الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / عن ديوان “مساء المرايا” للشاعرة مجيدة الفلاحي / بقلم: بوسلهام عميمر

عن ديوان “مساء المرايا” للشاعرة مجيدة الفلاحي / بقلم: بوسلهام عميمر

عن ديوان “مساء المرايا” للشاعرة مجيدة الفلاحي

بقلم: بوسلهام عميمر

ــــــــــــــــــــــــــــ

ترى هل قدر أقلام شواعرنا وشعرائنا غير صخر الخيبات والأسى والأحزان ينحتون منه

تيمات دواوينهم، وينسجون منه خيوط قصائدهم. دواوين من ألفها إلى يائها لا رومانسية

 

فيها يعبرون بحروفهم عن أوجاعها الحالمة وحنينها، ولا تغني بجمال الطبيعة وحسنها، ولا

 

ترانيم مع أمواج البحر وطيور النوارس، ولا استمتاع بخرير المياه وشلالاته إلا فيما نذر، و

 

زقزقات العصافير ولا بروعة انبجاس نور الصباحات وتنفسها، ولا بهدأة الليالي وضياء

 

نجومها. فجلها غيوم تظلل سماءها، مثقلة ليس بالمزن ينفع العباد والبلاد، بقدر ما هي مثقلة

 

بكل أنواع الهموم والأوجاع والانكسارات. قصائد تنز هما و غما وكمدا. تقول الشاعرة في

 

ص7 “وغيم مثقل بجمر الانتظار/ وغيث مؤجل/ في جوفها وجل“، وفي ص79 تقول بمرارة

 

والوجع عميق المدى / ما همني هذا الهروب الكبير / الذي ينثر أوجاعي”  وحتى في

 

اللحظات الهاربة، يبتسم فيها الحظ تسمح بالتفلت من لظى الأحزان، سرعان ما توأد في

 

مهدها فتعود القتامة أشد وأنكى. في ص32-33 تقول في سياق حديثها عن اجتيازها ذات

 

نهار شوارع مدينة الرباط، أعجبت بجمالها وهوائها العليل وبنظافة شوارعها، فغمرتها

 

سعادة عارمة، لكن “وأنا أعانق هذا / الحسن والجمال/ والهواء العليل/ يداعب وجهي/

 

سرعان ما انقبض قلبي/ وأنا أتذكر ذلك الهامش المنسي/ وبؤس بلدتي/ وحفر بلدتي

 

ديوان الشاعرة هذا، لا يشذ عن هذه القاعدة. إنه يجسد المعاناة في أحلك تجلياتها، ابتداء من

 

عنوانه الموحي، عتبته الرئيسية “مساء المرايا”، ربما كان منها تلطيفا من باب إطلاق

 

“البصير” على الأعمى، حتى لا تقول “غروب المرايا” غروبا أبديا بدون شروق. قمة اليأس

 

والقنوط. فهل الأمر يتعلق فقط بما يعتري صفحة مرآتها من تشققات بليغة، يستحيل معها أداء

 

مهمتها الطبيعية كوسيلة على ضوئها يتم التأنق والتزين، أم الأمر أشد وأنكى على النفس،

 

فشتان بين زمن الشباب والفتوة والجمال يمكن للإنسان أن يمكث أمامها بالساعات الطوال

 

بدون كلل أو ملل، لكن مع عوادي الزمن وما تحمله رياحها من شيب وتجاعيد، فتصبح المرآة

 

لا شعوريا في خانة غير المرغوب فيه. فهو في هذه السن عادة ما يتجنب رؤية حقيقته على

 

حالها. يزيد المشهد حلكة لوحة الغلاف عتبته الثانية، فصفحة المرآة علاوة عما يعتريها من

 

تشققات بمختلف أشكالها و تفاوت أحجامها وأكيد عمقها، خلفيتها. فهي عبارة عن سماء ملبدة

 

بالغيوم، تتأرجح بين السواد الداكن و صفرة وجوه المرضى وشحوبها. أجواء مضطربة تنذر

 

بشر مستطير. وحتى الشمس التي يمكن أن تكون مصدر انفراج بشروقها الجميل أو غروبها،

 

تتمنى العيون التمتع ببهاء منظرها مع زرقة البحر، فهي في خضم فضاء يغشاه حمرة الدم

 

القاني.

 

صورة مأساوية مصغرة لما يعتري حياتنا عامة من بتور وانكسارات و أوجاع. تعرض جزء

 

منها في عتبتها الثالثة؛ ظهر الغلاف، مقتطف من قصيدة “زرقاء اليمامة” ص7 تقول “تخرج

 

من حواشي البؤس / تخرج من تضاعيف القهر / أمرأة تأتي من زمن ولى / تكتم جراحها /

 

تلملم تاريخ نبوءتها / وجع معلن في مدى عينيها / ليلها طويل // ..طويل / بلا أجنحة تطير”.

 

للألم تجليات قاسية، تفننت الشاعرة بكلماتها في رسم تفاصيل صورها القاتمة، فعلى درب

 

الشعراء على امتداد العصور، استعارت الليل للتعبير عما يعتري مشاعرها من ندوب

 

وخطوب. حضوره مع ما يرتبط به من ظلام وأحلام، لافت في أكثر من قصيدة بصيغ متنوعة.

 

فهل هناك أقسى على النفس من طول ليل مفعم بالمعاناة ومثخن بالجراحات، والتحديق في

 

الظلام الحالك تقول”في ليلي الطويل/ أراوغ صمتي / أحدق في الظلام الحالك“77. وفي

 

ص84 تقول “وليل غارق في تفاصيل الأشياء“. لكن تبقى تيمة المرآة، بتقنية المتمكن من

 

صرة صنعته، استطاعت الشاعرة أن توظفها أجمل توظيف للتعبير عن مواقفها و آلامها

 

وانكساراتها، كدأب غيرها من الكبار ممن وظفوها في إبداعاتهم شعرا أو نثرا، أو نقدا سياسيا

 

أو أدبيا، كما “المرايا المقعرة”، كانت من الناقد محاولة لإنصاف التراث البلاغي العربي

 

بوضعه أمام “مرآة عادية” لتبيان منجزاته، ردا على من يتهمه بالقصور ويبخس إسهاماته

 

زمن توهج نجمه. وضع مأساوي يكتم الأنفاس، لم تجد معه الشاعرة غير اقتباس المرايا تعبر

 

من خلالها ما يعتلج في دواخلها من زفرات وأوجاع و آهات. تحضر المرايا بقوة على امتداد

 

صفحات الديوان بأكثر من عشرين مرة، في سياقات متنوعة وبصيغ مختلفة، حتى إنها أنسنتها

 

وأضفت عليها الكثير مما يخص بني البشر، فجعلت لها كفا ومشاعر وذاكرة تقول “ليست

 

محايدة مرآتي/ لها مشاعر وذاكرة/ بها شروخ / وشظايا جروح/ شاهدة / تنطق بالبرهان /

 

من أعماقها صوت جاف/ يناديني” ص38

 

ديوان “مساء المرايا” لم يقتصر عما يعتري الذوات والنفوس من تشظيات و أوجاع تشيب لها

 

الولدان، نوعت الشاعرة في أسلوب عرضها، أكثر من ذلك فقد وثقت فيه لمواقفها من مجموعة

 

من القضايا المصيرية، تهم شرائح عريضة من المجتمع، على قمة هرمها أم القضايا؛ التعليم.

 

فهي وإن عرضت له ببضع كلمات وأسطر، فقد وضعت الأصبع على الجرح. تقول في ص34

 

ما أن نلتقي حتى نبدأ/ في وصلة الشكوى/ من هذا النظام التعليمي/ الفاشل“. خلاصة مرة

 

ليست من فراغ، لا غبار على حقيقتها. إلى الآن لا يزال يترنح تحت وطأة أعطابه. لم تفلح كل

 

المشاريع الإصلاحية، لتخليصه من عنق الزجاجة. لم يفتها أيضا أن توثق لنضالها المتواصل

 

في إطار الدفاع عن مطالب السلاليين، وخاصة ضد شرط الإقامة الذي فرضته الحكومة  تقول

 

ص32 “لحذف بند الإقامة / ذلك الشرط المجحف“. لم يكن هذا لوحده ما تسبب في تشقق

 

صفحة مرآتها. فقد تداخل فيه حتى أنانية الأزواج بوجودهم النادر بأبواب المدارس، وعناد

 

الأبناء34.

 

ويبقى ديوان “مساء المرايا” بقدر تفرده في معناه، بما تناوله من موضوعات و تيمات

 

متعددة تجمع بين ما يتعلق بذات الشاعرة من هموم و بين ما يثقل كاهل المنكوبين من بني

 

جلدتها بالأحياء الشعبية والبلدات الصغيرة المهمشة، فالشاعر لسان قومه، فبقدر هذه المضامين

 

ينز البؤس من جنباتها، بقدر تفرده الفني في مبناه. وبما أن الإبداع تراكم، فبجمالية شعرية

 

عالية استدعت في إطار بنائها لصرح قصائدها مجموعة من المعارف من مشارب مختلفة،

 

أبانت فيها عن غزارة معرفتها و موسوعية ثقافتها. فقد أوردت سور الصين العظيم في قصيدة

 

“خبئيني”49 لتشبه به في سياق طلبات مخاطبها قائلا “أشيد جدارا عازلا/ بينهما/ كسور

 

الصين العظيم“. كما اقتبست ضمنا قصة يوسف بمعنى من المعاني في ص52 “تجرني /

 

راوديني على نفسي/ قدي أقمصة عشقي/ واغلقي كل أبواب شوقي“. كما استحضرت

 

رائعة غسان كنفاني “رجال تحت الشمس” تقول في قصيدة “ماذا لو كان عاد أدراجه”

 

ص91 “لم يدق على جدران قصيدته/ لم يتذكر غسان/ ولا رجال الخزان/ تحت الشمس“.

 

كما استدعت ببلاغة لافتة قصة آدم وجلجامش ص95.

 

ولكن يبقى أهم تناص وأبلغه قصة نوح عليه السلام في قصيدة “سلاما”ص68، وبالتحديد

 

سفينته. فقد أبدعت في اقتباسها وأجادت، أضفت على القصة من عندياتها بعض ما سكت عنه

 

القرآن الكريم كتساؤلها “واستوت على الجودي/ من غير أن تقطع / الريح أشرعتها / كيف

 

تحملت طول الرحلة؟”. أعقبتها بأسئلة حارقة، فبعد ذكرها لإنقاذ المؤمنين المصدقين اثنين

 

اثنين تتساءل “ومن أين جاء / هذا الشر؟/ ألم يغرق مع الظالمين/ وغير المصدقين؟/ ألم يكن

 

في السفينة/ سوى المحبين/ والطاهرين؟” وتمضي في استنكارها قائلة ص70“وعانق الذئب

 

الحمل/ وغنى الثعلب للحمام/ أنشودة السلام”. ليبلغ بها الأسى مداه، فتعلنها مدوية “من أين

 

جاء/ الطغاة الظالمون/ والغزاة/ والجناة والعصاة/ والمجرمون“، ثم أردفتهم بالمذنبين

 

والخائنين والأفاقين وآكلي السحت وعباد الأصنام، فتنادي على نوح عليه السلام قائلة، “يا

 

نوح استأسدت/ الذئاب علينا/ وبين مخالبها/ تمزقت/ أوراق التوت/ وتبخرت أحلامنا/ فعرت

 

سوءاتنا/ على الملأ/ بين سنان/ البنادق والغنائم“. بوتيرة متصاعدة استمرت في تنديدها

 

بالظلام وبعلو  موجه وبالفوضى العارمة  وبالقهر وبالشر، لهوله شاخت الأوطان، و بصلب

 

الحقيقة. حتى إنها لشدة الظلم وتغوله تقول “وغيوم أبت / أن تمطر/ إلا رياحا وزوابع// برق

 

ورعد ولا شتاء”74. وبجمالية لا تخطئها العين، تجهر بأعلى صوتها المبحوح “أنحتاج فلك

 

نوح؟/ تبحر بنا/ إلى أرض جديدة؟/ أنحتاج ولادة جديدة؟/ أنحتاج طوفانا/ على الطوفان/

 

 لكي نحيى ونعيش/ وتغتسل الأرض/ وتتطهر تطهيرا/ أم نحتاج السفينة/ لتكون البديل/

 

والمخلص/ والسديم؟”. و في آخر القصيدة تعاود النداء على فلك نوح قائلة ص75“يا فلك

 

نوح/ خذنا أنقذنا / مع الطاهرين/ الأراذل المصدقين/ لقد آمنا/ ولسنا من الكافرين”. قصيدة

 

من القوة بمكان من طوال ديوانها ( 8صفحات)، تنز كمدا على الأوضاع المزرية. فبعدما فقدت

 

الأمل في أي منقذ، لم يبق أمامها من خيار غير المناداة على فلك نوح عليه السلام.

 

فعلى ما يلفح مضامين قصائد ديوانها “مساء المرايا” من لظى الأوجاع، فهي على مستوى

 

بنائها آية في القول الشعري و الجمال الفني؛ صور بلاغية بديعة، استعارات، كنايات، تشبيهات.

 

لنتأمل جمال هذه الصورة الشعرية تقول فيها “معلقا بين حيرته وظنونه/ كعصفور تلقفه الفخ/

 

وجسد على الأرض تمدد/ من سقمه وتوسد قدره/ يصغي لصدى نبضه” ص92.  وفي ص7

 

تقول “صدرها حرائق مشتعلة/ وغيم مثقل بجمر الانتظار/ وغيث مؤجل/ في جوفها مؤجل“.

 

وتقول في قصيدة “لا ثالث بيننا” ص46-47″أنا المكبلة بأوهامي/ المسكونة بالضجر/

 

الرازحة تحت أكوام/ من الحجر/ المصلوبة/ بين حوافر القدر“.

 

فالديوان لغناه المعرفي و ثرائه، و وكثافة إشاراته، ولبديع مبناه الفني، يحتاج لأكثر من مقاربة

 

جمالية واجتماعية ونفسية. إنه يعكس ما يدور في المجتمع وما يمور به من تفاعلات بلغة

 

شعرية انزياحية في قصائده الستة عشر.

 

بوسلهام عميمر

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

 رمــضانُ / بقلم: عبدالناصر عليوي العبيدي

        – – – – – – – أتــى رمــضانُ يحملً كـلَّ ...

,جدارية محمود درويش بين قراءتين / بقلم: فراس حج محمد

| فلسطين “انتهت القراءة الأولى الساعة 7:45 مساء يوم الاثنين 19/6/2000” هذا ...

لم التشكيك بالأحاديث النبوية؟ / بقلم: خالد السلامي

  تعودنا بين حين وآخر ان نرى بعض التصرفات التي تتعمد الاساءة ...

  قراءة في ديوان “ضجيج كثيف” للشاعرة نبيلة الوزاني/ بقلم: بوسلهام عميمر

“بعيدا عن الهلوسات، الشعر بلوازمه قضية ومسؤولية”   “ضجيج كثيف”، ديوان نبيلة ...

حلم طفلة / بقلم: ماهر طلبه

  قصة قصيرة مر على هذا الحادث سنوات كثيرة.. كنت لم أفك ...

في منحدرات الأرق / بقلم: سالم الياس مدالو

في منحدرات الارق ينمو الشوك العوسج والحنظل وينعق البوم وتنعب الغربان والعواء ...

رسائل خاصّة جدّاً / بقلم: فراس حج محمد

رسائل خاصّة جدّاً إهداء: إلى أميرة الوجد (ش. ح) [وَلِي وَلَهَا فِي ...

أنا اليوم عاجزة / بقلم: ملاك زلّيطة

أنا اليوم عاجزةٌ تمامًا لكن الأفكارَ ليست بعاجزة؛ تحرّضني على اقتحامِ عرش ...

واحة الفكر Mêrga raman