الرئيسية / إبداعات / ديوان ” أهبُ أصابعي لخواتم النور” للشاعرة ” آسيا خليل”…الباحثة والناقدة نوميديا جرّوفي

ديوان ” أهبُ أصابعي لخواتم النور” للشاعرة ” آسيا خليل”…الباحثة والناقدة نوميديا جرّوفي

%d8%a2%d8%b3%d9%8a%d8%a7-%d8%ae%d9%84%d9%8a%d9%84 %d8%af%d9%8a%d9%88%d8%a7%d9%86-%d8%a2%d8%b3%d9%8a%d8%a7

آسيا خليل شاعرة كردية من مدينة ديريك في كردستان سوريا . تكتب باللغتين العربية و الكردية.
ديوانها الأول ” أهب أصابعي لخواتم النور” الصادر عن دار الغاوون في بيروت 2010 فيه الكثير من مشاعر ( الحنين، الألم ، الوحشة،الوحدة، العزلة، الذكريات ،..إلخ)

يشتمل الديوان على قصائد كُتبت في السجن و عن السجن و فيها تدون الشاعرة تلك التفاصيل الإنسانية المؤلمة بلغة عالية و صور شعرية مكثفة و تروي عزلتها وآلامها و ذكرياتها و مناجاتها من خلال تجربتها الشخصية التي عاشتها خلال سنوات اعتقالها سجينة للرأي، لكنها لا تكتب بأسلوب الشكوى والنواح ، بل تكتب بأسلوبها الشعري المتميز الذي يجعل القارئ يغوص في تلك العوالم / العزلة/ و يلامس تلك الآلام.
كما يشتمل الديوان على بعض القصائد التي كُتبت فيما بعد خارج السجن و فيها تروي الشاعرة معاناة شعبها المجزأ بين الدول و تستعير الأساطير و تراث الشعوب التي عاشت في هذه المنطقة من سومريين وآشوريين و ميديين و غيرهم لتروي لنا تاريخ و تراث شعبها الكردي و أيضا عن معاناتها كأوّل امرأة كردية من سوريا تدخل المعتقلات و تأخذنا من خلال نصوصها الشعرية إلى عوالم الحب و الحنين و الكثير من التفاصيل و الصور الإنسانية الرائعة.
في الديوان تحدثت عن ذلك المكان الموحش الذي كانت فيه فترة طويلة وحيدة مع سجينات وهنّ بين الجدران الأربعة القذرة مع العزلة المفروضة و الشوق لنور الطبيعة.
هناك تناغم بين الحالة الشعورية و التجربة الإبداعية، استطاعت فيها الشاعرة أن تكون قوية و لم تستسلم.
لكنها لخّصت لنا الكثير من تجربتها المؤلمة لمن يغوص بين الأسطر في الديوان.

في القصيدة الأولى “وحدك في المهب”

تكتب الشاعرة:
مفعمة بالأسى أعيد اجتياح الأساطير
لي ابتهالات جفت على باب إنانا
وهوى في أور
وخاتم في يد السومري
لي في الأعالي زهرة
يصعد لها البابلي أدراج الهيام
لي صولجان الماد والكمنجات التي
تتلوني كلما افتتح الجلنار خابية الحنين
لي رعشة التيه في شفتيك
كلما شهق كحل في اللواحظ
إلي
إلي

عندما نتمعّن في هذه الأسطر الرائعة بتمعّن نجدها تتحدث بطريقة تاريخية ليس فقط عن سوريا و كردستان، بل تذكر ايضاً التراث التاريخي السومري والبابلي و السوري كأنما هي تؤلف وحدة إنسانية بين حضارات وتراث هذه الشعوب.
و كذا الوحدة في العزلة تناجي طويلاً بلا فائدة،حيث لم تعد هناك إبتهالات للآلهة السومرية و استرجعت ذكريات جميلة عن حبيب فتناديه ( إلي… إلي)

و رغم شعورها بضيق المساحة والأفق نتلمس عزمها على الحلم بالتحليق في قولها:
يا جناح دوريّ
أهادنخفقه الواجف
و أستظلّ بسماوات تضيّق المدى

و في قصيدة “لا حجل يقف على أسوار وحدتنا” نقرأ :
صمت ينفخ العتمة
في النجم البعيد
تعال انتشلني من الخلاء الدبق
رويدا، رويدا يسكن أوردتي
أزح عن أشجاري طير الوحدة
مترهلا يتراكم الوقت في الغرفة الصغيرة
كثيفا يضغط على شجني
نجد الشعور بالوحدة و مرور الوقت المتشابه كلّ يوم حيث الأيام متشابهة رغم مرور الزمن و الملل في غرفة السجن الضيقة، و الصمت القاتل و الضجر الذي يرهق الجسد.

و في قولها:
انشر جناحيك لحنيني
نطوي أرصفة المدينة
خذني إلى شمال البلاد
و امض بي إلى البيادر نجبها
غزالين شاردين
مرّ بي فوق المرابع
أتلمّس طفولتي و صباي

في هذه الأبيات حنين لذلك الحبيب البعيد و الطفولة و الصبا و نسيم الطبيعة بهوائها العليل و جمالها و جبالهافي كردستان.

و في قولها:
انثر رذاذ الشمس على جلدي
و ضمّني إليك متأججة بالحدائق
قبل أن يفيق
الحرس
هنا توق لنور الشمس الذي يرمز للحرية و رغبة في الإنعتاق والحياة والحب .. و توق لضوء الشمس وسط تلك الكوة الضيقة.

و في قولها:
عمّا قليل ستنفتح الأبواب
إنه أوان التنفس
هل يدركون أننا نستنشق الذاكرة
في غرف
مكتظة بالوقت البارد الكسول
و أننا نحتاج أن ننظر في عين الله مباشرة؟

تتحدث هنا عن هواء الغرفة العفن و أوان التنفس حيث يفتح الحراس الأبواب لتخرج السجينات لبعض الوقت،تلك الغرف المكتظة و الباردة بالوقت الضجر الذي يمضي بطيئا جدا هناك، و لكلّ سجينة ذكريات تحنّ إليهاو تشتاق لو يعود الزمان للوراء لتعود لذلك الزمن الجميل الذي كانت تعيشه بعيدا عن الأربعة جدران العفنة و النّتنة.

و في قولها:
شتلة صغيرة زرعناها في الحوض
الترابي الصغير أمام مهجعنا
براعمها تفتّحت اليوم
تحلّقت حولها سجينات الرأي
يمسّدن الساعات انبهارا بفتنتها
و عطرها المنثور في الريح
يميل على الفتيات
تنضح بالحنين عيونهنّ
ساهية عن غنج الورد المتفتّح
يسترجعني عطر تناثر…

إنّ الشاعرة من خلال اهتمامها بالتفاصيل التي قد تبدو صغيرة تفتح للقارئ أبوابا واسعة للغوص في المعنى المراد إيصاله ، فهنا في الحديث عن زرع الشتلة و تبرعم الزهرة نتلمس حب الحياة الجميلة، التوق الى الحرية خارج أسوار السجن ، حيث من دلالات الزهور في الشعر الجمال والأنوثة ، الطبيعة والحياة، إنه حنين لنسيم الرياح من الطبيعة الخلابة من خلال الشتلة الصغيرة المغروسة في السجن.

و في قولها:
أنسج شالا زهريا للطفلة روز
المولودة في غيابي
تقول أختي: “يسكن البحر عيني ابنتي
و تنساب على قطن جبهتها خيوط الذهب ”

تتخيّل الطفلة الصغيرة روز ابنة أختها المولودة في غيابها

و في قولها:
تغمرنا الشمس بطرف نظرتها الناعسة
و الأقفال
تحكم الحصار على أرقي
نصل الضجر يشطر سكينتي
أنين خافت يتصاعد من مساماتي
هنا ذلك الضجر القاتل وسط حصار الأربعة جدران في السجن و الأنين من عذابات السجن المتكررة.

في قصيدة “أشياء تنفرط”

القلق ماض بظلالك إلى
شجرة صفصاف
بينك و بينها…
عقدها الذي انفرط
تدحرجت حبّاته على الطريق
كما أيامك تسربت من يديك
تتدحرج خلفك

شوق و حنين لذلك الحبيب البعيد و الذي يفصل بينهما السجن و سياجه و تسترجع تلك الذكريات الجميلة في زمن رائع عاشته تتذكره و هي في وحدتها و عزلتها و ذلك العقد يذكرنا بالفيلم الهندي (ديفداس) حيث قصة الحب التي جمعت بين ديفداس و بارفاتي ليحطم عقدها يوم زفافها من الأرستقراطي فيشجّ جبينها و يتفتت العقد فتتناثر حباته لكنه احتفظ به لآخر أيامه في جيبه.

في قصيدة “ذهول”

ملآنة كأسي
و وحدي أرتشف النسيم الهابّ
من تخومك إلى مسائي
قطرة، قطرة
و أنثرك على دمعتي حكايات
في انشغال الكون عنّي

حزن شديد في وحدة المساءات المتشابهة و الشرود الدائم .

في قصيدة “طوبى لأطياف تستنهض فيك كلّ هذا الورد”

طوبى ليأسك
لبأسك
لأمل يتدحرج من محجريك
على بساط الفراغ
واقفا على مشارف العام الجديد
مضمومتان كفّاك
حانيتان
على باقة من أمنيات
تخشى عليها من الهلاك
عازما خوض الخراب
بما تبقى من انكسارات الروح
حاملا وزر هزائمك كلها
من زمن إلى زمن
تنقب في برهة الغموض المديدة
عن حجارتك الأولى
عن حكمة الأسلاف
منذ جدك الملتاع من طعنة الغدر..
هنا تخاطب الشاعرة شعبها بأكمله من خلال مخاطبة شخص فتقول طوبى لك وأنت رغم مرور السنوات و رغم الانكسارات و الغدر لازلت تحمل أمنياتك و تخشى عليها و ما زلت مصمما على نيل حياة كريمة تليق بك ، فعام يمضي وآخر يأتي و زمن يمضي وآخر يأتي و هذا الشعب مازال يشق طريقه وسط غموض و صمت العالم عن حقه الذي ضاع و الغدر الذي لحق به

و في قولها:
عن عروش زائلة
لعبور خطوهنّ البعيد
رنين أجراس من البلّور
حزنك شاهق
و القلب رهيف
طوبى لأطياف
تستنهض فيك كلّ هذا الورد

هنا تسترجع التاريخ لكردستان و حكمة الأسلاف و الأجداد و كيف حدثت الخيانة و الغدر و لم تعد مملكة كردستان لسابق عهدها منذ ذلك الحين.
و الحزن العميق لتلك العروش التي زالت.
تحدثت الشاعرة هنا عن التاريخ بطريقة رائعة جداً لمن يفهم بين السطور جيداً.
في قصيدة “وحيدا تستدرج ظلالي”

يتسرب عبيرك الى مسامات جسدي
مورقة انتي في النهارات
صهيل صواعق في الذاكرة
و في المساءات أنتحب تنفسك
المشعّ فوق زندي
اتركي هامشا صغيرا لتسللي إليك
من غيمة الحلم
دعي المساء مفتوحا ما بيننا
كي أطلق أحصنة حنيني خلف
غبار خطوتك المبتعدة
كم جاهلا كنتُ
ظننت قلبك البحر

هنا حوارية بين المحبوب و محبوبته ،إذ يناجي المحبوب الحبيبة بعد فراق أو غياب و يبثها شوقه و لوعته على هذا الغياب و خلف خطواتها البعيدة يُطلق أحصنة الحنين و يحنّ لتلك الذكريات الجميلة بينهما حيث باتت تصعقه و يتألم بشدة من عاصفة الصُّبابة التي تعصف كلّ مساء و هو في تلك الوحدة المؤلمة.

و في قولها:
يا آلهة ابحر ضمّيه
و اغمريه
بنسمة تعطّرت بصوتي
و اغتسلت بماء حنيني

تبث الشاعرة شوقها للمحبوب و وسط رحلة الحياة المجهولة و هذا الفراق أو الغياب تدعو آلهة البحر أن تضمّه و تغمره بفيض حنانها و نسمة صوتها البعيد و حنينها الذي تبعثه عبر الآلهة

في قصيدة “كلما أنّ الجسد من أسره رفرفت الرّوح”

متعبة من يأسي
أتهادى عل فراش بليد
و اترك أبواب الذاكرة
مشرّعة على أنينها
و على دروبك أفتح
نوافذ الخيال
لماذا كلّما ضاقت بنا الأمكنة
اتّسع القلب؟
لماذا كلّما أنّ الجسد من أسره
رفرفت الروح؟

تعب و يأس و ملل و ضجر و أنين و استدراج للذكرى و الذاكرة لزمن بعيد حيث تفتح نوافذ الخيال كلّما ضاق بها الأمر، فكلّما يضيق المكان يتّسع القلب بما يحمله من خيال و روح عظيمة جدّا لتخفّف من لوعة الشوق و الحنين للأهل و الأحبة.

و في قولها:
هواء آسن
ينهش رئة السهوب
و آذار غائب عن فسحة السّماء
حاضر في نرجس الرّوح…

هواء آسن ينهش الرئة من عفونته و الحنين لأريج عطور الربيع و آذار بأزهار النرجس في التلال و الجبال و الفرح بعيد نوروز و غيابه المتكرّر في فسحة السجن و ظلماته حيث تناجي عصافير الروح لتحلّق حيث الأحبة لتشعر أنّها مازالت على قيد الحبّ و الحياة.

و في قولها:
أبي أخذ يدي من بين القضبان و قبّلها
أذابت دموعه يدي، فبكيت..
تتحدّث عن دموع الوالد الطاهرة عندما زارها و هي وراء القضبان حيث أذابت دموعه يدها و بكت بسبب دموعه الزكيّة.
أب مفجوع ينحني ليقبل يد ابنته المسجونة و هي وراء القضبان.
و كلّما حنّت شوقا له دمعه ذاك يرطّب كفّها.

و في قولها:
صمت.. رهيف النّصل يجزّ
ليلنا الموحش
و حنين هادل بالبكاء
فتهاد..

صمت مخيف كالنصل الحاد الرهيف و ليل موحش مرعب و حنين جارف يؤدّي للبكاء أحيانا

و في قولها:
إنّ القيد.. جارح..جارح

تتحدّث هنا عن ذلك القيد الذي يدمي، القيد الذي يتسبب بالألم الشديد، عن ذلك الألم المبرح الذي لا يشفيه الزمن، الألم الذي لا يشفى سريعا و يترك آثارا كنقش لا يزول مهما طال الزمن، نعم القيد جارح ، فالشاعرة هنا في الحديث عن القيد تلمح إلى القيود المفروضة على حرية التعبير و الحياة العامة والحقوق، لذلك يكون القيد جارحاً.

في قصيدة ” قمر يستقرئ شرودنا”

غيابا تلو الآخر
زنزانة إثر أخرى
غير أنّي لم أزل مهدهدة سؤالا شاخ
تتحدّث عن المدّة الطويلة التي أمضتها في السجن و انتقالها من زنزانة لأخرى على مرّ الوقت، و بالرغم من كلّ ذلك بقيت صامدة.

في قصيدة ” هكذا”

و في قولها:
أمعن في نقشي المسجّى
في فلك التواريخ المهملة
أشدّ نسيجه خيطا..خيطا إلى جيدي
إذ تنغرس النّصال
أرهف لهديل الحمام موغلاً
في سراب المعنى
و فوضى الموت المتراكم
علّني أهتدي إلى أجوبة
ترفع الغبن عن كاهل اليقين
فتتكاثر نبالُ الأسئلة.
إنّ الشاعرة هنا تتأمل تاريخ شعبها في فلك التواريخ المهملة و تحاول أن تستقرئ هذا التاريخ الذي مزقته النصال و الحروب، و هي ترى أنّه رغم حبها و حب هذا الشعب للحياة والسلام والبحث عنه فإنّ معنى السلام يزداد غموضاً ويتراكم الموت في كل مكان و تشتعل الحروب، و هي كلما أرادت أن تهتدي ليقين يزداد شكها وأسئلتها و تزداد حيرتها من غبن هذا العالم لها.
وأيضا نقرأ لها في هذه القصيدة اليأس و الخوف من استمرار هذا الموت المرتقب كلّ حين، و كلما اقتربت الشاعرة من يقين بأن الصراعات سوف تنتهي و يحق الحق ، تجد أنّ هذا اليقين يخذلها ، فتتحمل أوجاع عزلتها بصمت . و ذلك في قولها:
كأني أمضي إلى اليأس
إلى الموت
إلى يقين يخذلني
هكذا…
أريق وجع العزلة
أنينا.. أنينا
على شفرة الصمت

و في قولها:
هكذا…
عاطلة أنا عن الألم
و هشاشة الحنين
يتسنّى لي أن أجدّل
ضفائر الوقت الكسيح
و أتوشّح ريش الفينق المحترق
في سطوة الزمهرير
هكذا…

زمهرير الوحشة و الألم المتكرر من العذابات و الحنين و الضجر بسبب الوقت الذي يمضي بطيئا بين الجدران الأربعة و ذلك الأمل الذي بات ضئيلا جدا و لكنها رغم ذلك لا تفقد الأمل بل نجدها تستخدم مفردة الفينيق كدلالة على انبعاث الأمل .

في قصيدة ” هبوب أطياف على وحشتك ”
سوف ترتجل المساءات
الممتدّة في الوحشة
وحدكَ ..
باذلاَ جلّ زمنك المتخثّر
في التوجه صوب
ضفاف الذاكرة المتعبة
تعيد رتق ما اهترأ من
حكايات الطفولة
ترى من هو المخاطَب هنا ؟ أهو حبيب أم صديق أم تراه أي سجين آخر من سجناء الرأي الكثيرين في تلك البلاد؟
فالشاعرة هنا تخاطب سجينا و تتحدث عن ظروف و معاناة السجن لأنها تعيش تلك المعاناة وتدركها… تقول سوف تكون لياليك في السجن طويلة و موحشة ووحدك سوف تمضي زمنك الواقف المتخثر في استرجاع الذكريات.. فالسجين يملك الكثير من الوقت الفائض لذا يعيد ذكريات حياته من الطفولة .

و في قولها:
تاركاً جسدك يتصالح
مع آلام المفاصل
تدنو بقدم أوهنها الحديد
من الكوّة الصغيرة
منتظراً مرور قمر شاحب
أو طيفها تلك التي تكسّرت
بين رحى الغياب
المكوث في السجن يسبب الكثير من الامراض و من بين هذا الأمراض آلام المفاصل.. تقول الشاعرة يجب ان تتصالح مع آلام جسدك لكي تتحمل البقاء في السجن فترة طويلة مع هذه العذابات والأوجاع الثقيلة، وتقول للذي تخاطبه إنّك بهذه القدم المتعبة سوف تقترب من الكوة الصغيرة في السجن وأنت تحلم برؤية أطياف الأهل و الأحبة الذين غبت عنهم

في قصيدة ” أنّى الزهور ترفع قبعتها الصفراء ”

في هذه القصيدة استعملت خيالها الواسع بحيث حلّقت بعيدا جدا في الأعالي ، و من خلال التلاعب بالمفردات والألوان تأخذنا في متاهاتها حيث تقول:
في شرفة الطابق الرابع
ببطء ترتفع عيناي عن كتاب أصفر
إذ يسّاقط الغروب
ثم تقول:
بنت صفراء
تجدل مقعدا في الحديقة
لا تنفك تغص بساعة في يدها

و تقول في آخر القصيدة :
البنت التي يطحنها القلق
تركت فوق مقعد الحديقة ذاك الغروب و كتابا رماديا
فنحتار من التي تجلس في الشرفة وتراقب، و من التي تنتظر في الحديقة ؟ إنها عين الشاعر الثاقبة التي ترى التفاصيل الصغيرة و تتماهى بها فتنسج منها شعراً يحلق بنا في تلك المتاهات الجميلة.

في قصيدة ” أنا الخفيفة كفراشة الرؤيا ”
نقرأ لها :
والحدود تشرّع لي بوابة يأسها فأعبرها
ملوّحة للبلاد
نعمت صباحاً يا روضة الجرح
تعالي
عانقيني
جرارك من فخار الحكايات مترعة بالأغاني
و أنا حارسة المراثي
فقدٌ ، رحيل ، هجر، بلاد مثخنة بالجراح والأحزان، إنها بلاد الشاعرة، تنادي الشاعرة بلادها فتقول أيتها البلاد الجميلة المليئة بقصص الحب والحياة والأغاني عانقيني فإنني حارسة المراثي.
كأنما هو قدر الشعراء أن يحملوا أحزان الأوطان أينما مضوا.

في قصيدة ” أحد يعلن ضرب النواقيس ”
أحد شبيه يالبارحة
أحد شبيه بأحد مضى
أحد بزيّه الجديد
و لأني أعيش استراحة مفتوحة كفم متاهة
ممتدة كهاوية الضجر
لن أتخذه يوم عطلة
و لن اتخذه يوم عمل
ما الذي يجعل للقهوة مذاقاً مختلفاً إذاً؟

الروتين القاتل و الفراغ المميت، حيث كلّ أيام الآحاد متشابهة فيها حكايات لا تنتهي رغم اختلاف بدايتها إلا أنّ النهايات فيها كلها نفسها متشابهة لا تختلف في كل يوم أحد هناك حزن و لا مبالاة و ملل و ألم و أنين و غياب و شوق ، فمهما اختلف زيّ يوم الأحد يبقى يحمل في جنباته نفس المشاعر و إن اختلف الشهر فيه أو السنة.فكل الأيام في الأحد تبقى نفسها.

في قصيدة ” رسائل لا تصل ”
صمّاء هذي الجدران
تؤجّج صراخ ذاكرتي
تتمادى الهواجس
إذ أراوغها
محدّقة في ما لا أراه
كأنها – الهواجس- أفاع
تلتفّ على عزلتي
إنتظار السجين لمعرفة الأخبار و ما يحدث في الخارج ثقيل، والشاعرة تعرف أنّ الرسائل لا تصل وسط جدران صمّاء تجعل الذاكرة تصرخ ، حيث تتخيّل تلك الهواجس المخيفة و المرعية في تماديها أفاعي تلتف حول العزلة و الوحدة.

في قصيدة ” صدى الأمكنة ”
في قولها:
هي الشوارع ذاتها تتراخى
لصهيل خطوتي

تفاح يضرم في عينيّ
الحكاية الغابرة
يستدرج ضحكتي

آمال تصرخ خلف الأبواب
و على الجدران
صور الراحلين نحو المتاهات
غبار يغفو على جانبي الطريق

ظلال مستندة إلى الذكريات
ناسية أن تكبر في غفلة الغياب الباذح

هي ذكريات تصدح من صدى أمكنة تحن إليها، شوارع ما زالت تذكر خطواتها، حكايات تذكر ضحكاتها و بسمتها فيها، صور راحلين تاهوا في دروب الزمن الغابر، ذكريات كثيرة جعلتها غافلة في ذلك الغياب المؤلم جدا حيث كبرت قبل الأوان.

في قصيدة ” ثمّة موسيقى تنهمر ”
في قولها:
داخل قطار يقلني إلى المتاهة
داخل القطار الذي
يشدّ الدروب من أشجارها

و في قولها:
الشاب الذي رمش لي
لم يلمحني ندية الأجنحة
ساهية عن نول الأفق التعب على ركبتي
أتهيأ للتحليق

القطار يعني السفر ، يعني دروب الحياة التي نسير فيها، يعني المحطات الكثيرة في حياة الشاعرة، اختلاف الزمان والمكان وهي تعبر هذه الدروب، دروب الحب، دروب الحزن ، دروب النضال، دروب التيه، دروب و دروب ، و قطار يمضي.. و رغم الصعاب في كل هذه الدروب تحلم الشاعرة بالتحليق لمواجهة بشاعة الواقع و أوجاعه.

في قصيدة ” تهمي كدالية ”
و في قولها:
الذكريات تتسلّق شرفتي
تحتطب أرقي

تهبط إليّ من المدخنة الباردة
تستلقي في الركن المعتّم
مبعثرة النوم عن جفنيّ

تتحدث الشاعرة عن ذكرياتها التي تنهمر على مساءات الوحدة كما تتدلى العناقيد من دالية على الشرفة، الذكريات التي تحاول أحيانا أن تتهرب منها لكنها تملأ لحظاتها حدّ الأرق.

في قصيدة ” ما يشبه النشيج ”
في “وداع” تتحدث فيها عن ذلك الوداع للأهل المفاجئ حيث لم يتسنّ لها توديعهم و هم بمناديلهم الباكية عليها، مناديل بدموع تلوّح لها.

في “الألغام” تتحدثّ عن ذلك الشاب الشهيد الذي احتضن اللغم لينجي رفاقه من الموت.

في ” مأساة” تتحدث بأسى عن تلك الساعة المعفرة بالتراب و خيط الدم.

في ” في ذاك الربيع” تتحدث عن شهداء كانوا يبدون شبه نائمين و ليسوا موتى، و كأنهم كانوا يستريحون فقط من التقاط الرصاصات التي هشّمت صدورهم .

في قصيدة ” رسالة من تحت الأرض ”
اطمئني يا أمي
لدينا في أعلى الجدار
نافذة صغيرة
لا تقلقي.. فالنافذة مفتوحة
و أقسم يا أمي
لم يغلقوها
ليتسنى لنا رؤية
ثلوج كانون
بأمّ عيننا
أرأيت يا أمي

تطمئنّ أمها البعيدة و تشكو لها في نفس الوقت ما هي فيه، تطمئنها بوجود نافذة صغيرة في أعلى الجدار ترى النور من خلالها.
ثم هي لا تتحدث عن ثلوج كانون التي تراها بل عن البرد الشديد في غرفة السجن بسبب تلك النافذة المفتوحة و ذلك الصقيع الذي يجعل المرء تصطكّ أسنانه و يرتجف حيث لا يتمكن من الشعور بأوصاله بسبب البرد الشديد .

و في قولها:
و يا أمي لماذا تشترين
لي حذاء ضيّقا؟
و أنت تعرفين أنّ قدميّ
الصغيرتين
قابلتان للتمدّد
-بحسب علوم الهراوات-
ضعفي حجمهما
برغم الحزن و الأسى و الألم استطاعت الشاعرة هنا أن تكون قوية حيث وصفت ما صارت إليه رجلاها الصغيرتان بسبب الهراوات و كيف تورّمتا و صارتا ضعفي حجمهما و هي تشكو لأمها بطريقة تفوق الوصف الألم الذي هي فيه و تناجيها علّها تخفف ما بها كما كانت و هي طفلة.

و في قولها:
ليس لأنّ المكان هنا
رطب و قذر
و ليس لأن الماء مثلج
و الصابون عملة نادرة
و لكن لأن شعري
أغواه القمل
شعري الطويل
يا أمي..
شعري الطويل
قد..
قص..صته..
بسبب القذارة في السجن و منع السجينات من الاغتسال و رطوبة المكان و عفونته و انعدام الصابون ، تتحدث بأسى هنا في الوصف،و حسرة و أسف مما عاشته هناك، و تتألم لأن شعرها الجميل امتلأ قملا، ثم تناجي أمها بغصة و بكاء و تخبرها أنها قصّت شعرها الطويل.الشاعرة من خلال هذه القصائد تفتح أبوابا واسعة للتأويل و بلغة تهكميّة تروي مشهداً في غاية الألم

في الختام
رسمت الشاعرة “آسيا خليل” و أبدعت في كتاباتها في الديوان، حيث كتبت أحاسيسها و مشاعرها و تجربتها الذاتية في السجن، سطّرت آلامها و أحزانها و حنينها وأشجانها و آمالها .
استخدمت في بعض القصائد خيالها الواسع و لغتها الشعرية الإبداعية في الوصف و المعنى .
كما استخدمت المشهد الشعري الدرامي الذي جعلنا نشعر بكل الكتابات بقلوبنا.
و هناك البوح و المناجاة و الحنين لذلك الحبيب البعيد و الطبيعة الأم بجبالها و ورودها و تلالها و ربيعها.
الديوان فيه تجربة ذاتية لها سطرتها بأناملها الإبداعية بطريقة رائعة تفوق الوصف، لكنها من خلال لغتها الشعرية و صورها الإبداعية تداخل بين تجربتها الذاتية والهمّ الإنساني العام، و تعتبر المرأة الكردية السورية الأولى التي ذاقت مرارة السجن و الاعتقال و القلق و الحزن و الألم و هي تأمل بانبلاج فجر منير على الوطن في ظلّ الثورة الشعبية العارمة.

نوميديا جرّوفي، شاعرة و باحثة و ناقدة

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية Hejmara (21) a Kovara Şermola Derket

  صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية   صدر العدد (21) ...

السهل الممتنع في ديوان “للحبر رائحة الزهر” للشاعر نصر محمد/ بقلم: ريبر هبون

وظف نصر محمد الإدهاش مغلفاً إياه بالتساؤل مقدماً اعترافاته الذاتية على هيئة ...

شعاراتٍ العربْ / بقلم: عبدالناصرعليوي العبيدي

فــي  شعاراتٍ العربْ دائــماً تَــلقى الــعجبْ . رُبّما  المقصودُ عكسٌ لستُ أدري ...

 القراءة :النص بين الكاتب والقارئ/ بقلم مصطفى معروفي

من المغرب ــــــــــــ بداية نقول بأن أي قراءة لنص ما لا تتمكن ...

جديلة القلب/ بقلم: نرجس عمران

عندما تضافرتْ كلُّ الأحاسيس في جديلة القلب أيقنتُ أن رياحكَ هادرة ٌ ...

على هامش تحكيم مسابقة تحدي القراءة / فراس حج محمد

من فلسطين تنطلق مسابقة تحدي القراءة من فكرة أن القراءة فعل حضاري ...

نســـــــــــــرين / بقلم: أحمد عبدي 

  من المانيا “1”   توقف البولمان  في المكان المخصص له  بعد ...

أناجيكَ ياعراق / بقلم: هدى عبد الرحمن الجاسم

أناجيكَ بين النخلِ والهورِ والنهرِ وأشكو لكَ الإبعادَ في الصدِِّ والهجرِ إلامَ ...

واحة الفكر Mêrga raman