ينبغي أن تحافظ على طفولة الدّهشة في عينيك وقلبك مهما امتدّت بك السّنوات

ويقول إنشتاين: إنّ العبقريّ هو من استطاع أن يبقى طفلًا. ماذا يقول شاعرنا القس جوزيف؟ وهل مازال الطّفل السّوريّ ينبض فيه إلى الآن؟

 

– هذا القول لا يجانبه الصّواب وهو حقٌّ كلّه لهذا لا أخجل من كوني ما زلت طفلًا أمرح وألعب وأتعلّم وأسقط وأقوم  وأتطلّع إلى هضاب المستقبل بعيون طفلٍ لا ترى إلّا النّقاء والجمال وتدهش لأشياء كثيرةٍ تصطدم بها، ولقد دعوت يومًا في نصٍّ لي للعودة إلى الطّفولة قائلًا:

 

“ولنرجعْ أطفالًا

من أقداس الدّنيا نولدْ

كي منّا يقتربَ الجبلُ الأبعدْ

ولكي نبقى دومًا أسعدْ”

 

٣ –بعد كلّ هذا العمر الأدبيّ للشّاعر القس جوزيف إيليا ومع مرور كلّ هذه الأعوام الطوال في مسيرة الشِّعر ما زلتَ حاملًا قلمك وتكتب، فإلى أين يا ترى وصل شاعرنا؟ وماهو دور المثقّف اليوم؟

 

– مع كلّ نصٍّ جديدٍ أنتهي من كتابته أرى أنّني معه قد بدأت مسيرتي وأمامي بعد المسير طويلٌ متعِبٌ وعرٌ  شاقٌّ لذلك فإنّه يمكنني القول : إنّني لم أزل في بداية الطّريق وأحاول جاهدًا قطع معظمه من غير أن أتعثّر بحفر الملل وصخور الضّحالة وأشواك النّمطيّة

لقد كتبت آلاف القصائد وفي شتّى القضايا والمواضيع وما زلت أعتبر نفسي مبتدئًا باحثًا عمّا يجعلني أكفأ وأقدر ويولّد عندي إحساسًا قويًّا بالرّضا والاستحسان

إنّ الشّاعر الّذي يتوهّم بأنّه قد وصل إلى نهاية الطّريق وابتدأ بالتّصفيق لنفسه يحفر قبره بيديه ليدفَنه غيره به.

أمّا عن دور المثقّف اليوم لا أظنّه مختلفًا عن دور من سبقوه في الماضي فهو الّذي بما يمتلكه من وسائل المعرفة والوعي عليه أن يكون الفارس البطل المرتجى في الحروب ضدّ الجهل والماضويّة وجميع أشكال التّطرّف والتّعصب متجنّبًا إغراءات المال والسّلطة ودائسًا على أفاعي الخوف وهاربًا من قفر إرضاء العامّة على حساب الحقيقة والحقّ ولينظر إلى ذاته على أنّه حامل رسالةٍ أخلاقيّةٍ ساميةٍ هدفها إسقاط الجدران المائلة المتصدّعة وبناء ما يكون في صالح الشّعوب حاضرًا ومستقبلًا وليس طبّالًا ولا نافخًا في بوق الآخرين

إنّه المسؤول عن نهضة الشّعوب وتقدّمها وتحضّرها ولنا أن نعلم أنّ الأمم قبل سقوطها عسكريًّا تسقط ذهنيًّا ومعرفيًّا وأخلاقيًّا وهنا يأتي دور المثقّف مهمًّا للمحافظة على قوّة المجتمع وثباته وديمومة تحضّره والتّصدّي لزوابع التّخلّف والرّجعيّة.

 

٤ -في ظلّ هذا الخراب الّذي بات يعمّ العالم. برأي شاعرنا هل مازالت القصيدة تحقّق الحضور المطلوب منها؟

 

– لا أكتمك أنّ القصيدة وهذا ممّا يحزَن له قد تراجع حضورها كثيرًا  وتضاءل واحتلّت مكانها وسائل أخرى خاصّةً ما اصطلح على تسميته بوسائل التّواصل الاجتماعيّ والفضائيّات والدّراما ولكنّها لم تضمحلّ تمامًا وأنا ممّن يدعون باستمرارٍ إلى إعادة القصيدة إلى سابق عهدها الذّهبيّ  لتقوم بدورها بأحسن ما يكون الدّور وتفعل ما كانت تفعله في الماضي لهذا على الشّعراء أن يخرجوا من غرفهم المغلقة المعتمة وينخرطوا بشعرهم في كلّ مناحي الحياة وقضاياها ويتخلّوا عن ذاتيّتهم المفرطة ويتناولوا ما ينبغي تناوله من الأمور الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة ويعيدوا لنسر الشِّعر مخالبه وتحليقه وهذا ما أحاول أنا أن أقوم به عبر ما أعرض له في شِعري من همومٍ حتّى أنّني لا أترك حدثًا مهمًّا يفوتني

يجب أن ينطلق لسان القصيدة ويكفيه هذا الصّمت الّذي شلّه وأضعفه وقرّبه من الموت.

 

ه -برأي شاعرنا القس جوزيف إيليا هل استطاع الشِّعر الحديث أن يثبت حضوره بقوّةٍ. وخاصّةً أنّنا شعوبٌ يستهويها كلّ ما هو قديمٌ ولا نتقبّل الجديد بسهولةٍ؟

 

– نعم الجيّد من الشِّعر أفلح وتمكّن من الوقوف على قدميه بثباتٍ ورسوخٍ بل وصار يجري ويثب بعنفوانٍ لكن مع قلّةٍ قليلةٍ من الشّعراء قياسًا للعدد الضّخم من الشّعراء على السّاحة الشِّعريّة فمن شكّلوا ظواهر شِعريّةً في عصرنا الحديث غيّبهم الموت ولسنا نجد الآن من الشّعراء إلّا قلّةً قليلةً لا تُذكر من يملك كاريزما لاستقطاب ما كان يستقطبه الجواهري ونزار ودرويش والنّوّاب على سبيل المثال من الجماهير  ولا أدري لهذا سببًا

مع ذلك أنا من المتفائلين فما زال الشِّعر مرغوبًا ومطلوبًا ومحبوبًا ولم يُدفن بعد ولا بدّ من عودته أقوى يومًا مع شعراء يتقنون مخاطبة الجمهور ويعرفون ماذا يرجوه منهم ويبتغيه.

 

٦ -عندما يركب القارئ قارب حرف الشّاعر القس جوزيف إيليا

هل تثق فيه كموجّهٍ جيّد له. وهل تهتمّ بالمحطّات التي يقف عندها؟

 

– كلّ الاهتمام وأحاول أن أتفهّم ماذا يريد القارئ ويتمنّاه من قصيدتي واثقًا من أحكامه فحذار من الاستخفاف بقدرته ووعيه وذوقه فكثيرٌ من القرّاء في مقدورهم التّمييز بين الحنطة والزّوان في حقل الإبداع ومن الصّعب خداعهم والتّحايل عليهم مع هذا على الشّاعر أن يقول ما هو مقتنعٌ به بصرف النّظر أأرضى ذلك من يقرؤه أم لا .

 

٧ -يقول المعلّم الرّوحاني الهنديّ (غوتاما بوذا):

لا تبقَ في الماضي ولا تحلم في المستقبل . بل وجّه عقلك نحو الآن”.

كيف يجادل شاعرنا القس جوزيف إيليا هذه المقولة؟ وهل يرى في مفهومها بلاغةً؟

 

– إنّي لأرى فيها كلّ البلاغة والجمال  كما أرى فيها كذلك منتهى الحكمة والتّبصّر والفهم فالماضي ارتحل وغاب وما حدث فيه قد حدث ولا يمكن استعادته ولا التّغيير فيه

والمستقبل أمره ليس في اليد ولا يُعرف ماذا يمكن أن يحمل في طيّاته وقد لا يُرى

فما يعاش هو الّلحظة أو الحاضر وهو ما يمكن أن يُصنَع فيه ما يُبتغى ويراد لهذا يستحسن استغلاله كلّ الاستغلال لخلق حياةٍ أفضل وأسعد وأكثر ثمرًا ومعنى

وعليه فأنا متّفقٌ تمام الاتّفاق مع “بوذا” في هذا الموضوع وفي غيره من المواضيع الفكريّة والفلسفيّة والرّوحيّة.

 

٨ -الشّاعر القسّ جوزيف إيليّا كيف يمكنه التّوفيق بين كونه رجل دينٍ ورجل أدبٍ والجمع بينهما؟

 

– لم أجد من جهتي أيّة صعوبةٍ في هذا الأمر لأنّني كنت مهتّمًا بقضايا الأدب ومنخرطًا فيها بعمقٍ وحبٍّ شديدين قبل دراستي للعلوم الّلاهوتيّة الدّينيّة وانخراطي في العمل الكنسيّ بفترةٍ طويلةٍ واستمرّ ذلك من دون تنافرٍ أو تعارض بين الاثنين فللأدب رسالةٌ أخلاقيّةٌ لا تقلّ في سموّها وقوّتها وتأثيرها عن رسالة الدِّين وإن اختلفا في الشّكل والأسلوب ويظلّ مضمونهما وهدفهما واحدًا

ولا تنسَ أنّ الأديان جميعها لها نصوصٌ قائمةٌ عليها وهذه النّصوص في معظمها مصوغةٌ بأسلوبٍ أدبيٍ رفيعٍ ولغةٍ شعريّةٍ واضحةٍ

بل لدينا نحن في الكتاب المقدّس نصوصٌ شعريّةٌ صريحةٌ حسب قواعد الشِّعر وضوابطه في الّلغة الأصليّة الّتي تمّ كتابتها بها كالمزامير ونشيد الأنشاد والجامعة وغيرها.

فلا رجل الأدب غريبٌ بعيدٌ عن رجل الدّين ولا رجل الدّين منفصلٌ وفي عداءٍ مع رجل الأدب.

 

٩ –من سهول “ديريك” ومن ضفاف نهر “دجلة” العظيم

إلى عمق القارّة الأوروبيّة العجوز

هل تغيّرت الآليّات السّرديّة في لغتكم الشِّعريّة؟ وهل لكلّ مكانٍ لغته الشِّعريّة الخاصّة به؟

وكيف يتنفّس الشّاعر القسّ جوزيف إيليا الغربة شِعرًا؟

 

– بالنّسبة إليّ فالإجابة هي : نعم فلقد أصاب لغتي التّغيير الكبير  فما كنت أقوله في الوطن ما عدت أقوله في مغتربي وما أقوله في مغتربي ما كنت لأقوله لو كنت بعد في أحضان الوطن فإنّ الغربة فعلت بي فعلها وسرقت منّي أشياء كثيرةً كنت حريصًا على بقائها غاية الحرص ووهبتني أشياء ما كنت أتصوّر أنّها ستدخل إلى عالمي يومًا وابتدأت أتقبّل وجودها مع عدم انسجامي معها وحبّي لها

ولعلّ الشّيء الوحيد الّذي عليّ شكر الغربة من أجله هو أنّها فتّحت في داخلي ينابيع الشِّعر فانهمرت غزيرةً قويّةً بعد إيقاظ مشاعر الشّوق وأحاسيس الحنين في أعماقي وصرتُ أسير القلم وسجين الورق طعامي وشرابي الشِّعر

وما زلت مخاطبًا الغربة كما خاطبتها يومًا:

 

أيّتها الغربةُ

آهٍ

فإلى متى

تنامين على صدورنا

وتسرقين صوتنا

وأغنياتنا القديمة الّتي كانت على إيقاعها ترقص أشجار الطّربْ

وتصفعين وجه خيلنا

فتكبو فوق عشبٍ من رصاصٍ وخشبْ؟

 

١٠ –صدر لشاعرنا القس جوزيف إيليا عدّة دواوين لحدّ الآن

منها ديوان باسم (امرأةٌ من بنفسجٍ) فليتك تحدّثنا عن هذا الدّيوان؟  ماذا يحوي بين دفّتيه؟ ومن هذه المرأة؟ وماهي حكايتها؟

 

– إنّه من الدواوين القريبة إلى نفسي لأنّه صدر في القاهرة الّتي أحبّها كثيرًا وقد قضيت فيها من الأعوام أجملها

ولأنه مهدًى لسيّدة أعمالٍ مصريّةٍ في منتهى النّبل والسّموّ والكرم خصّصت الكثير من وقتها ومالها للفقراء والمحتاجين وتذهب هي إليهم وتبحث عنهم

وقد جمعتني بها من خلال وسائل التّواصل الاجتماعيّ صداقةٌ فريدةٌ ومودّةٌ صادقةٌ وتعاونٌ في مجال بثّ روح المحبّة والتّسامح ونبذ الحقد والتطّرف ونشر ثقافة قبول الآخر كما هو

وتقديرًا وتثمينًا لجهودها المتميّزة في المجال الإنساني كتبت لها عدّة قصائد منها قصيدة “امرأةٌ من بنفسجٍ” الّتي عنونت بها الدّيوان وهذه السّيّدة الأصيلة تدعى “عزّة محمود” وهي معروفةٌ بلقب “ماما زوزو”

ولأنّه يتضمّن مجموعةً من القصائد الّتي لها مكانةٌ خاصّةٌ عندي ويحتوي على المفاتيح الجديدة الّتي أعتزّ بأنّني قد صغتها لبحور الشِّعر العربيّ تسهيلًا لمعرفتها وحفظها.

 

١١ –كتب الشّاعر الفلسطينيّ الرّاحل محمود درويش قصيدة “ليس للكرديّ إلّا الرّيح ”

وحضرتكم كتبتم قصيدة “آن للكرديّ”

تقولون فيها:

 

“آنَ للكرديّ أن ينسى الجبالْ

ورياحًا حملت شوكًا إليه ورمالْ

آنَ أن ينسى

ويعدوْ مثْلَ ظبيٍ قافزًا

ليس يخاف الأسرَ

أو ضربَ النِّبالْ.”

 

كيف تقرؤون نصّ درويش؟

وماذا أردتم قوله في “آن للكرديّ”؟

 

– أظنّ أنّ درويش شاعرنا الخالد أراد بريشة شِعره الحاذقة الرّشيقة رسم لوحةٍ لتاريخ الكرد وحاضرهم مبيّنًا ما عانوه ويعانونه من الظّلم والقهر والتّهميش حتّى وجدوا أنفسهم معزولين ليس لهم سوى الرّيح والجبال والبراري وأنا أردت أن أقول في قصيدتي :

ينبغي أن يعودوا من هذه القفار وتغيير هذا الواقع المرير لشعبٍ مبدعٍ منفتحٍ على الحضارة ولغيره من الشّعوب المقهورة

أمّا كيفيّة فعل هذا التّغيير فمتروكٌ لذوي الشّأن والاختصاص القادرين على ما لا يقدر عليه الشّعراء الّذين ربّما اقتصر دورهم هنا على النّطق بلسان المعذَّبين في الأرض والمهمَّشين والمظلومين والعاجزين عن إطلاق صرخاتهم.

 

١٢ -لك قصيدةٌ أخرى بعنوان (أنا ابن الشّرق) متى كتبت هذه القصيدة؟ وما هي مناسبة كتابتها؟ وإلى أين يريد أن يصل شاعرنا في هذه القصيدة؟

 

– لي أكثر من قصيدةٍ عن الشّرق لكن لعلّ هذه الّتي ذكرتها في سياق سؤالك والّتي كتبتُها في الرّابع من شباط ٢٠١٨ هي الأشهر بسبب ذيوعها كأغنيةٍ قام بإنشادها المطرب الأستاذ بشير الشّامي من ألحان الدّكتور الفنّان عبد الله المصارع وقد أردت من ذلك الإشارة إلى الحضارة العظيمة المذهلة على كلّ الأصعدة الّتي كانت لشرقنا قبل اضمحلالها للأسف لعواملَ كثيرةٍ لا مجال للخوض في تفاصيلها الآن

وتوقي وتوق كثيرين لعودة هذه الحضارة بمختلف صورها لتأخذ مكانها المرموق وسط غيرها من الحضارات ولا سيّما الغربيّة منها

فهل سنرى هذا يومًا محقَّقًا؟

إنّي لأتمنّى وأرجو ذلك بشدّةٍ.

 

١٣ -شاعرنا القس جوزيف إيليا كيف يجد حركة النّقد الأدبي؟ أهي مواكبةٌ للتّجارب الجديدة؟ وما هي أسباب تدهور الحالة النّقديّة برأيك؟

 

– لا أرى هذه الحركة إلّا ثقيلة الخطو بطيئةً أضعفها الهرم وحدَّ من حيويّتها ونشاطها السّقم وطعن في مصداقيّتها ودورها قلّة الموهبة والثّقافة لدى أصحابها وغلبة الأهواء والأغراض غير النّزيهة على معظم ساحتها فقلّما تجد الآن نقّادًا يعتدّ برأيهم كما كان في السّابق مع طه حسين والعقّاد ونعيمة والمازنيّ ومارون عبّود وغيرهم ممّن كانوا على درايةٍ وعلمٍ واسعين بخفايا النّصّ الأدبيّ ومكنوناته وأسسه لهذا أستطيع القول : إنّ الحالة النقديّة في عمومها مزريةٌ فقيرةٌ وأثوابها مهترئةٌ باليةٌ وضررها على واقع الأدب أكثر من نفعها.

 

١٤ -الأب القس جوزيف إيليا أنتم -وهذا واضحٌ جدًّا -من أنصار مدرسة الشِّعر الموزون ومن أتباعها، فهل تواجهون صعوبةً في الوزن ووحدة القافية، وهل ذلك الشّغف بوحدة الوزن والقافية والإيقاع يمنحكم قدرًا كافيًا من الحريّة؟  وأين تجد شاعريّتك الحقيقيّة أفي القصيدة الكلاسيكيّة أم في قصيدة النّثر؟

 

– لا أجد أيّة صعوبةٍ تُذكَر في هذا وقصيدتي غالبًا ما تأتيني عفو الخاطر طيّعةً سهلةً مفعمةً بالموسيقى والمعنى

فلربّما كان هذا راجعًا إلى عشقي للموسيقى واستيعابي لمقاماتها ومحاولتي في صباي المبكّر الانخراط في أجوائها عبر العزف على آلة العود إلّا أنّني تركتها لصالح الشِّعر الّذي وجدت فيه نفسي أكثر ممّا وجدتها في العزف وشاعريّتي أجدها أكثر وضوحًا وتأجّجًا وعذوبةً في قصيدة التّفعيلة منها من قصيدة العمود ذات الشّطرين الّتي لا تعطي المساحة الواسعة الّتي تعطيها قصيدة التّفعيلة.

 

١٥ -للذّاكرة لديكم وفي أغلب قصائدكم مكانةٌ عاليةٌ، وحبّكم لإعادة تلك الذّاكرة أنتج العديد من النّصوص، بل إنّكم قد ذهبتم إلى كتابة سيرتكم الذّاتيّة شِعرًا

كيف تحدّثنا عن علاقتك بالذّاكرة وبالأمكنة؟

وهل المكان “الأوروبّي” استطاع أن يؤسّس لذاكرته في وجدانكم وفي شِعركم؟

 

– لقد فعلت ذلك لكن ليس كسيرةٍ ذاتيّةٍ وإنّما كاستعادةٍ لبعض صور الأحداث الّتي مررت بها وعاصرتها ورأيتها رؤية العين ووجدت فيها ما يمكن أن يكون وعظًا وإرشادًا وتعليمًا للأجيال القادمة فنظمتها شِعرًا في ألف بيتٍ وهي ما أطلقت عليها “ألفيّة القس جوزيف إيليا

صورٌ ومشاهدُ من حياتي” وهي من أهمّ أعمالي الشِّعريّة حتّى الآن إذ نظمتها على بحرٍ واحدٍ وهو الرّجز التّام ونوّعت فيها القوافي بحسب تسلسل حروف الأبجديّة للّغة العربيّة مبتدئًا بالألف ومنتهيًا بالياء مرورًا بالهمزة

وإن كان ثمّة ما يعزّيني لفقدي المكان الّذي ولدت فيه وقضيت أجمل أعوامي في رحابه فهو خصب الذّاكرة ولجوئي إليها للتّخلّص من مرارة الواقع الّذي أُجبرتُ على تذوّقها بسبب الحرب الّتي لوّثت مكاني الأوّل أمّا مكاني الجديد مع حسنه وجماله لم أستطع مصادقته ولا أظنّ أنّه سيتمكّن يومًا ما من تأسيس ذاكرته في وجداني وقد أشرت إلى هذا في إحدى قصائدي قائلًا:

 

“ليتكَ كنتَ ها هنا

حتّى ترى

كيف أصافح تلالًا

لا تريد صحبتي

ولا تحبّها

وكيف أرتدي حزني

فخبز حنطتي يأكله وحشٌ غريبٌ

وأنا هنا على موائد الغريب أُرمى

وبداخلي انتهى رحيقي

تصفعني كفّ المساء

وهْو بالصّمت يطارد ظباء بهجتي

ويوقد الجحيمَ في ذاكرتي

يقول لي:

هناك كنتَ أنتَ

أمّا ها هنا فلستَ أنتَ

وجميع ما ترى ليس لكَ

النّهر الّذي يجري

ولا الأشجارُ أشجارك

حتّى هذه القبورُ لن تكون بيتكَ الأخيرَ فيه تلتقي بأجدادكَ

فانهضْ لا تنمْ

واتلُ مزاميركَ فوق مذبحي.

أنهضُ

أمشي شاردًا في غرفتي

أتابعُ التّلفازَ

يحكي عن لظى حريقي

آهٍ صديقي

كم أنا لست أنا

ولستُ مثلما أحبُّ

قد تكسّرت أصابعي

وأقلامي انتهت أيّامها

وكتبي تبعثرت أوراقها

وفي ضبابها ارتمت طريقي ”

 

١٦ -من النّادر أن نجد رجل دِينٍ له كلّ هذا التّواصل عبر الفضاء الإلكتروني كشخصيّةٍ أدبيّةٍ وشاعرٍ، وتتواصل مع شاعراتٍ وشعراءَ من كلّ أنحاء العالم، فكيف تجدون تجربتكم هذه؟

وأليس غريبًا بعض الشّيء أنّكم لا تنشرون مواعظ دينيّةً أو مقتطفاتٍ من الإنجيل المقدّس، ولا تعملون على نشر الفكر الدّيني الّذي يجده الكثيرون أنّه من صلب عملك

وماذا يمكنكم أن تردّوا على هذه الاستفسارات أو لنقل: كيف لك أن تشبع فضولهم؟

 

– إنّني وجدتها وأجدها تجربةً مهمّةً غنية نافعة مفيدةً قرّبت ما هو بعيدٌ وسهّلت ما هو صعبٌ وعرّفتني برائعين ورائعاتٍ في مجال الإبداع والفكر والأدب وعملتْ على ذيوع اسمي وانتشاره في العالم أجمع وأنقذتنا من مشاكل النّشر وصعوباته فمتى كان يحلم المبدع أنّه بضغطة زرٍّ واحدةٍ وفي لحظةٍ يمكن أن ينتشر إبداعه في مغارب الأرض ومشارقها ويطّلع عليه القاصي والدّاني

لهذا فأنا من أشدّ داعمي هذه التّجربة ومشجّعيها ولقد أردت من خلال هذا المنبر الافتراضيّ أن أطلّ على النّاس أديبًا ومفكّرًا وشاعرًا ومثقّفًا تاركًا موقعي الدّيني لمنبر الكنيسة فقط وإن كنت أنشر بين الحين والآخر بعض القصائد المستوحاة من النّص الدّيني كعملٍ أدبيٍ بحتٍ لا أهدف من ورائه نشر قناعاتي الدّينيّة وثوابتي الإيمانيّة

فهذه في رأيي مكانها دور العبادة والبيوت وليس وسائل التّواصل الاجتماعي والفضائيّات وأنا مع نشر الفكر الإنساني المستنير غير المتطرّف وتنشيط الوعي وتعميم ثقافة الاختلاف والحبّ في مواجهة إلغاء فكر الآخر والكراهية وهذا ما لا يتيحه الفكر الدّيني الّذي غالبًا ما يكون في حربٍ مع حريّة الفكر والاعتقاد والتّجديد وقد انتقدت مظاهر التّدين في وسائل التّواصل حيث قلت:

 

الدِّينُ لا في” الفِيْسِ” موقعُهُ

لكنْ   بقلبِ   المرءِ   موضعُهُ

 

أو في مساجدَ أو كنائسَ أو

دُوْرٍ     بها   الإيمانُ   نُودِعُهُ

 

والّلهُ      يؤلمُهُ      تظاهرُنا

ورياؤنا في الزّهدِ يوجعُهُ

 

يبغي الصّلاةَ   لهُ   مقدَّسةً

ومُهينُها     بالشّرِّ     يوقعُهُ

 

ومَنِ   ارتقتْ حقًّا   عبادتُهُ

فإلهُهُ      بالخيرِ     مُوسِعُهُ

 

١٧ -كلمةٌ أخيرةٌ ربّما غفلنا عن قضيّةٍ ما

فهل يمكنك إضافة شيءٍ آخر؟

 

– إنّ القضايا كثيرةٌ لا يمكن تناولها في هذه العجالة والأحاديث لا نهاية لها

ولأنّه لا مندوحة عن التّوقف هنا عن الحوار

فإنّني في نهايته لن أنسى مصافحتك بحرارةٍ

شاكرًا لك هذه الفرصة الطّيبة الجميلة

راجيًا أن أكون قد أفلحت وأفدت وأجبت على أسئلتك كما ينبغي أن يجاب بكلّ أمانةٍ وصدقٍ ووضوحٍ

مع كلّ الحبّ للقارئ العزيز وأكثر من تحيّة ودٍّ وتقديرٍ.

___


عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية Hejmara (21) a Kovara Şermola Derket

  صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية   صدر العدد (21) ...

السهل الممتنع في ديوان “للحبر رائحة الزهر” للشاعر نصر محمد/ بقلم: ريبر هبون

وظف نصر محمد الإدهاش مغلفاً إياه بالتساؤل مقدماً اعترافاته الذاتية على هيئة ...

شعاراتٍ العربْ / بقلم: عبدالناصرعليوي العبيدي

فــي  شعاراتٍ العربْ دائــماً تَــلقى الــعجبْ . رُبّما  المقصودُ عكسٌ لستُ أدري ...

 القراءة :النص بين الكاتب والقارئ/ بقلم مصطفى معروفي

من المغرب ــــــــــــ بداية نقول بأن أي قراءة لنص ما لا تتمكن ...

جديلة القلب/ بقلم: نرجس عمران

عندما تضافرتْ كلُّ الأحاسيس في جديلة القلب أيقنتُ أن رياحكَ هادرة ٌ ...

على هامش تحكيم مسابقة تحدي القراءة / فراس حج محمد

من فلسطين تنطلق مسابقة تحدي القراءة من فكرة أن القراءة فعل حضاري ...

نســـــــــــــرين / بقلم: أحمد عبدي 

  من المانيا “1”   توقف البولمان  في المكان المخصص له  بعد ...

أناجيكَ ياعراق / بقلم: هدى عبد الرحمن الجاسم

أناجيكَ بين النخلِ والهورِ والنهرِ وأشكو لكَ الإبعادَ في الصدِِّ والهجرِ إلامَ ...

واحة الفكر Mêrga raman