الرئيسية / قصة / أحلام صغيرة…/ سعيد كفايتي

أحلام صغيرة…/ سعيد كفايتي

الصورة الأولى: لقطة بعيدة

حين أقدم “يحيى” على جمع حوائجه وحقائبه ذات صيف قائظ، كان يلعب ببرودة دم عجيبة آخر ورقة في حوزته. لم يكن وقتئد مسكونا بفكرة الربح والخسارة؛ كان يكفي أن يرمي جسده في قطار ما لكي يشعر بسعادة لاتضاهى. إن سنة كاملة بلا عمل أرقته كثيرا، فالنهار حكاية مملة، يقضي نصفه بمحاذاة العمود الكهربائي متتبعا بعينين لا تكلان من النظر حركة المرور وغنج بنات الحارة وشيطنة الأطفال،في المساء يتيه كالمعتوه في المدينة؛ وإذا حالفه الحظ يجلس في المقهى كبقية خلق الله استجابة لدعوة زميل. أما في الليل كانت كل هموم الدنيا تجثم على صدره، وتتزاحم صور حزينة وبئيسة في ذاكرته…والدته التي حرمت نفسها من أشياء كثيرة لكي يكمل تعليمه، مازالت رنة زغرودتها المدوية تطن في أذنيه لما أخبرها بحصوله على الإجازة، كانت سعيدة كطفلة؛ ورغم أن فرحته بالنجاح لم تكن كبيرة، لأنه يعرف أن أبواب الشغل موصدة في وجهه؛ فقد أصر على مشاركة والدته في فرحها، ويتذكر جيدا أنهما شربا معا قنينة كوكا كولا على نخبه. ويتذكر أيضا صديقته “صفية” التي كانت تنتظر أن يتقدم يوما لطلب يدها؛ كان يبدو له هذا اليوم بعيدا أو نقطة منفلتة، ويشعر في قرارة نفسه أن حبهما مهدد في يوم من الأيام بالموت الإجباري…في هذه اللحظات كان يضاعف تمسكه بها ويختلق مبررات كثيرة للإحتفاظ بها…ربما كانت “صفية” مسرفة في تعلقها به، أضاعت فرص زواج حقيقية إخلاصا له، وقاومت بحزم ضغوطات أسرتها. وما كان بمقدوره في مثل هذه المواقف أن يشكرها أو يؤنبها، كان يعتبر ما قامت به أمرا بديهيا.        

في أيام الآحاد كان يلتقي بها، يجلسان جنبا إلى جنب. هو وجه مكور وعينان غائرتان وأنف بارز وابتسامة حزينة، وهي بنت جميلة ووجه طفولي وجلباب وردي وبسمة كبيرة، يتكلمان، وحين تغرب الشمس، يتوادعان ويتفقان على موعد جديد؛ ولكن ذات مرة أخبرها بأنه عازم على السفر، لم تصدق،ظنت أنه يمزح أو يريد فقط أن يعرف ردود فعلها؛ غير أن قسمات وجهه الصارمة جعلتها تأخذ كلامه مأخذ الجد، انتابها شعور بالخوف كأنها مقبلة على اقتحام غابة متشابكة الأشجار في ليلة شتوية، انكمشت كطير مبلل، كانت نظراتها تحثه على العدول عن فكرة السفر، اغرورقت عيناها بالدموع، ولم تجرؤ على منعه. اقترب منها كثيرا وطوقها بذراعيه واسترسل في حديث عن رغبته العارمة في إعداد دكتوراه هناك وعودته بعد ثلاث سنوات وقد تحسن وضعه، وقال لها مبتسما على غير عادته: استعدي لتكوني عروسا لي. واقنع أيضا والدته بقرار السفر ولم تعارضه. و في يوم السفر، كانت “صفية” تنتظره، وضع “يحيى” الحقائب على رصيف المحطة، وشد أصابعها بين يديه وحدق في وجهها برهة من الزمن، كانت الدموع تترقرق في عينيها…لما سمع صفير الإنطلاق ودعها وحمل الحقائب وركب في القطار…من خلال النافذة كان يراها رافعة يدها لتوديعه…كانت تتضاءل، وبعد ذلك اختفت تماما.

الصورة الثانية: لقطة قريبة

استرخى “يحيى” على أريكة، وفي يده آلة التحكم من بعيد، يضغط دون هدف محدد على زر من الأزرار، ينتقل من قناة تلفزية إلى أخرى؛ ولاشيء يدل على أنه يبالي بما يرى…ربما هي عادة اكتسبها لكثرة جلوسه أمام التلفاز، أو ربما هي طريقة ذكية لينشغل بشيء ما، ويبدو أنه لم يفلح في ذلك؛ إذ أن نظرته كانت تقع بين الفترة والأخرى على صورة كبيرة للإمرأة معلقة على الحائط، الصورة الكبيرة تبين بوضوح تام إمرأة ذات وجه أبيض ومجعد وبسمة بلهاء، يطيل التحديق إليها كأنه يحاول أن يستحضر بالتفصيل الخيوط التي تجمعه بها، وتنتصب أمام عينيه كما رآها لأول مرة…منذ سنتين كانت “جاكلين”-وهذا هو اسمها-إمرأة في الخامسة والأربعين من عمرها، تشتغل منظفة، سمينة وطيبة، وكان “يحيى” يمارس كذلك نفس المهنة. تعددت بمرور الأيام فرص لقائهما، كانت تلتهمه بنظراتها الشبقة؛ ورغم أنه كان في أول الأمر يبذل جهدا جبارا لإخفاء رغباته المكبوتة، ربما احتراما ل”صفية” التي تراسله باستمرار وتنتظر عودته على أحر من الجمر، فإنه استجاب بعد ذلك لنداء الجسد الدافىء والممتلىء، حين اقترحت عليه “جاكلين” الزواج لم يمانع؛ كان يدرك طبعا فارق السن ينهما، كان يبدو ضئيلا أمام جثتها الضخمة، ومنظره يبعث على الإشفاق ولايخلو من طرافة؛ كان يشعر بحزن عميق في نفسه، لكن بطاقة الإقامة كانت تغريه كامرأة متفننة في الإثارة. أشياء كثيرة تغيرت في حياة “يحيى”، له الآن بيت صغير مجهز وزوجة وقطة ومهنة، وفي الشركة استبدل القلم بمكنسة والورق بخرقة مبللة والفكر بفنون التنظيف وتقنياته. يمتلكه أحيانا شعور كبير بالندم، ويفكر في أن يبعث إلى “صفية” رسالة اعتذار ويبدأ في صياغة الجملة الأولى، غير أنه حين يستحضر ما فات ويتذكر السنة التي قضاها هناك متسكعا في الشوارع والأزقة يتألم بعمق ويحس بغصة في قلبه، ويخيل إليه أن وجوده هنا ليس خطأ، وأن بقاءه حكمة، وأن خيانته لصفية أمرا مبتذلا. يتعب “يحيى” هذه الليلة، يطفىء التلفاز، يقوم من مكانه، يرمي جسده على السرير، يغيب في نومة عميقة.

الصورة الثالثة: لقطة لم تحمض بعد

تفتح “جاكلين” باب المنزل، تذهب توا إلى المطبخ، تفتح الثلاجة، تأكل سندويشا وموزتين وكوب حليب وأشياء أخرى، تدخل إلى غرفة النوم، تشلح ملابسها، تطبع على خد “يحيى” قبلة خفيفة، تنام إلى جانبه، تطفىء النور، بعد هنيهة يشرعان معا في الشخير.

                                      د كفايتي سعيد

                                وجدة  المغرب  

عن wahaalfikir

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

كتاب جديد التشكيل الاستعاري في شعر أديب كمال الدين  

  كتاب جديد التشكيل الاستعاري في شعر أديب كمال الدين   عن منشورات ...

لقاء مع الشاعر الحروفي أديب كمال الدين حاوره علي جبار عطية

    الشاعر الحروفي أديب كمال الدين في حوار خاص : * ...

تهديم التابوات قراءة في رواية ( تحت التنقيح ) أحمد طه حاجو

التنقيح هو تشذيب وتعديل ومراجعة للنص الأدبي كي يخرج بصورته النهائية والتي ...

جِلْنَارُ الموَاسِمِ/ كريمة نور عيساوي

  جِلْنَارُ الموَاسِمِ فيِ هَذا المسَاءِ اللاَّزُورْدِيِّ… وَأَمامَ الشَّارعِ، المُقابِلِ لِناصِيَةِ الحُلْمِ… ...

من وصايا العاشق / نمر سعدي

  من وصايا العاشق موسيقا تقطِّرُ لي هواءً عمرُهُ عمرُ النجومِ تنفَّستهُ ...

انتخاب الصورة الواقعية وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض في قصيدة * السماءُ لمْ تَزل زرقاء * للشاعر العراقي شلال عنوز   سعدي عبد الكريم / ناقد وسينارست   *دراسة نقدية*  

  انتخاب الصورة الواقعية وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض في قصيدة * ...

صهيل من فلوات الأرواح: عندما يصبح الشعر رسولا للإنسانية

  صهيل من فلوات الأرواح: عندما يصبح الشعر  رسولا للإنسانية   إن ...

تشمر عن ذراعيها لزرع شتول الرحمة وعلم الجمال/ فوزي محيدلي

    *تشمر عن ذراعيها لزرع شتول الرحمة وعلم الجمال* هي بطيبة ...

واحة الفكر Mêrga raman