الرئيسية / آراء قكرية ونقدية /  عن ديوان “أفول المواجع” للشاعرة خديجة بوعلي / بقلم: بوسلهام عميمر

 عن ديوان “أفول المواجع” للشاعرة خديجة بوعلي / بقلم: بوسلهام عميمر

ثنائية الألم والأمل والدجى والنور

               في ديوان “أفول المواجع” للشاعرة خديجة بوعلي

بقلم: بوسلهام عميمر

ــــــــــــــــــــ

ما الذي حرك مواجع الشاعرة لتجود قريحتها

الشعرية بهذا الديوان “أفول المواجع” بعد

ديوانها الأول “أحلام بلون الشفق” وقبل

ديوانها الثالث “سمفونية حنين”، بالزخم

الشعري الذي ورد عليه؛ لغة انسيابية و

انزياحية دافقة، وبصور شعرية بليغة،

وتشبيهات دقيقة، وكناياته واستعارات، وببناء

متفرد قائم على مجموعة ثنائيات؛ ألم/أمل،

شروق/غروب، أفول/بزوغ، ليل/نهار،

إظلام/إصباح، دجى / نور.

“أفول المواجع” عنوان إشكالي في حد ذاته، يثير أكثر من سؤال، سواء على مستوى تركيبه

وصرفه، أو على مستوى دلالته، وفي علاقته ببقية نصوص الديوان الثلاثين. فإذا كان

الأفول وهو من جموع الكثرة له علاقة بالغياب والاستتار، يقال أفل نجمه إذا خمل وفقد

شهرته وبريقه، ويقال أفلت المرضع إذا ذهب لبنها، فهل يمكن تصور يوم ما خمود جمر

المواجع وأفولها؟ فهل هناك ما يدل على هذا الأفول، خاصة وتأبى المواجع إلا أن تلد

مواجع أسوأ وأشد، تزود منسوب مياه أوديتها الملتهبة والمالحة تنكأ جراحات النفوس؟

أم هو الأمل والحلم الذي يعقب أي غروب. فالليل مهما امتد وطال فإنه لا محالة إلى زوال،

لا بد أن يبزغ فجره ويتنفس صبحه؟ أم هو التنفيس والتطهير بالتعبير الأرسطي عن الذات

المتشظية، لما تدلهم عليها الخطوب، فلا تجد غير الاعتصام بالحلم باعتباره أفكارا حبيسة

في العقل الباطن أو اللاوعي؟ فيكون الانتصار على الألم على الورق وفي الحلم، بما أن

هزمه على ساحة الواقع لا يزال دون تحقيقه خرط القتاد.

فموضوعات الديوان الأساسية في علاقة جدلية فيما بينها. إنها كفرسي رهان. تتصارع

فيما بينها وتتحكك كما “تتحكك العقرب بالأفعى” (مثل يضرب للشرير ينازع شريرا أقوى

منه). فنجد الحضور البارز لتيمة الليل وما يرتبط به من حمى وآلام وانكسارات وأوجاع

بصيغه المختلفة (حوالي عشرين مرة)، فجعلت له يدا تمتد وتبطش وتغتال وتشفط وجعلته

يُحتضر تقول في قصيدة “بطش الليل” ص47 (امتدت يد الليل // اغتالت بقايا لآلئ

 الشفق // المتناثرة هنا وهناك // شفطت لوحة حب // / امتدت يد الليل// تخنق

 الحركة/الحياة). حتى إنه من وطأة الألم فإنه هو نفسه (يتذمر الليل من التنهيدات////

يُحتضر الليل بعد كل العناء،).

الشاعرة في ديوانها كانت كمايسترو حادق، استطاعت باقتدار أن توزع الأدوار بين

موضوعات ديوانها الرئيسة بعد أن أنسنتها كلها. فبجانب الليل كانت المواجع، خيمت على

الديوان كله تقريبا، لفظا ومعنى أو ما يدخل ضمنها من أسى وظلمات وبطش وانكسارات

وزفرات وضياع وغياب وعذابات. فقد ورد الوجع بكل تلاوينه الصرفية؛ مفردا “وجع”،

وجمعا من جموع الكثرة “مواجع”، وورد جمع تكسير “أوجاع”. تقول في ص 55

(لكن الحلم نقض الميثاق // اليقظة مثخنة بالأوجاع // مخضبة بنزيف الوهم)

وفي قصيدة “غيمة حنين” ص 61 تقول:

ففي مثل هذا اليوم // حدث ما حدث // ارتشفت حتى الثمالة // نبع الوجع //// ألم … آلام

 ارتطمت // في قعر الأحشاء // نزيف طال كل الأمداء //// سلام عليك // يا من قرأت

 صمتي // وعلمتني معنى الحياة.

قصيدة مترعة بالأوجاع، قد يجد فيها كل متلق ذاته يتحسر بأسطرها على فقيده ويرثي

عزيزه، قد يكون أبا أو أخا أو حبيبا. وفي ص 72، تقول بمرارة قاتمة وببلاغة سامقة

(بل توقف الكون // وتعطلت الحياة عن الحياة // سمفونية الوجع تتراقص // عليها

 الدموع)

وفي قصيدة “صدى الوجع” يبلغ الأسى مبلغه من الشاعرة أسفا على امتقاع الأرض

والسماء بأفعالهم، وجفاف الأنهار، ومنع الليل السمر، وعلى نكوص المبادئ وقتل الأبرياء

وانتشار الرعب والخوف والوجع فتقول (تخشع المتعبد لحظة // فارتدى الكفن // رمي

 الأمان بسهام // الغدر ظلما وجورا // هلع .. خوف .. وجع) ص 84. يتصعد الألم في

نفسها “كأنما يصعد في السماء”، لتصرخ قائلة في ص 85 (بل خجل // في عيون // كل

 ذي نخوة // فبكل لغات العالم // كفى).

ثالثة الأثافي تيمة الحلم. فهو حاضر بكل صيغه، مفردا وجمعا، فعلا واسما، وفي سياقات

متنوعة وبما يتماهى معه ويدخل في معناه من آمال وأمنيات. إنه الملجأ والملاذ. فهو

مشرق القمر البهي من بين فرث الظلمة الحالكة ودمها، وهو مبعث الشوق السني، وهو

مؤثث الإحساس بالأمل والضياء، ومدثر الدخيلة أي السريرة بالطمأنينة والهناء، وأكثر مما

سبق حتى إنها تشحن الهواء بالأماني وتنظف الشرايين من كل الأوجاع ومن غبار

الوحشة. يصل بها المقام لتقول في قصيدة “أفول المواجع” بأجمل تعبير وأعذبه، دافقا

كشلال منهمر (بلسم أنت لكل الجراح // بك أفلت المواجع // // سلسبيل أنت // تروي

 الأماني // وتبرعم المسرات // لا خريف معك // لا خريف بعدك. // فأنت ربيع العمر //

بك أزهر الانتظار // ياسمينا وأقحوانا).

ولفضائله الجُلّى، فهي في خاتمة قصيدتها العمدة هاته التي شرف الديوان بحمل عنوانها،

تترجاه أن يلازم روحها ولا يبرح كيانها. تقول ص16 (فرجاء … بعد اليوم // لا تدمن

 الغياب // ولا تقطن أبدا مدائن السراب // // فدمت لقلبي العليل // أنجع دواء). وهكذا

تمضي بهذا النفس المتفائل، لتعلن في ص24 قائلة (أرشف منها ما يحيي // في أعماق

 الحلم، // شتائل المسرات والأفراح).

لم تغفل الشاعرة، وهي تتفنن في نقل مشاعر الحزن والأسى والمواجع الحارقة، أن ترسم

بكلماتها لوحات فنية غاية في الجمال رغم ما يضلل معناها من غيوم قاتمات. فالشاعر

لسان قومه، يتألم لآلامهم ويفرح لأفراحهم، لم يفتها أن ترصد أحد أخطر معاول الهدم

وأحد أركان المواجع. إنه الجهل المركب، فكان تنديدها به شديد اللهجة، إيمانا منها بأنه

سبب التردي القيمي الذي نعيشه. في قصيدة “لسان الحال” ص 73 تقول (سكن عتي

الموج // جوف الليل وأدراج النهار // سمقت العناكب… تدلت// كست القيم تلوثا ودمارا

 // شرنقات ملطخة أحكمت // قبضتها على الأوتار // شفط الجهل الأكسجين // من عذب

 الهواء // ضاق التنفس في رئة الحياة // صعقات أخلاقية // في كل الأرجاء). يتضاعف

استنكارها لتصل ذروة الغضب، فتسائله وكأنه ماثل بين يديها وأمام ناظريها في ص74

(لم يا جهل تلبدت// على المرايا وأديم الأرواح؟ // أمطرت يا جهل وابلا من// شنيع

الأقوال والأفعال // نخرت المبادئ فأصبحت // صخورا جوفاء // اكتنفت عقولا فتصدع//

النبل والتقدير والإخاء // إلى متى تمضي بنا // القهقرى .. فنعيش // عهد العشوائية //

 وتفشي السيوف والرماح.

لم يكن اعتباطا أن تسلط سيف كلماتها على الجهل. إنه أصل كل الجهالات. إنها ترصد

منصات المواجع باعتبارها مواضع الألم. في قصيدة “عندما تشيخ أمانينا” تقول ص19

 (ظننا أن التقدم // إلى الأمام // لا، إلى الخلف // حتما سيؤوينا //// نحلم بجديد

 // يبهج أيامنا // وليالينا…// // سنظل إن سرنا .// على الدرب ..// متخلفين …//

مختلفين .. متضاربي الآراء // ما حيينا..) إنه التخلف في أبشع تجلياته.

وبنبرة قوية تعلنها مدوية بأننا المسؤولون عن تردي أوضاعنا، وعن نشئنا عماد أوطاننا

تقول (فلذات أكبادنا // ضحايا مآسينا // لا صحة ولا تعليم، ولا كرامة لأي فينا) ثم لا تفتأ

أن تدقق أكثر، فتصوب فوهة مدفعيتها نحو الأفاقين ممن يقولون ما لا يفعلون قائلة ص

21 (سنظل وسط الصفر، // أبد الآبدين. // عن الإصلاح // أثخنتم أسماعنا، // ولا تنزيل

 بدا// على أراضينا.)، إلى أن تقول يائسة ص22، (عبثا كانت تطلعاتنا، وسدى راحت.. كل

أمانينا).

وضدا على من لا يزال يصر على التمييز بين الكتابة النسائية والكتابة الذكورية ليركنها

في زاوية العواطف والانكفاء على الذات، والغرق في شرنقة الوجدان دون غيرها، نجد

الشاعرة بفنية المتمكن من ناصية صنعته، تستنكر فنيا استنكارا شديدا مآسي الحروب

ومخلفاتها المدمرة، وهي تحتفل بنهاية سنة واستقبال أخرى بطريقتها الخاصة. في قصيدتها

“بداية ونهاية” ص63 تقول (كل اللوحات خناجر // تدمي الفؤاد // تضاعف الشجون //

 نازحات ونازحون // أطفال مشردون // فقر ..جوع .. أنين // اغتصابات من كل نوع

 ولون // شروخ وانكسارات // يندى لها الجبين). يبلغ بها الأسى مبلغه، فتنادي السنة عن

بعد متوسلة، ص 65 (فيا سنة تقترب من الحلول // كوني بردا وسلاما // على كل

 الشعوب // ازرعي الحب في كل القلوب // رتلي على المسامع // أنغام الخلود)

وهكذا على حد السيف، وهي تنوع أساليب التعبير عن المواجع، لا تفتأ تجنح نحو الأمل في

غد مشرق، انسجاما مع عنوان ديوانها “أفول المواجع”. تختم بتحد رغم الخطوب

المدلهمات ص 75 (إنا هاهنا منتظرون // وإلى الأبد مترقبون // تغيير الواقع والأحوال)

ولحضور فلسطين في الوجدان العربي والإسلامي، أبت الشاعرة خديجة بوعلي إلا أن تضم

صوتها إلى صوت كل الأحرار لتكرم عهدا، أيقونة الكفاح السلمي الفلسطيني، بقصيدة

شعرية بعنوان “عهد الإباء” ص51 مطلعها (عهد يا عهد الإباء // يا من تحدث الطغيان

// بصفع خد الجبناء // نفضت غبار ذل ..)، ضمنتها كل مشاعر الفخر والاعتزاز،

ببطولتها النادرة في وجه الغطرسة الصهيونية وطغيانه وتحديها له. لم ترهبها إصاباتها

المتكررة برصاصه المطاطي، ولا بسجونه، ولا بتنكيله بعائلتها. وكانت مناسبة لتندد

بخذلان القضية والتآمر عليها تقول ص 53 (عنوان صمود أنت // وتحد للتآمر في

 كواليس // اجتماعات ومؤتمرات // // آمال بك “عهد” انبعثت // صهلت مزمجرة في

 الفضاء // عهد، بنظرتك .. بصفعتك // قلتها:// عهد أن تعود الأرض // بأمثالك لاحتضان

 // أهل العز // والأنفة والإباء)

ويبقى الديوان “أفول المواجع” مفتوحا على قراءات أخرى من زوايا متنوعة، لفرادة مبناه،

فهو يجمع بشكل بارز بين التقفية والوزن في بعض مقاطع قصائده وبين التحرر منها

باعتبار انتمائه الشعري وكذا غناه الجمالي ولغته الانسيابية، ولثرائه المعرفي وعمقه

وانفتاحه على عوالم مختلفة؛ هموم ذات الشاعرة ووجدانها ومشاعرها، في تماه تام مع

هموم أمتها ووطنها وما يعتمل في أحشائه من تناقضات وانكسارات وتشظيات، مع الأمل

في الانعتاق من ربقتها والفكاك من عقالها.

بوسلهام عميمر

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

على نكْءِ الجراحِ أرشُّ مِلحاً / بقلم: عبدالناصر عليوي العبيدي

ولــي قــلبٌ تعاندُهُ الصّروفُ ونــهرُ الــحادثاتِ بــه يحوفُ – إذا تــركَ الــرَّبيعُ ...

غزة غزوات / بقلم: عصمت شاهين دوسكي

منى النفس غزواتها وحدها على كبد شروخها راع الصدود عادة حملت الوهن ...

غزة الأمة وأمة غزة/ بقلم: خالد السلامي

منذ نكبة فلسطين في ١٩٤٨ تلك السنة العجفاء بل وقبلها حين بدأ ...

الظل والقرين/ بقلم: فاطمة معروفي

قصيدة من ديوان “نفس الماء” ضوضاء الصمت…… من حولي تكبل نقطي تمسح ...

أسمال الفزاعة البالية للشاعر بادماسيري جاياثيلاكا / ترجمة : بنيامين يوخنا دانيال

هايكو ( 1 ) أسمال الفزاعة البالية يسحب الحباك خيوطها * من ...

في الجهة الأخرى من الخديعة / بقلم: سالم الياس مدالو

  في الجهة الاخرى من الخديعة تفرك الغربان باجنحتها الشوك العوسج والحنظل ...

حلبجة الجريحة / بقلم: عصمت شاهين الدوسكي

  هلموا اسمعوا هذا الخبر نبأ اليوم قد تجلى حضر من قريب ...

واحة الفكر Mêrga raman