الرئيسية / قصة / أم تائهة لتعليم أبنائها /بوزيان موساوي

أم تائهة لتعليم أبنائها /بوزيان موساوي

 

 

 

أم تائهة لتعليم أبنائها

كنت مكلفا بإدارة ثانوية في إحدى المدن المغربية قبل أن أستقر في الثانوية التي أديرها اليوم.. ذات صباح من أيام الدخول المدرسي.. و بينما كان ينتظر على باب مكتبي حجيج من آباء و أمهات و أولياء التلاميذ لمقابلتي لمشورة أو لمشكل أو لانتقال أو للاستقبال الخاص ببانتهم و أولادهم.. كان دور امرأة استقبلتها في مكتبي.. كانت في عقدها الثلث او الرابع… يصعب أحيانا الحسم في السن.. قبل أن تتكلم، اجهت بالبكاء.. دون عويل.. منديل من ورق نشاف كانت تمسح به تارة أنفها وتارة محيط عينيها.. مع آهات و انقطاع في التنفس…
باشرتها بالكلام: هوني عليك سيدتي … ما خطبك.؟.. اللهم خير؟
حاولت تماسك أعصابي.. لأن الكثير من أمثالها كان ينتظر مقابلتي.. و لكل أشغاله و اهتماماته و انتظاراته… و همومه…
قالت: إنني تائهة سيدي المدير.. و أعتذر عن تأخيرك عن عملك.. إني أم محطمة و عاجزة، و إن لم تساعدني، سأغرق و معي بناتي و ابني…
قلت لها لما وجدتها مترددة: بإمكانك أن تحكي ما شئت للكاتبة فهي أمينة أسرار مكتبي، و هي امرأة مثلك قد تفهمك أكثر..
أجابت: لا.. لا رجاء، سأحكي لك.. اعطني من وقتك دقائق..أعرف أنك جد مشغول.. : زوجي مكلف بمهمة بالعاصمة.. و لا يزورنا الا في بعض العطل.. أنا من أتكلف بتربية بنتين و ابن..بلباسهم و طعامهم و نظافتهم و تمدرسهم..إلخ… و زوجي يحملني دائما نتيجة فشلي حتى أصبح يكرهني… بكت.. استرجعت انفاسها .. اعتذرت.. و قالت: ابنتي الوسطى درست في هذه الثانوية حتى السنة الختامية من سلك البكالوريا (الثانوية العامة).. خطبها ابن عمها القاطن بفرنسا.. و اشترط توقيفها عن متابعة الدراسة.. كان يريد زوجة ربة بيت تقف إلى جانبه في ديار الغربة بفرنسا.. و لأنها كانت مغرمة به ، قبلت شروطه دون تفكير و فرضت علينا (أبوها و أنا) الأمر الواقع.. فتم تزويجها، ورحلت معه إلى ضواحي باريس.. و بعد سنتين… (أجهشت مرة أخرى بالبكاء..تمالكت نفسها.. و عادت لتكمل القصة/ الماساة).. استردفت قائلة و هي تئن من كثرة الحزن و الياس و الخوف من الشمانة:.. بعد أن حملت منه و أنجبت طفلة مثل الملاك.. طلقها غيابيا في إحدى القنصليات ضاربا عرض الحائط “مدونة الأسرة” ـ كما نص عليها القانون رسميا بالمغرب ـ بفضل علاقاته المشبوهة هناك بفرنسا.. و أركبها في أول طائرة مع رضيعتها… وهي اليوم تحتجز نفسها في غرفة من بيتنا.. لا تخرج و لا تأكل إلى إذا أرغمناها و لا تستقبل أحدا… لما تشتد أزمتها تصيح: “لا زواج نجح، و لا دارسة أكملتها.. و لا أسرة غنية.. أنا ضائعة.. الانتحار أحسن لي….”… سيدي المدير: إبنتي ضائعة.. و كل الأسرة ضائعة.. إن انتحرت، سأنتحر أنا الأخرى ( بكت.. استرجعت أنفاسها و أكملت).. : هل بإمكانك سيدي المدير أن تجد لها مكانا في هذه الثانوية لتكمل دراستها.. و تشعل شمعة في بيت يسوده الظلام.. و تنقذ أسرة كاملة من الضياع؟…
قلت لها: رجاء، ارجعي يوم الجمعة صباحا.. لأفكر في الموضوع قانونيا و تشريعيا.. و أستشير هيئة الادارة التربوية و هيئة التدريس و رؤسائي في العمل..
أجابت: اتفهمك سيدي المدير… أعرف أني أخرتك عن عملك.. و أعرف أن غيري ينتظر الاذن للدخول إلى مكتبك بقصص مغايرة أو مماثلة.. لن أطيل .. يوم الجمعة انتظر جوابك عن ابنتي التي حكيتك لك عنها.. و لم أحك بعد عن البنت الكبرى و ابني الذكر الوحيد في الأسرة..
قلت لها:لقاؤنا قيل صلاة يوم الجمعة.. استأذنت و خرجت كما دخلت تائهة، حائرة، غير مصدقة بمدى استطاعتي مساعدتها…
و حان يوم الجمعة.. و استقبلتها في الساعة العاشرة صباحا.. كانت ترتدي جلبابا أتثويا مغربيا أصيلا من طراز إمكانيات الطبقة المتوسطة.. و رغم قساوة الحياة.. لم تهمل أنوثتها من حيث الأناقة و اللباقة و الرونق و الجمال.. وو كأنها خائفة من احتمال إهمال زوجها لها..قالت بعد التحية: هل من جديد فيما يخص طلب استعطافي سيدي المدير .. كان برفقتي حارس عام و أحد الأساتذة الحكماء بالمؤسسة..
أجابها السيد الحارس العام: لم يجتمع بعد سيدتي مجلس القسم للبث في موضوع إعادة إدماج المنقطعين و المفصولين و الغير ملتحقين و المشطب عليهم… أضاف الأستاذ حكيم المؤسسة: هناك ثلاث حالات تشبه حالة ابنتك… سنعتبرها حالات اجتماعية انسانية.. سنبث فيها بحضور اساتذة مجلس القسم و السيد مفتش التوجيه في اجتماع استثنائي…
قالت: شكرا جزيلا… اللهم خير.. و ماذا عن ابنتي الكبرى… آه .. لم أحك لكم بعد قصتها… بعد 6 سنوات من زواجي .. لم أنجب.. زوجي كان متفمها.. اقترح علي أن نتبنى طفلة أو طفل.. آنذاك كان يحبني كقرة عينيه لأني كنت قد ورثت من أبي رحمه الله بعض المال و أودعته تحت تصرفه لكثرة ثقتي به.ـ كنت رومانسية جدا و كنت أحبه جدا، و لا أزال.. ـ … و وهبت لي إحداهن من بنات الشوارع ابنتها مقابل مبلغ مالي و اختفت.. و قام أحد معارفي بتزوير شهادة ميلاد لتحمل اسم زوجي و كأنها من صلبي.. لكن المشكلة أن تلك الشهادة لم تسجل في السجلات الرسمية بمكاتب الحالة المدنية… أكملت دراستها بتفوق حتى تحصلت بامتياز على شهادة السلك الاعدادي.. و لما النحقت بالتعليم الثانوي التأهيلي بثانويتكم طلب منها السيد الحارس العام بلثانوية شهادة الازدياد.. و لم أتوفق بالحصول عليها.. لا قانونيا و لا بالرشوة.. بل عرضت من زور أول شهادة ازدياد ـ وهو اليوم محال على المعاش ـ للمسائلة القانونية.. و قد نفى كليا التهمة الموجهة إليه.. و قد أطلقوا سراحه مؤقتا للتقادم… هل من حل؟… البنت ذكية و تحب الدراسة.. ولا شك أن مستقبلا زاهرا ينتظرها.. ما ذنبها، هي ؟… أترون سادتي.. اعذروني… لكن هذه هي مأساتي.. و ما لم أقله بعد قد يجعلكم تملون مني و تطردوننيمن مكتبكم.. (بكت بحرارة حتى اقشعرت أبدان الحاضرين)… كنت أكتب كل ما تقول.. لأحرر محضرا رسميا.. أتلوه يوم انعقاد مجلس التدبير (و هو أعلى هيئة استشارية لتدبير سياسة الثانوية)…
استردفت قائلة: أما الولد.. آخر العنقود ـ من صلبي ـ و هو أول ذكر في أسرتي و كل أسرة زوجي.. فله قصة أخرى لا تقل مأساوية عن قصص أخواته… تنهدت.. بكت.. بمرارة… و كأنها لا تنتظر حلولا.. أو كأنها على سرير طبيب معالج نفسي يطالبها بالتنويم المغناطيسي إفراغ ما بأعماقها لا شعوريا.. يعد نجاحه في آخر السنة الدراسية بالثانوي الاعدادي ليلتحق بمؤسستكم.. و بعد توصله بالنتيجة، سقط مغشيا عليه.. و مكث في حالة لا وعي كاملة بالمشفى لمدة ثلاثة أيام (حالة “كوما”) لما عرف أن مجلس القسم وجهه لاستكمال دراسته بشعبة الادب بسبب المعدل المتوسط الذي تحصل عليه في الامتحان الجهوي.. كان يحلم بأن يصير مهندسا أو طبيبا.. و لم يسعفه الحظ في الامتحان الجهوي بسبب صداع رهيب انتابه يوم الامتحان لقلة النوم أيام التحضيرات… هل من إمكانية ليغير شعبة الآدب و يوجه إلى شعبة العلوم عربية أو شعبة العلوم خيار فرنسي باكالوريا دولية؟..
كنت استمع إليها مع السيدين الأستاذين الجليلين: السيد الحارس العام و السيد المدرس قيدوم المؤسسة و حكيمها بإمعان شديد.. ليس فقط لتاثرنا بحكاياتها، بل أيضا لأن واقع أسرتها..يشبه الكثير مما يحكى لي داخل مكتبي..
فيما يخص ابنتها الوسطى “المطلقة”، فلقد اعتبرها السيدات والسادة الأساتذة أعضاء مجلس القسم بالثانوية تحت رئاستي حالة اجتماعية من بين حالاث ثلاث اخرى متشابهة.. وبالتالي تم الاتفاق لاعطائهن آخر فرصة لاستكمال دراستهن.. و قد نجحت اثنتين منهن بامتياز في آخر السنة الدراسية (إحداهن ابنة السيدة المعنية أصلا بهذه القصة).. بينما لم تكمل إحداهن الدراسة حتى آخر السنة لظروف خاصة لا مجال لذكرها هنا…
و فيما يخص الابنة الكبرى صاجبة شهادة الميلاد المزورة، البنت المتبناة… فلقد عرضنا أمرها على السلطات التربوية الاقليمية و على خلية الاسرة و محاربة العنف التي تشرف على تدبير شؤونها قاضية بمحكمة الاستأناف بالمدينة.. فلقد تم تسجيلها بالثانوية، و لا زالت تتابع دراستها بها.. بعدما قضت لها المحكمة بشهادة ميلاد قانونية و شرعية… و هي متميزة في دراستها..
أما بخصوص الابن ـ أخ الأختين ، فلقد استدعيته لمكتبي بحضور السيد مفتش التوجيه بالمنطقة.. و تم اخضاعه لامتحانات كتابية وشفوية من طرف أساتذة محايدين و أكفاء.. و نجح بامتياز في الامتحان، و تم إعادة توجيهه حسب طلبه..
هي شؤون صغيرة..لكن حلها يشعل أكثر من شمعة في بيوت مظلمة..
هي ليست قضية أم بعينها و لا بفتاة أو فتى بعينه.. هي قضية نظام تربوي قلما تفاعلت الأسرة مع الادارة التربوية بالمعنى الحديث للكلمة… لحل شؤون صغيرة.. هي قضية مجتمع..

بوزيان موساوي

عن wahaalfikir

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لقاء مع الشاعر الحروفي أديب كمال الدين حاوره علي جبار عطية

    الشاعر الحروفي أديب كمال الدين في حوار خاص : * ...

تهديم التابوات قراءة في رواية ( تحت التنقيح ) أحمد طه حاجو

التنقيح هو تشذيب وتعديل ومراجعة للنص الأدبي كي يخرج بصورته النهائية والتي ...

جِلْنَارُ الموَاسِمِ/ كريمة نور عيساوي

  جِلْنَارُ الموَاسِمِ فيِ هَذا المسَاءِ اللاَّزُورْدِيِّ… وَأَمامَ الشَّارعِ، المُقابِلِ لِناصِيَةِ الحُلْمِ… ...

من وصايا العاشق / نمر سعدي

  من وصايا العاشق موسيقا تقطِّرُ لي هواءً عمرُهُ عمرُ النجومِ تنفَّستهُ ...

انتخاب الصورة الواقعية وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض في قصيدة * السماءُ لمْ تَزل زرقاء * للشاعر العراقي شلال عنوز   سعدي عبد الكريم / ناقد وسينارست   *دراسة نقدية*  

  انتخاب الصورة الواقعية وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض في قصيدة * ...

صهيل من فلوات الأرواح: عندما يصبح الشعر رسولا للإنسانية

  صهيل من فلوات الأرواح: عندما يصبح الشعر  رسولا للإنسانية   إن ...

تشمر عن ذراعيها لزرع شتول الرحمة وعلم الجمال/ فوزي محيدلي

    *تشمر عن ذراعيها لزرع شتول الرحمة وعلم الجمال* هي بطيبة ...

قــراءة فـي كتــاب ستـــارة زرقــاء شفــافة ( نصــوص مســرحــية ) للــكاتبة العراقية  أطـــياف رشــيد مسرحيات توحدت بالهم العراقي * احمــد طــه حاجــو

    قــراءة فـي كتــاب ستـــارة زرقــاء شفــافة ( نصــوص مســرحــية ) ...

واحة الفكر Mêrga raman