الأقلام الملونة والورقة البيضاء ورجل القميص الممزق
أعطني الأقلام الملونة والأوراق البيضاء والممحاة أيضا، قد تنفعني، من يدري، أنا -إذا كنتم تحبون الصراحة- لست رساما ماهرا، ولا فنانا متمرسا. أين تجد هذه الأشياء كلها؟ في درج مكتبي الصغير، نعم هناك، بمحاذاة المزهرية. هل تعرف أنك تشبه كثيرا رجال الشرطة حين يداهمون بيتا لتفتيشه؟ (عندما زاروا بيتي ذات يوم للتحقق من هويتي وجدوا أشياء كنت قد يئست سابقا في العثور عليها، فشكرتهم غاية الشكر) شكرا، ضعها على الطاولة واجلس قريبا مني؛ لكن بشرط ألا تثرثر كعادتك. أنا في حالة عظمى من الإلهام، أية حركة تصدر عنك، لا يهمنى إن كانت قصدا أو عفوا، تعتبر إخلالا صريحا بالأمن العام، ويحق لي في هذه الحالة أن…سأبدأ في الرسم، يدي ترتجف، فكرت: ماذا أرسم؟ هل أرسم محفوظا الذي يستيقظ باكرا وينظف أسنانه بالشيتة والسنون؟ أنا أجهل ثمن الشيتة والسنون ولا أسمع مطلقا نصائح صاحب معجون الأسنان الذي يظهر يوميا في التلفزيون (هل أسنانه صلبة كما يدعي؟ ). فلأرسم ربيعا وكمالا…ربيع يتلفن إلى كمال، لم تعجبني الصورة. أعدت التفكير ثانية، يجب أن أكون واقعيا في رسمي للأشياء، وقلت في نفسي: أبعد عن ذهنك يا هذا صور الكتب المدرسية والإشهار. كانت الورقة بيضاء ككفن، أخذت القلم ورسمت دائرة، أو على وجه التحديد، شبه الدائرة لأني لم أرسمها بالبيكار، وملأت الفراغ بعد ذلك بعينين وأذنين وفم وأنف حتى اكتمل الرأس. حملق في صاحب الرأس عاتبا، فهمت أنه لا يريد أن يكون أصلع، ضحكت كثيرا وقلت له مازحا: واش يخصك آلعريان غير لخواتم يامولاي. لما لونت الجهة العليا من الرأس بقلم اسود، أحس بزهو كبير؛ غير أنه تألم حين تبين له أن شعره مغبر وأشعث. رسمت بقية الجسم. كان طويل القامة، وكان غاضبا لأن ملابسه كانت قديمة ورثة. تراجعت إلى الخلف مندهشا (كان صاحبي قد نفذ بجلده بطريقة أجهلها حتى الآن) وأنا أراه ينسل من الورقة البيضاء، وينهض وهو يصيح: في جاه سيدي محمد. نزع قميصه بسرعة عجيبة ورماه على الأرض ونظر إلي نظرة نارية وقال: أنا البس هذا اللباس الممزق؟ أنت المسؤول. أجبته مترددا: لست مسؤولا. قال: من؟ أجبت باقتضاب: الله وحده يعلم. أعرته بذلة، لبسها بصعوبة واتجه نحو الباب، أشار إلي بيده مودعا وخرج. تأسفت لحاله، كسرت الأقلام الملونة، مزقت الأوراق، ناديت على صاحبي. كاد رأسي ينفلق من الضحك حين رأيته يخرج من خزانة الملابس وأنفاسه تلهث ولا يتوقف عن العطس. يبدو أن رائحة مبيد الحشرات كانت نافذة وقوية. قال: للي خاف سلم، للي خاف سلم، وبدأ يسعل.
رجل القميص الممزق يذهب إلى الحديقة
حينما خرج رجل القميص الممزق من المنزل وجد عالما غريبا من الأشياء الجميلة والقبيحة. أحس بالضيق فنزع البذلة ووضعها بلا مبالاة على كتفه. كان الوقت صيفا، ربما لهذا السبب لم يثر منظره الغريب استغراب أحد. كانت تزعجه فقط بين الفترة والأخرى ضحكات الأطفال، غير أنه كان ينظر إليهم نظرة غاضبة فيندسون فورا في أجسادهم ويتابعون لعبهم خائفين. لم تكن خطواته ثقيلة فحسب، وإنما أيضا باهتة كأنه عاد مباشرة من معركة ضارية. أنب نفسه كثيرا لأنه لم يطلب من الرسام غير الماهر قطعة من الخبز أو برتقالة أو…مر على بعض المطاعم الشعبية، فتزايدت رغبته في الأكل. ولما كان خالي الوفاض لعن هذا الزمن الذي يفرق بين الناس. عندما بدت له حديقة ذات أشجار كثيفة محاطة بسياج حديدي، قرر أن يدخل إليها هروبا من رائحة الشواء التي كانت تنفذ إلى خياشيمه. في الحديقة كانت تقع عيناه بين الفترة والأخرى على مشاهد ماجنة أو بريئة، لكن لم يكن يعيرها أي اهتمام إذ أنه واصل سيره بهدوء. حين استبد به التعب، جلس متكئا على شجرة هرمة و تناول حزمة من الأوراق اليابسة وصفّها أمامه بعناية كبيرة ولمعت عيناه من الفرح وصاح: أيها العساكر استعدوا.
رجل القميص الممزق يخطب خطبة بليغة
وقف رجل القميص الممزق وقفة عسكرية صارمة، تنحنح قليلا، فتح فمه خاطبا: « أيها العساكر البواسل انتم خير سبيل لحل المشاكل. وأنا اليوم لا آمركم بمواجهة عدو لذوذ ولا بمساندة صديق ودود؛ وإنما آمركم بإرجاع الحق إلى المظلوم والفرح إلى قلب المهموم وآمركم بإشباع الجائع…
ملحوظة
فسر بعض فطاحل اللغة وجهابذة البلاغة توقف الخطيب عن إكمال الخطبة بعجزه عن إيجاد كلمة تنتهي بحرف العين والله أعلم، وذهب آخرون إلى أن توقفه كان مردّه الحماسة التي سرت بين العساكر.
يمكن الرجوع في هذا الشأن إلى كتاب: “المفيد في معرفة أسباب توقف الخطيب عن إكمال الخطبة” وهو كتاب نفيس ألفه العلامة (…) نفعنا الله بنور علمه ودقيق لفظه وحسن معناه وجمال مبناه و..
العساكر تفكر في خطة لاغتيال القائد
العسكري (1): إن القائد يفكر بمعدته، لا تضحكوا من فضلكم، سأفسر الأمر. كان القائد جائعا فأراد أن ينزل الفقر بمن أنعم الله عليهم بنعمته.
العسكري (2): رأي صائب.
العسكري (3): أصبت.
العسكري (1): من الضروري أن نفكر في خطة للقضاء عليه.
العسكري (2): الأمر في غاية البساطة، فلنرجع إلى كتب الاغتيالات ولنختر له قتلة رائعة.
العسكري (2): إننا نعرف جيدا كيف نغتال.
رجل القميص الممزق والشجرة وباقة من الأحلام
متكئ على الشجرة، قدماه ممتدتان بخمول على الأرض المعشوشبة، جائع إلى حد الموت، عيناه كعقارب ساعة قديمة تدوران في كل اتجاه. تمنى لو كانت هذه الشجرة فخذا من اللحم أو صحن فاكهة أو أي شيء مما يؤكل. وحين شبع تمنى لو كانت هذه الشجرة امرأة…انتبه فجأة إلى أنه يغالي في التفكير ببعض المصالح الشخصية، وأنه نسي المهمة التي نذر نفسه له. التفت نحو الأوراق اليابسة التي كان يعبث بها وصفّها مرة ثانية بعناية فائقة؛ لكن قبل أن يأمر العساكر بالانطلاق نحو المدينة تسلل العسكري (1) بين الصفوف وأطلق عليه رصاصة.
تصريح أخير للرسام غير الماهر
بما أن يدي لا ترسم إلا الجوعى وأصحاب الشعور الشعثاء والأقمصة الممزقة و…قررت ابتداء من هذه اللحظة أن أكف نهائيا عن الرسم. تأكيدا لهذا القرار سأعمل على نشر التصريح في كل الجرائد الرسمية وغير الرسمية. مع اعتذاراتي القلبية الخالصة لرجل القميص الممزق الذي خرج من بيتي جائع دون أسدّ رمقه…
د سعيد كفايتي
