شاعرة بحرينية تتمرد على بعض السائد من الأخطاء/ عدنان الفضلي

شاعرة بحرينية تتمرد على بعض السائد من الأخطاء

 

في أحد تعليقاته كتب الشاعر الصيني مي ياو شينغ مقولة بقيت عالقة في أذهان أهل الشعر إلى يومنا هذا رغم أنه قالها قبل عشرات السنين حيث قال: لتتقن الأناقة أولا، ومن ثم ابحث عن الأسلوب البسيط، فثمة قصائد توضح المتانة التي يتطلبها الأسلوب البسيط .

وبهذا فان الأسلوب البسيط يعد صعبا جدا كونه يحتاج إلى بساطة عذبة عميقة الأغوار وتمتلك أكثر من خيط يدلنا على فحوى النص الذي يتوقف عنده المتلقي أو الناقد وهذا الأسلوب الأنيق والبسيط والمتمكن من ذاته وجدته ماثلا أمامي وأنا استعرض نصوص المجموعة الشعرية للشاعرة البحرينية فاطمة محسن، والتي صدرت تحت عنوان ”أسقط منك واقفة” وهو عنوان واضح ودال على الشخصية الشعرية المختفية وراء هذا النبض المنثور بطريقة شعرية تحفر الذائقة وتنعش التلقي لدى الباحثين عن القصيدة الحديثة، فقد كانت فاطمة ومن خلال مجموعة النصوص هذه والتي احتوت أغلب ثيمات الشعر الحديث المتعارف عليها مثل: الحب/ المرأة/ الرجل/ الرجولة/ الأنوثة/ المصير/ الانتظار/ التحدي/ العطش لأشياء عدة/ الفرح/ الحزن/ الشجينة/ الغربة/ وغيرها تنسج وعلى مهل عدة سحب علقتها على سماء الشعر وتركتها تمطر علينا قصائد وانثيالات مليئة بالسحر الحلال.

وقد أكدت لنا هويتها برغم خصوصيتها وذاتيتها المفرطة التي لمحناها في العديد من المقاطع الشعرية التي كونت وحدة متكاملة من حيث المعنى والتوظيف المتقن كما في هذا المقطع الذي تقول فيه:

“دعني أساومني ثم امسح دمعي/ أغير طقسي قليلا/ فمنذ غيابك هذا نشيدي/ الدموع.. الدموع.. الصلاة.”

وفي المجموعة ذاتها وجدت فاطمة خاضعة أيضا برغم تمردها الواضح إلى تراكمات الموروث والمألوف بمعنى أنها لم تحقق تمردا يبعدها عن البيئة التي تنتمي لها، إنما تمرد آخر على بعض السائد من الأخطاء التي تتلبس تلك البيئة، حيث إنها ومن خلال ثيمة الحب راحت تنحت بإتقان وجوها ونماذج عاشقة تعيش معها حرفيا وربما تواكبها في خطوات الحياة وتتوغل معها في تفاصيل مخفية أو مشعة.

والشعر لدى فاطمة محسن تأكيد واضح لذاتها التى أراها وعبر هذا المجموعة القادرة على تكييف روحها مع كل الأجواء التي تحيط بها من بعيد أو قريب، حيث إنها كانت تمتلك مفاتيح أوسع للعزف والاشتغال الشعري عبر رمزية واشتغال مختلف عن الشائع أو التقليدي في قصائد النثر، ولعل هذا المقطع يؤكد ما ذهبت إليه من رأي أو رؤية حيث تقول فيه:

“الريح تهمس للنار / وقميصك في الركن ساجدا للظنون / راكعا لأسئلة النسيان / فزاعتك مسكونة بالأمس/ الصحراء قذفت رمالها في جوفك وارتاحت”.

وفي بعض نصوص المجموعة استوقفتني مفردات تؤكد أن الشاعرة تمتلك خزينا مفرداتيا ولغويا ومعرفيا سهل عليها التوغل عميقا في ثنايا الحكايا الشعرية عبر توظيف تلك المفردات في صور تربط القديم بالحديث وعبر انثيالات جعلت من النصوص تتألق في زاوية الطرح والتلقي، وحين نعرف أنها ابنة دلمون فلا عجب ان وجدناها وعبر اشتغالها الخاص تناغي أمكنة أخر وتذهب باتجاهات عدة حيث المدن والأنهار الخالدة التي تعني الحياة وعشقها المتأصل لكل مكان تشعر بانتماء إليه.

وقد وجدتها في مقطع معين تحاور النهرين الخالدين دجلة والفرات عبر انثيال عشق واشتهاء تساقطا كما أمطار تشرين يبلان النفس والروح حيث قالت:

”اشتهي الظل فيك/ لأكتب من مطر صهوة اللقاء/ اشتهي نرجسا للعيون التي سيجت أرقي /اشتهيك”.

أما المقطع الآخر والذي بشر بالشاعرة مفتاحا لخزين معرفي كما أسلفت في أعلاه فإنه امتلأ بالصور الشعرية التي تجسدت كرؤية جرت الميثولوجيا إلى كف القصيدة لتعقد قرانهما عبر تزاوج شعري لا يمكن إسقاطه في داخل النص بدون دراية بتهاويم الشعر وجنونه حيث إنها استفزت بي الكثير حين قالت:

”مر في الانبياء/ وقامته تستظل بقلبي/ بسبحته كان يجلو النخيل/ ومرت هناك/ فكانت ترد في الجرح تهويمه/ حبرها يتسكع قلبك”.

فإسقاطة الحادثة هنا برعت فيها الشاعرة ومنحت المتلقي دوران نشوة لا يمكن الحصول على طعمها من دون تكرار، قراءة هذا المقطع تحديدا فهي تكاد تضيء (الشاعرة) مع امتداد رؤيتنا إلى عمق المعنى الذي تكور في حبرها حتى كاد ان يضيء الشاعرة مع امتداد رؤيتنا إلى عمق المعنى الذي تكور في حبرها حتى كاد أن يضيء هو الآخر.

والنثر عند فاطمة محسن ليس هو النمطي أو المكرر لمحاولات تركها البعض ومضى..!! بل إنها ومن خلال ما تنثره تمد جسورا خفية تؤكد منطقية الانثيال الروحي الذي تنزفه فيسيل إلى وسط المتلقي.

وفي هذه المجموعة وجدتها تمتلك إرهاصات عدة يمكن من خلالها ان نرصد عددا من الخيبات ومحاولات ترميم آثار الوجع والشجن ومن خلال الإصرار الداخلي على التجاوز فالشاعرة تنبيء عن إزاحات مفتوحة غير مقبولة في الرومانسية وليست مكرسة لأجل إسقاط ثيمة الحب والإحباط على انه شيء مفروغ منه بل انها تركت لنا فرضية جديدة ترد من خلالها على حديث الناقدة ظبية خميس والذي كانت تقول: لم تنطلق حواء بصوتها كثيرا كانت ببغاء آدم أحيانا، وشهرزاد شهريار أحيانا أخرى فما أسقطته فاطمة محسن من مفردات عبر هذا المقطع:

“لماذا المياه تحاصرني بالرؤى/ وانظر فنجان قهوتنا صامدا في المكان/ الزوايا تحاصرني بالموسيقى/ فافلت مني/ وارقص. ارقص”.

أقول إنه عبر هذا المقطع كان الحديث كافيا لإثبات أن حواء قادرة على القول والفعل والدخول في صراع مع الآخر ان تطلب الأمر ذلك، ولعل قراءة هذا المقطع الآخر سيدحض رأيا آخر قد يشكك بتلك القدرة التي جاءت هنا عبر منظومة بث مختلفة حيث نراها تقول:

“لي هجرة منك / لا يسع الوقت كل البنفسج في جدسي كي يثور/ رأيت الذهول وصافحته في أزقة حلمي/ لأني أنا../ وليس على ضفتي انحناء”.

وأثناء قراءتي لبعض نصوص الشاعرة عبر الإنترنت تذكرت مقولة فلسفية تعود لـ مارسيل ريمون ويومها قال: “قد يصادفنا الحظ ونلتقي بذاتنا، أو ندخل في ذات أخرى”. وأنا ومن خلال الاسترسال في قراءة قصائد هذه الشاعرة الشفافة والرقيقة، وجدتني أعيش الحالتين، فقد صادفتني ذاتي أثناء تجوالي بين الإزاحات الشعرية التي رسمتها ريشة الإبداع التي تمتلكها (فاطمة)، وبرغم أنها كانت أنثوية الطابع والطرح، إلا أنها لم تخل من مشاعات التلقي، لذلك وجدت بعض النصوص والسطور وشاهدتها عن قرب ترسم ملامح تشبهني وتقاربني روحيا، فكنت بداخل النثر (الفاطمي) والحديث (الريموني)، أي أني وجدت ذاتي بداخل بعض النصوص وفي بعضها دخلت ذاتا أخرى، كما في هذا المقطع الذي تقول فيه:

“منذ فوبيا الحب/ وأنا أسأل الله../ لكن عينيك تنبئان بقتلي/ أنت تشبه ظمئي/ وأنا أتلصص/ نهر فؤادك”.

وفي أماكن أخرى وجدتني ادخل في ذات الشاعرة، من خلال جري إلى ساحة قرابين روحها التي وجدت فيها أنها تمتلك رغبة في تعرية الذات بقسوة من خلال التركيز على اللحظات العابرة التي تجسدت عبر الرمز والصور والمحسوس، ولعلي أكون موفقا حين أصف ذات الشاعرة على أنها خالية من العقد، وتعيش وسط أجواء نقية من حيث الانتماء للإنسانية، فهي تجنح معاقل البياض، ولا تتوقف عند إشارات حمر، ربما يرتكبها بعض الذين غادروا أنفسهم وذاتهم، كما في هذا المقطع الذي جاء فيه:

“كان جدار هواك تعانقه نجمتان/ ويغفل/ يغمرني الضوء/ تدخلني شفتان/ تعللت بالبوح/ وتنسل من جسدي شرفتان”.

وحتما .. لن انتهي عند حافة المتعة، أو أي حد معين من لذة التلقي التي صادفتني على قارعة النصوص الراقية التي وصلتني من شاعرتنا الجميلة والدافئة فاطمة محسن، ولكن ما أريد الآن أن يكون مسك ختام حديثي هو القول: إن هذه الشاعرة تكتب بلغة أنيقة امتصت من خلالها كل نبوءات الجمال والسحر الحلال، وحققت كينونة من الصعب الوصول إليها، من دون بذل روحاني الطعم وفؤادي اللون.

 

بقلم: عدنان الفضلي

ميدل ايست أونلاين

  • Related Posts

    قراءة في “ثورة غباء” للكاتبة نزيهة اليدالي الحسن/ بقلم: بوسلهام عميمر                          

    بعيدا عن نظرية  الفن للفن، قراءة في “ثورة غباء”   للكاتبة نزيهة اليدالي الحسن من موريتانيا    “ثورة غباء” أول منجز أدبي للدكتورة نزيهة اليدالي الحسن الموريتانية، كان كافيا ليمنحها…

    قراءة في القصة القصيرة “سر في صورة” للقاص الفلسطيني محمود سيف الدين الإيراني/ بقلم: فراس حج محمد

    قراءة في القصة القصيرة “سر في صورة” للقاص الفلسطيني محمود سيف الدين الإيراني فراس حج محمد| فلسطين في المجموعة القصصية للقاص محمود سيف الدين الإيراني[1] “متى ينتهي الليل”[2] وردت قصة…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    You Missed

    متى تفهموها صح؟ / بقلم: خالد السلامي

    متى تفهموها صح؟ / بقلم: خالد السلامي

    إنّما قاتلَ اللهُ الحربَ ما أبشعَها/ بقلم: فراس حج محمد

    إنّما قاتلَ اللهُ الحربَ ما أبشعَها/ بقلم: فراس حج محمد

    كتبْتُ إليكَ مِن نَبضي وقلبي/ بقلم: هدى الجاسم

    كتبْتُ إليكَ مِن نَبضي وقلبي/ بقلم: هدى الجاسم

    حتى إشعار آخر / د. بقلم: ريم  النقري

    حتى إشعار آخر / د. بقلم: ريم  النقري

    قراءة في “ثورة غباء” للكاتبة نزيهة اليدالي الحسن/ بقلم: بوسلهام عميمر                          

    قراءة في “ثورة غباء” للكاتبة نزيهة اليدالي الحسن/ بقلم: بوسلهام عميمر                          

    قراءة في القصة القصيرة “سر في صورة” للقاص الفلسطيني محمود سيف الدين الإيراني/ بقلم: فراس حج محمد

    قراءة في القصة القصيرة “سر في صورة” للقاص الفلسطيني محمود سيف الدين الإيراني/ بقلم: فراس حج محمد