الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / “القلوب الوطن” للشاعرة خديجة بوعلي/ بقلم: بوسلهام عميمر 

“القلوب الوطن” للشاعرة خديجة بوعلي/ بقلم: بوسلهام عميمر 

“القلوب الوطن” للشاعرة خديجة بوعلي

     بقلم: بوسلهام عميمر 

ـــــــــــــــــــ

 بعض القلوب وطن

بعض العيون سكن

واحدة من درر جوهرة الأطلس؛ الشاعرة خديجة بوعلي. إنها لا تفتأ من حين لآخر تتحفنا

 

بإحدى قصائدها المائزة، تحلق بنا في سماوات صورها الشعرية غاية في الجمال شكلا

 

ومضمونا، معنى ومبنى، بنفحاتها الوجدانية الروحية. إنها من الشواعر ممن تدرك دور

 

الشعر في التغيير المجتمعي نحو الأرقى. إنها تدرك معنى مواكبة الإبداع عموما و الشعر

 

خصوصا لأي تطور مجتمعي. فكم من مجتمع يتغير، لكن هل يحقق إنسانيته، بما يحصل

 

عليه من ماديات، مجردا من الأحاسيس المرهفة و من المشاعر الفياضة ومن الأذواق

 

الراقية الرفيعة. لا أدل على ذلك مما عاشته البشرية من حروب مدمرة ولا تزال.

 

الشاعرة خديجة بوعلي، في قصيدتها هاته “القلوب الوطن”، من مطلعها تقطع الشك

 

باليقين، لتجزم أن القلوب ليست على ملة واحدة، كما الحال  في القرآن الكريم، هناك من

 

أحصى فيه حوالي عشرين نوعا من القلوب؛ السليم والمريض والمطمئن والوجل والمنيب

 

والأعمى و المخبت والمريب وغيرها، معززا كل صنف بآيات بينات من الذكر الحكيم.

 

بمهارة شعرية المتمكن من ناصية صنعته، تعلن بيقين العارف بأن “بعض القلوب وطن”،

 

 وليس كل القلوب، يمكن الركون إليها و النوم على جنب الراحة بين أحضانها و في

 

حضرتها. و إذا كانت بعض القلوب وطنا بتعريف ابن منظور الذي حسبه هو “المنزل الذي

 

نقيم فيه وهو موطن الإنسان ومحله. يقال أوطن فلان أرض كذا وكذا اتخذها محلا ومسكنا

 

يقيم فيه” فالشاعرة تبحث عما هو أكثر من الإقامة والسكنى، لذا فقد أردفت بتعبير جميل قائلة

 

“بعض العيون سكن”.

 

فعلى امتداد القصيدة بحوالي أربعة وخمسين سطرا، اختارت أن تزاوج بفنية عالية بين هذا

 

البعض من القلوب باعتبارها وطنا و هذا البعض من العيون باعتبارها سكنا، فلا نجد ما

 

نعبر به عن حفظنا لوديعة ما غير القول بأنها “في العينين” أو لما نريد أن نظهر لأحد

 

رغبتنا في قضاء حوائجه فنقول “من عيني الاثنين”. تقول عن بعض هذه العيون “نسكن

 

فيها // نسكن إليها // فيها يطيب المقام“. لنتصور طبيعة هذه العيون التي توفر لنا المقام

 

الطيب جسدا والسكن إليها نفسا وروحا بكل ما تعنيه من طمأنينة و سكينة، في إحالة على

 

الآية الكريمة “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم من أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً

 

وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.

 

فيها ماؤها ومرعاها. فيها أشهى طعام من مَنّ و سلوى، وفيها شهد عسل مصفى كما في

 

القصيدة. فمن مقتضيات المقام الطيب راحة الأنفس وغذاء الأبدان سواء بسواء.

 

وتزيد قائلة “شطآن أهدابها // مفاصل الحشا… تهدهدها // تجلو عنها الدرن // تميط عن

 

 الوجود العطن“. لنسرح قليلا في ملكوت خيال شاعرتنا المجنح، بما أن الخيال رأسمال أي

 

كاتب، لنتصور جمال هذا المقام، وفرت له كل مستلزمات الجمال والنظافة والنقاء. لم تترك

 

في قصيدتها الفريدة هاته ما يجعل هذه القلوب ملاذا آمنا مطمئنا إلا وأتت على ذكره. إنها

 

بعين الشاعر المتبصر، ترصد ما يعتمل في واقعها من نقائص وما ينخره من مثالب تحول

 

دون أن ينعم الأنسان بالدفء والحياة الهنية، فعمدت إليها بمشرط حروفها الناعمة، تهدم

 

وتبني، تخلي وتحلي بتعبير الصوفية. فالشاعر عادة ما يبحث عن المفقود، ولا يقتصر على

 

ذكر الموجود الذي هو في متناول كل الناس. فالقصيدة بلغتها الانزياحية، وإن كانت القلوب

 

والعيون مسرح أحداثها وفضائها، فإنها ترمي إلى أبعد من ذلك. فالأوطان التي لا ينعم فيها

 

أهلها بطمأنينة الأنفس، و لا توفر لأهلها أطايب العيش ليست أوطانا. صدق الله العظيم إذ

 

يقول “أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف”.

 

لم تتوقف عند هذا الحد في وصفها لكرم هذا البعض من القلوب والبعض من الأعين

 

والإشادة بها، لعل البعض الآخر يرعو فيقتفي أثرها لتكتمل السعادة فينعم بها الجميع،

 

فتزيد في ذكر فيوضات هذه القلوب. فهي ليست كأية قلوب. إنها قلوب حية، تحيى بها

 

الأوطان. لذلك لم يكن اعتباطا أن تقرن الشاعرة في عتبة هذه القصيدة بين القلوب

 

والوطن، وتتوسع في ذكر مناقبها تؤهلها لتكون رديفة له. فإما تكون بهذا الجلال

 

الشفيف تشع نورا على كل الخلائق أو لا تكون، مجللة بجدائل السعادة، تثير سويداء

 

القلوب وشغافه، كما في القصيدة، و تمدد المروج الخضراء، إنها شموع تبدد

الظلمات. قلوب لها نوارس تغمرها الفرحة فتشدو أعذب الألحان “جهارا…سرا //

 

تعزف سلسبيل لحن“، يصل تغريدها إلى الوريد بعدما جعلت له مسامع، فتنشط حركته

 

فيؤدي مهمته أحسن أداء، بحمل الدم من الجسد إلى القلب. ليس هذا وحسب “وتقض

 

 مضاجع الألم“. وما أدراك ما قض مضاجع الألم.

 

و بعد وصول الإيقاع إلى ذروته، تعود الشاعرة لتخفض جرسه قليلا بذكر لازمة

 

القصيدة “بعض القلوب وطن”، قلوب لا حدود لعطائها وسخائها وتضحياتها الجسام،

 

تتفضل بكل ما لديها حتى إنها تفرش للمقبلين عليها السبل الموصلة إليها، مزدانة بأبهى

 

الزخارف “تفرش دروبنا // رمال اللجين // ستائر مشهد // بمزار النجف// في مرقد

 

 الحسين“.

 

 فهل اعتباطا يقع اختيارها على هذه الصورة من التراث الشيعي؟ إنها لتزيد من كرم هذه

القلوب وجودها، فإنها حتى الدروب إليها تفرشها بأرقى وأقدس ما في الوجود. فقد

 استحضرت هذه الستائر بالذات لما تحظى به من قداسة. فنظافتها جزء من العقيدة، يقبل

المتطوعون على تنظيفها وغسلها بأجود الوسائل وأحدثها. وأكيد فالعملية تتم في أجواء

 مهيبة من القداسة والتبجيل. كذلك هذا البعض من القلوب تكون لنا أوطانا. الشاعرة ما يهمها

 من استحضار هذه الطقوس، غير التأكيد على طبيعة هذه القلوب التي تحرص لاحتضاننا أن

تكون في روعة حللها وعظمة جلالها. هي النفحة الصوفية في شعر خديجة بوعلي. لم

 

تغفل جانبا يتعلق بالقلوب التي تنال هذا الشرف لتكون لغيرها وطنا، يجد فيها كل وسائل

 

الراحة و يشعر فيها بالدفء. تضيف إلى ما سبق لتؤكد أنها قلوب صافية لا مكان فيها

 

لسوء الظن، تقول “حسن الظن مشيدها“، واستحضرت زخرف رمسيس لتزين بنيانها، فقد

 

كان شغوفا بتخليد ذكراه، فكان أكثر من بنى المعابد والقصور والتماثيل وتفنن في زخرفتها.

 

كان ذلك منها لتعبر عن روعة جدران هذه القلوب وجلال قدرها، دون أن تغفل إنارتها و

 

فراشها تقول “رخام الحب شمعدانها“، “زرابيها مبثوثة //  ياقوت و عسجد // در و

 

زبرجد“.

 

إنها لفرط جمالها وسمو قدرها وسعيها بكل الوسائل لتكون وطنا وسكنا، يدعو لها ويصلي

 

من أجل رعايتها الراهب والفقيه تقول،”يكلؤها راهب الدير// وفقيه المسيد //// من وعيد

 

 … من غجر // يحرسها نور السماوات // تعصمها افنان الحرز// و الدعوات”.

 

بقلم: بوسلهام عميمر

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman