الرئيسية / قصة / أحمد الذي يطير…./ الدكتور سعيد كفايتي

أحمد الذي يطير…./ الدكتور سعيد كفايتي

 

أحمد يفكر في الهجرة

وضعت نظارتي بعصبية على الطاولة الخشبية، ونظرت إليها متجهما، كان المقهى يغص بالناس والنادل يتسلل بين الكراسي خفيفا ورشيقا، حين تكلمت كان صوتي مرتفعا فخفضته لأن أعين الزبائن المرتخية أحرجتني، اعتدلت في جلستي وقلت لها:

كأنك تعتبرين كلامي كله مزاحا، أنا لا أجيد المزاح وأعجز عن رواية نكتة واحدة، سأسافر أقصد سأهاجر، أي نعم وما الغريب في هذا…قد كبرت، حقا لم يغز الشيب مفرقي، لكن أصبحت مهموما وما عدت أقوى على إطلاق ضحكة واحدة. لن أتخلى عنك. دعي هذه الأوهام جانبا، سأبعث إليك حوالة نقدية في بداية كل شهر. لا تنفقيها في شراء أدوات التجميل، أنت جميلة دون مساحيق (لم تكن جميلة، لكن أردت أن أضرب عصفورين بحجر، أولا لكي أشعرها بلاطمئنان، وفعلا قد ابتسمت، ثانيا لكي أضمن أنها لن تضيع نسبة كبيرة من النقود في الماكياج وأنا المخطط الذي أحلم أن أصير برجوازيا بقليل من التقشف). إذا حلت العطلة الصيفية تقدمت لطلب يدك (ورأسك ورجلك). ولن يرفض والدك…سأناديه عمي أو أونكل..ما رأيك؟

تقدم النادل من طاولتنا. كان سمينا، تعجبت كيف يتحرك برشاقة وخفة، أعدت التفكير في الأمر ثانية..فعبد ربه الضعيف نحيف جدا، لكن يُضرب به المثل في الرزانة …وراء هذه الظاهرة سر   ابتسم السمين ابتسامة فظهرت أنيابه، أما أنا فلم أبتسم لأن أسنان فكي الأعلى مسوسة أو منخورة. فصنعت الوقار.

ماذا تريد يا سيدي؟ مقهانا يقدم يقدم كل أنواع المشروبات الباردة والساخنة، الروحية وغير الروحية، المستوردة والمحلية. طلبت كأسين من الحليب. تذكرت أني لا أحمل بجيبي ثمن الكأسين. إنقاذا للموقف الحرج أوهمتها أن شخصا ما يلاحقني، ويتابع في الجهة المقابلة تحركاتي، فنصحتني أن نخرج فورا من المقهى. لبست النظارتين، وانسحبنا. حين عرجنا على زقاق فرعي، سألتني: والجواز؟ أجبتها: تعرفين دون شك أن حصولي على الجواز يكاد أن يكون من باب المستحيلات ليس لي أخ و لا عم و لا قريب بمكتب الجوازات…الأمر في غاية البساطة. هناك وسائل أخرى.

شددت على يدها بحنان، وتأكدت أني تمكنت لخبرتي الطويلة بقلوب النساء وتقلباتهن ومقالبهن أن أقنعها بفكرة الهجرة. فهنيئا لي بهذا النصر. ولأن الوقت كان متأخرا، اشترينا قطعتين من المثلجات ودعتها..كانت تبتسم وكنت أشعر بسعادة عظمى.

أحمد يستمع إلى برنامج ما يطلبه المستمعون

كان أحمد بحانوت الحارة، يستمع باهتمام بالغ إلى برنامج ما يطلبه المستمعون…لن أضيع هذه الفرصة، عمي صالح رجل طيب ولن يستاء إذا بقيت بالحانوت فترة طويلة، سيكون صوت المذيع جميلا وهو يردد اسمي واسمها، أما عبارة وكافة أهل الحارة فهي خضرة فوق طعام. يقرب الجهاز إلى أذنه. العم صالح يراقبه ويكتم بداخله غيظا كبيرا…قد يكسره أو يتكسر وابن الكلب لا يملك نصف فرنك. يقرب أحمد الجهاز إلى أذنه، وكلما كانت تند عن الزبائن حركة أو ضجة كان يقفز من مكانه غاضبا. قليلا من الصمت وإلا اخرجوا. يستغفر العم صالح ربه ويردد يائسا مستسلما: لا حول و لا قوة إلا بالله.

توقف البرنامج دون سابق إنذار، استغرب أحمد. هل أنه عطب فني؟ أجاب العم صالح: لقد انتهى البرنامج، لكل بداية نهاية، وكل من عليها فان. تراجع أحمد خطوة إلى الخلف. ولكمه فأسقطه على الأرض. إنه عطب فني وغاب عن وعيه. توافد أهل الحارة على الحانوت، تعالت أصواتهم بين مستنكر ومعجب. لكن لما بدا الجهاز في الإرسال أمرهم أحمد أن يصمتوا فصمتوا.

بلاغ من الإذاعة الوطنية

أصدرت الحكومة الموقرة قانونا جديدا ترفض بموجبه كل طلبات إنجاز جوازات السفر، وسيتم العمل به انطلاقا من هذا اليوم. وأضاف المذيع قائلا: أكدت الإحصائيات الرسمية الأخيرة أن الهجرة إلى الخارج تهدد مستقبل وطننا العزيز. ومن المحتمل أن يُفرغ من المواطنين في عام ألفين…ولكي لا تكون الحكومة الموقرة دون محكومين، فإن التفكير في الهجرة أو الإقدام على ذلك مس صريح ومباشر بأمن الدولة وسلامتها. نجانا الله ونجاكم من نقمتها. كرر المذيع الإعلان مرات عديدة. أغلق أحمد الجهاز. انسحب أهل الحارة، استفاق العم صالح، وقال: إنه عطب فني. جلس على مقعده الخشبي وبدأ في تلاوة القرآن بصوت مسموع.

أحمد يحدث أهل الحارة عن اختراعه العجيب

فليمنعوا طلبات إنجاز جوازات السفر…فليوقفوا الخطوط الجوية والبحرية والبرية عن العمل. إرادة الإنسان أقوى من كل الممنوعات. إن وطني، آه من وطني أشعر بغربة حقيقية كلما تهت بدروبه وأحيائه وفنادقه..فيمنعوا طلبات إنجاز جوازات السفر..لقد ابتكرت وسيلة للهجرة، طريفة هذه الوسيلة. أكيد أنكم لاحظتم في ما أثار انباهكم، خاصة أني كنت أحمل الحقيبة السوداء وأخرج إلى حيث لا تدرون، وأعود بعد ساعات. ربما ظن البعض أني أهرب سلعا ممنوعة. عجبا، هل وجهي يليق بمهرب؟ أو أوزع منشورات سرية؟ كل هذه الأفكار دارت في ذهنكم، أليس كذلك؟ من حقكم أن تستغربوا، كنت داهية في إخفاء مخططي الشيطاني.

كنت يا أهل الحارة أدرس حياة أستاذنا الجليل عباس بن فرناس الذي احتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه بالريش ومد له جناحين، وطار في الجو مسافة بعيدة. ودرست أيضا تقليدا له وبذكاء أكبر تركيب جسم الطير وكيفية طيرانه و…(بإمكان المتعلمين منكم أن يسجلوا النقط الرئيسية، وليكن في علمكم أنكم مطالبون بهذا الدرس في الامتحان).

لقد استطعت أن أتوصل لطريقته في صنع الجناحين، وطورتهما لكي يكون التحليق بهما ممكنا، وأضفت الذيل، لاحظا عباس بن فرناس استهون من قيمة الذيل في الطيران…سأسافر إلى أنجلترا ثم فرنسا. إنها تحبني، عمرها يتجاوز الأربعين سنة، قالت في رسالتها الأخيرة إنها تحبني كما تحب قطتها ميامي، وأنها تنتظر زيارتي لها على أحر من الجمر لتحكي لي بالتفصيل الممل عن مغامراتها في الحب والجنس. قلت لها أنا فقير. أجابت: سأساعدك…سنتزوج، ستساعدني، أنا أثق ثقة عمياء بكلامها. فهم -كما تعلمون – لا يكذبون مثلنا. لكن لن أقيم طويلا بفرنسا. يُقال، والله أعلم، أن عصابات يمينية متطرفة تشن حملة عنصرية ضد الأجانب. سأتجه إلى كندا. ..يا أهل الحارة لا تتصوروا أني سأخفي عنكم طريقة صنع الجناحين تجدون تفاصيل صنعها في غرفتي….في الحقيبة السوداء.

كانوا ينظرون إلى باهتمام غريب. أفواههم مفتوحة، عيونهم متسعة، وبسمة كبيرة تحتضن وجوههم، بحثت عن قلم جاف وكتبت بخط رديء رسالة مختصرة إليها، وفي قصاصة من الورق نبهت أهل الحارة إلى مكان الحقيبة السوداء، ورجوتهم ألا يطلعوا على بعض أسراري و على رزمة من الرسائل الغرامية، وصور شمسية لنساء عاريات جمعتها بشق الأنفاس… رجعت إلى الخارج، كانت أنظار أهل الحارة تتابعني دون كلل، وكان العم صالح يتلو آية الكرسي بخشوع، تسلقت العمود الكهربائي المحاذي للغرفة، صعدت إلى السطح وبدأت في التحليق…

 

د سعيد كفايتي

 

 

عن wahaalfikir

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

كتاب جديد التشكيل الاستعاري في شعر أديب كمال الدين  

  كتاب جديد التشكيل الاستعاري في شعر أديب كمال الدين   عن منشورات ...

لقاء مع الشاعر الحروفي أديب كمال الدين حاوره علي جبار عطية

    الشاعر الحروفي أديب كمال الدين في حوار خاص : * ...

تهديم التابوات قراءة في رواية ( تحت التنقيح ) أحمد طه حاجو

التنقيح هو تشذيب وتعديل ومراجعة للنص الأدبي كي يخرج بصورته النهائية والتي ...

جِلْنَارُ الموَاسِمِ/ كريمة نور عيساوي

  جِلْنَارُ الموَاسِمِ فيِ هَذا المسَاءِ اللاَّزُورْدِيِّ… وَأَمامَ الشَّارعِ، المُقابِلِ لِناصِيَةِ الحُلْمِ… ...

من وصايا العاشق / نمر سعدي

  من وصايا العاشق موسيقا تقطِّرُ لي هواءً عمرُهُ عمرُ النجومِ تنفَّستهُ ...

انتخاب الصورة الواقعية وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض في قصيدة * السماءُ لمْ تَزل زرقاء * للشاعر العراقي شلال عنوز   سعدي عبد الكريم / ناقد وسينارست   *دراسة نقدية*  

  انتخاب الصورة الواقعية وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض في قصيدة * ...

صهيل من فلوات الأرواح: عندما يصبح الشعر رسولا للإنسانية

  صهيل من فلوات الأرواح: عندما يصبح الشعر  رسولا للإنسانية   إن ...

تشمر عن ذراعيها لزرع شتول الرحمة وعلم الجمال/ فوزي محيدلي

    *تشمر عن ذراعيها لزرع شتول الرحمة وعلم الجمال* هي بطيبة ...

واحة الفكر Mêrga raman