الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / “امرأة مكتفية” للكاتبة سعاد أكريم / بقلم: بوسلهام عميمر 

“امرأة مكتفية” للكاتبة سعاد أكريم / بقلم: بوسلهام عميمر 

امرأة بلا هوية.. بلا وطن

“امرأة مكتفية” للكاتبة سعاد أكريم

بقلم: بوسلهام عميمر

ـــــــــــــــــــــ

“الانسان كائن اجتماعي بطبعه”. فقدره أن يعيش

مع الآخرين ويتعايش معهم. يتفاعل معهم فيتأثر

ويؤثر بحسب شخصيته.

ينجح أحيانا وينكسر أحيانا. فما الذي اضطر

الكاتبة لتكتفي بنفسها وتنكفئ على ذاتها؟ فهل

هناك أقسى على المرء أن يثور على فطرته و

يستغني عن غيره، ليعلنها مدوية كما فعلت

كاتبتنا في منجزها الباذخ هذا، انطلاقا من عنوانه،

عتبته الرئيسية “امرأة مكتفية”؟

أكيد، ما كان لها أن تعاكس التيار وتسبح ضده

بانعزالها واكتفائها بذاتها، إلا ولها ما يبرر موقفها،

ويعلل اختيارها. فلم يكن يسيرا على من يعيش

التجربة، هي أو غيرها، ليركب هذا المركب

الصعب، بأن تترك جمل الواقع بما حمل، فتعيش غربتها الداخلية في خضم حياتها

الخارجية مع أقاربها وأباعدها. فليس هناك أقسى على أي كان أن يفقد انتماءه، ويفقد هويته

ووطنه ص39 ” إذن أنت حورية //قلت أو امرأة بلا هوية // قالت غيري التسمية // قلت

 امرأة مكتفية“. فالجرح كان غائرا، والخرق على الراقع كان متسعا “سال الدمع // فألغت

العين زينتها // وأعلنت // ليس للحبيب الخائن // أتزين”ص32. ثم تسترسل قائلة والغصة

تخنق صوتها، تبين عن حيثيات انقلابها العظيم، قائلة “علمناه العشق // أهديناه أشعارا //

في الفؤاد حبكت // فنسجها في غير شباكنا // وألقاها على مسامع // غيرنا“33، متمثلة

قول القائل بمعنى من المعاني،

وكم علمته نظم القوافي     فلما قال قافية هجاني

منجز أدبي متفرد، يصعب تصنيفه من ناحية جنسه. تبحث عن الوزن فتجده حاضرا في

أكثر من نص، وكذا القافية والإيقاع، تبحث عن الصور الشعرية البديعة فتجدها قد برعت

في تشكيلها بكلماتها، وفيه الشعر المنثور، وفيه من الاقتباسات ما لا يمكن العثور عليه في

أعمال إبداعية أخرى. كانت الكاتبة منسجمة مع ذاتها ومكتفية حتى على مستوى اختيارها

للشكل الفني الذي يحمل نصوصها الواحد والعشرين نصا بما فيها الإهداء لتوأم روحها

الشاعرة مينة عضار، وكلمتها “جسد امرأة” وتقديمها “تقديم”، نصوص لا تقل عن البقية

فنية وشاعرية. كم مرة تفاجئ القارئ بالمحال مما لا يخطر على البال في مجال نظم

القوافي وقول الشعر، كورود آيات بينات من القرآن الكريم في ثنايا متنها، مثل ما نجده

في سياق حوارها مع رفيق الدرب لما قلب رأس المجن لعله يرعو ويتدارك قبل أن يغل

الفأس في الرأس، قصيدة “رفيقي” “رفيقي..// تعال.. فلنراجع الخطاب// ونبحث عن

الهدى“59. ولما كان الصدود كان الحسم بما هو أشد وأنكى،(قال اهبطا منها جميعا بعضكم

لبعض عدو. فإما يأتينكم مني هدى. فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى)) (طه/123) هكذا

وردت موثقة بالسورة ورقم الآية ص58. وفي نفس القصيدة أوردت آية أخرى (من اتبع

هداي فلا يضل ولا يشقى)، وفي قصيدة أخرى تفتتحها بآية طويلة من سورة الممتحنة

آية 12(يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات إلى قوله تعالى إن الله غفور رحيم))ص97. فلو

كانت آية واحدة كان يمكن تجاوزه، لكن أن تتكرر بهذا الزخم، كان لزاما التساؤل حول هذا

النوع من الاختيار في شعرنا المعاصر. في العمل الروائي قد لا تطرح إشكالا إذا تم

توظيفها بسلاسة على لسان بطل الرواية أو أحد شخوصها، لكن في المنجز الشعري، أعتقد

فالأمر يختلف يحتاج للكثير من الحيطة والحذر.  وإن كان فبناء الديوان من جنس معناه.

إنه التفرد. ربما كان هاجس الكاتبة الأساس أن تفصح عما يخالج دواخلها ويخرج على

عواهنه كيفما تأتى لها. إنه ديوان ليس كغيره. إنه يمتح من معين واقع مرير معيش.

يتأرجح المنجز الأدبي بين ما يدخل في إطار سير ذاتية، وبين رؤى الكاتبة الفلسفية

والوجودية و تأملاتها الحياتية. بحنكة المتمكن من ناصية شاعريته، تتسلح بلوازم كتابتها

الأدبية، لتقتحم عش الدبابير مما لم تقدر كثيرات غيرها على اقتحامه. فعبرت عن أفكارها

وأفرجت عن مكنوناتها، وثبتت على مواقفها ونشرتها على رؤوس الأشهاد، غير آبهة بما

يمكن أن تخلفه من توابع وتثيره من زوابع، معلنة في خلفية ديوانها بعبارة لا لبس فيها

قائلة، موجهة مدفعية خطابها بشكل مباشر إلى الرجل “قررت أن أمضي في سلام، وأخرج

 كل ما أثقل العقل والفؤاد. أعرضه عليك ثم أقفل الصفحة، وأنطلق للحياة“.

تيمات المنجز الأدبي عديدة وردت في ثنايا نصوصه، إن بشكل صريح أو ضمني، ولكن

تبقى الروح متربعة على قمة هرمها ( ذكرت حوالي أربعين مرة). فحضورها أبرز من نار

على علم. فلا تكاد صفحة من صفحاته الثلاثة والعشرين بعد المائة، تخلو من ذكرها. بل

كم من صفحة تذكر فيها أكثر من مرة. وردت في سياقات متنوعة، وبصيغ مختلفة؛ فردا

وجمعا، حتى إنها تتجاوز معانيها المعهودة لتصف بها في نص جميل “إملشيل” بقولها

هي روح سائلة.. مرتحلة // بين أشجار الأركان .. تزهر// فوق رمال مرزوكة .. تتدفأ//

على صخور شلالات أزود .. تتدفق” ص23 . هي عين الكاتب الموهوب ترى غير ما

يراه عامة الناس. فقد تناولت في قصيدتها هاته موضوع الزواج بعمق فلسفي، يتجاوز

المألوف، مما يتباهى به أهالي المنطقة (موسم الخطوبة)، ويكرسه الإعلام و الجهات

الرسمية، باعتباره تراثا أصيلا لا بد من الحفاظ عليه، علما فالأمر، ترى الكاتبة، يتعلق

بصبايا في عمر الزهور كلهن حيوية ونشاط، لا يدركن بعد معنى للحياة، بتحدياتها

وتقلباتها و بمنعرجاتها. الزواج أعظم قسمة في الوجود. إنه عشرة عمر. إنه بناء عش. إنه

ذرية. إنه تربية. إنه تدبير. وبالجملة إنه أكبر بكثير من فلكلور موسمي، يعقدون فيه القران

وكأنه نزهة في بستان، وليس مسؤوليات جسام. تصوير بديع خصت به هذا الموسم محذرة

الصبايا من هكذا قرار على عجل بهذه الطريقة. “لكل موضوع ..مقدمة، عرض، خاتمة//

هنا ..على أرض إملشيل // تقام المقدمة // فرح ..زغاريد..عناق //ونشوة// ثم .. ينصرف

 الجميع // وتبقي أنت وحدك // بطلة العرض“.

فقد خصت الروح بما هو أكبر من ذكرها في سياقات مختلفة. لأهميتها جعلتها عتبة لبعض

نصوصها “حنت روحي للهوى” ص84. و بجمالية لا تخطئها العين حاورت الروح

الجوارح، وأنطقت اللسان، وعلق البصر، وتنهد الفؤاد. عرجت فيها كعادتها على قضايا

تدخل في صميم خطها الذي رسمته لها من بداية منجزها إلى نهايته. بنبرة قوية تورد في

قصيدتها هاته مغاضبة قول نزار قباني “إن الحب في العالم العربي سجين وأنا أريد

 تحريره“، تختمها بنبرة ساخرة مشيرة إلى القول العربي الأثير “أقرب طريق إلى قلب

الرجل هي معدته” بقولها ص88 “والله يا أنثى معذورة ..إذن غيري الكتاب // قلت: كتاب

 الطبخ، فهو يجعل لسان حبيبي فنان..// فضحكنا جميعا” ثم قصيدة “فراق الروح” في

ص100 قصيدة مفعمة حتى الثمالة بالانكسارات. فليس هناك أقسى على الروح والقلب من

مقابلة الإقبال بالإدبار، ومقابلة الشراء النفيس بالبيع الرخيص تقول “حين اشتريت حبك //

 وساومت في عشقك // ورفعت سعرك // وأعطيتك قيد روحي” فتعلنها مدوية، قاطعة حبل

الود إلى الأبد، بعد سرد مأساتها وتضحياتها الجسام من أجل معشوقها قائلة «لست لك //

حين غاب صفاء ابتسامتك // // ما أعلمه// هو أننا رحلنا معا” فترحل إلى قرينها بغير

رجعة تقول “أما القرين ..فالتزم // رافقني القرين ..في لحظات تحطمي“41

فحضور الروح كان بارزا. إنها الملجأ و الملاذ في الملمات. إنها بجانب الحديث المتكرر

عن القلب و الفؤاد (حوالي خمسة عشر مرة)، ورد في سياقات متنوعة، ( فؤادي، نبضات

قلبي، جزء في قلبي، هم في قلبي، روحي في قلوب، أرواح قلوب، يا ساكن قلبي…)، حتى

إنها أنسنت القلوب فخاطبتها قائلة، “فيا قلوبا تحمل أرواحنا// ارعيها كما ترعى قلوبنا //

ساكنيها // اتركي الأبواب يا قلوب مفتوحة // تزور وتعود” ص113. وفي سياق آخر

تقول،  “فالحب .. كان محركها // والمشاعر كانت وقودها” ص7، مقارنة بذكر العقل

(ثلاث مرات). إنه مؤشر دال على نزعة الكاتبة الصوفية. وإن كان ليس كأي تصوف بما

ارتبط به من طقوس شاذة و شطحات ونبذ متع الحياة ولبس الخرق المرقعة واعتزال الناس

والانزواء. فالشاعرة على العكس من ذلك مقبلة على الحياة بشكل لافت. فقد شيدت على

هواها محراب انعزالها في أعماق نفسها، وأثثته بما يروق لها ويسعدها، ثم عمدت إليه

بتسييجه، حتى لا يتسوره عليها أحد ممن لا ترغب فيه، دون أن تقطع حبل الود مع محيطها

الخارجي. تؤدي ما عليها، ثم تسارع لتلوذ بقرينها. ترتمي بين أحضانه، تتدفأ بأنفاسه. إنه

ليس كرفيقها  الذي باعها عند أول منعرج بثمن بخس. تقول، “رافقني القرين.. في لحظات

 تحطمي// فأعود لقريني // باكية .. فيحضنني // شاكية .. فينتقم لي // ضاحكة..

فيغويني” 41-42

في انسجام تام بين تيمات النصوص وعتبات المنجز الأدبي انطلاقا من عنوانه “امرأة

مكتفية”. فمادة “ا.ك.ت.ف.ى” كان حضورها واضحا بصيغ صرفية وتركيبية مختلفة،

تأكيدا منها على اختيارها، بعد أن فقدت الأمل في الرفيق، ومن خلاله كل من على شاكلته.

فأفقها أوسع من أن ينحصر في حالة معزولة. فالظاهرة تشمل عديدات، دون أن تكون لهن

القدرة على التعبير عن سوء أحوالهن. إنها بحق لسان حالهن. فقد وردت المادة اللغوية

مصدرا واسم فاعل “مكتفية” مرات، ووردت فعلا متصرفا في الأزمنة الثلاثة (اكتفيت،

أكتفي، يكفي، انكتفي، اكتف)، إيمانا من الكاتبة أن ما تعبر عنه من انكسارات، يتجاوز

حيزها الزمكاني. إنه ليس وليد هذا الزمن، ولن ينحصر فيه. تقول في قصيدة “جسد

امرأة” 7 ” فتتدفق أنوثة // تمنح المحيط نورا // يكفي ليكون منارة // . قصيدة صالت

فيها الكاتبة وجالت، منددة بالفكر الذكوري، الذي لا يرى في المرأة غير جسدها. إنه كل ما

يملك عليه شعوره وكل جوارحه “يرى أن المرأة // مجرد تجربة .. جسدية .. آنية..//

لغريزة تحتاج الخروج” ص9.

ويبقى الإبداع؛ شعرا أو نثرا له خصوصياته وجماليته ورقيه ولغته الانزياحية،. فلا بد له

من المحسنات البديعية والتشبيهات والكنايات والمجازات اللغوية و نحت الصور البلاغية

والرسم بالكلمات على حد تعبير الراحل نزار قباني. فضلا عن الاقتباسات بشروطها

الفنية. فالديوان حافل بالصور الشعرية الجميلة رغم سوداوية معانيها. إنه الإبداع في أبهى

تجلياته، مؤكدة القول الأثير “الأدب يزدهر مع المعاناة”. ففي سياق عرضها لصور من

معاناتها، تبين عن سعة معارفها وعمق فكرها. في قصيدتها “شد الرحال” تورد في ص

116 “يا عبد .. رؤيتي كالنهار تشرق وتنير، وغيبتي كالليل توحش وتجهل“، “غيبتي

 تريك كل شيء ورؤيتي لا يبقى معها شيء“، “لن تصل أبدا إلى ربيع الحياة، ما لم تجد

 النار بداخلك

صور بديعة يحفل بها الديوان المتفرد فرادة صاحبته، حتى وهي تعبر عن حالات حالكة

و قاتمة. هنا تظهر براعة الإبداع. تشد القارئ بجمال الصورة ورقة الكلمة. تكفي الإشارة

إلى بعضها. ففي سياق يأسها من الرفيق وارتباطها بالقرين تقول “واسترجعت ملكية نفسي

// أحببتها، دللتها، غازلتها // واستسمحتها” “قررت استرجاع حق الملكية // وحق

 نفسي // وحق أحلامي // وحق اعتزازي كوني امرأة” ص39

محاورة جميلة بينها وبين القلم. تحادثه، وكأنها تحدث عاقلا، فتشترط عليه ويشترط عليها،

والعقد شريعة المتعاقدين. فقد خصته بقصيدة “قلمي”، تقول في ص 46-47 “قلت شروطك

 يا قلمي؟ // قال: عالمي .. واقع وخيال// بوح صريح // يخرج الألم” “شروطك أنت؟ //

فلتكن مفتاحي .. لكل باب // طريقي لكل عالم // وعيني على كل مجهول”

الحوار كان ميسم الديوان، تقول في سياق هجرانها للرفيق “توقف .. رفيقي // أنا أنسك ..

 توأم روحك .. منك وإليك // ما كنت عدوا .. إلا لما الهوى تملكك” 57

منجز أدبي فريد من نوعه، لا من حيث بناؤه الفني، يصعب تصنيفه وتجنيسه، اجتمع فيه ما

تفرق في غيره، ولا من ناحية تيماته فعلى تعددها فهي تصب في بحر مواجعها، تتضاعف

لما تجد نفسها بين سندان رجل ومطرقة رجل، في قصيدة “مملكة النساء” ص62. لتخلص

في الأخير بعد اليأس من كل شيء، فيتوقف الصخب، ويهدأ الهوى، ويشخص البصر

وينطلق النغم و تفقد الأمل في أي معشوق لتقولها مدوية في آخر صفحة122 “أني أعشق

الذي لا يرحل // الله .. // عشقي الأكبر

 


عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

على نكْءِ الجراحِ أرشُّ مِلحاً / بقلم: عبدالناصر عليوي العبيدي

ولــي قــلبٌ تعاندُهُ الصّروفُ ونــهرُ الــحادثاتِ بــه يحوفُ – إذا تــركَ الــرَّبيعُ ...

غزة غزوات / بقلم: عصمت شاهين دوسكي

منى النفس غزواتها وحدها على كبد شروخها راع الصدود عادة حملت الوهن ...

غزة الأمة وأمة غزة/ بقلم: خالد السلامي

منذ نكبة فلسطين في ١٩٤٨ تلك السنة العجفاء بل وقبلها حين بدأ ...

الظل والقرين/ بقلم: فاطمة معروفي

قصيدة من ديوان “نفس الماء” ضوضاء الصمت…… من حولي تكبل نقطي تمسح ...

أسمال الفزاعة البالية للشاعر بادماسيري جاياثيلاكا / ترجمة : بنيامين يوخنا دانيال

هايكو ( 1 ) أسمال الفزاعة البالية يسحب الحباك خيوطها * من ...

في الجهة الأخرى من الخديعة / بقلم: سالم الياس مدالو

  في الجهة الاخرى من الخديعة تفرك الغربان باجنحتها الشوك العوسج والحنظل ...

حلبجة الجريحة / بقلم: عصمت شاهين الدوسكي

  هلموا اسمعوا هذا الخبر نبأ اليوم قد تجلى حضر من قريب ...

واحة الفكر Mêrga raman