الرئيسية / مقالات / حماقة…/ بقلم: ياسمين خدومة

حماقة…/ بقلم: ياسمين خدومة

حماقة…/ بقلم: ياسمين خدومة

ـــــــــــــــــ

 

ماضية على وقع دفء دقاتي المزمنة لتتبع أثر ومضة منفلتة من ضفة الأرق في زمن عقال الحروب وشرودنا فيها، في ممرات ملتويه، أو قل في نهج متواصل لغرق روحي على أصابع قدمي. أنفاسي ألتقطها نقاطا متتالية.

على خطوط الدمار العمودية المتوازية، عاكسة للمتغيرات، أرسم لي مسارا على مساحة ثابتة تمتد نحو أفق من دون زوايا، بلا نقطة نهاية، موصولة مثل السراب، في سفر بعيد التصوّر لمعتقلات في انتظاري.

بقدر انتقامها من كبريائي السالب، واستكانة عمقها الموجب الذي تستسلم له مواطن رغبتي وفضولي أمام أرصفة خشبية مهددة برمية عود ثقاب، بقدر الإثارة وارتباكي فيها.

هو أمر مجهول قد يكون مدمّرا وقد يكون حظا سعيدا، أيا ما كان، فأنا مدركة أنه سيرحل بي إلى مكان بعيد، قد أتقبّل وجودي فيه، وقد لا أتقبّل، هي فرصة لأفهم ما كنت أجهله وسائرة عليه في عالم طالما كان السبات فيه سيّدي والرتابة زوجته الوفيّة. عالم رياحه الخفيّة تفتتني، والرّحيل فيه حركة ثابتة لكأنه وجبة رئيسية لا بدّ منها وإلاّ لا بقاء، أمّا زيارة الأطياف فهي المرافقة لفنجان قهوة كل مساء لأغفو من بعدها على ابتسامة غباء، تتغزل بها العناكب أعشاشها بالزوايا مخزّزة بالرطوبة.

في الأمر انسجام وتناغم، كنوتات موسيقية، كتناغم رقص خطى فراشات على قوس قزح صباحي، كتقبيل الندى للفجر، ونداء الشمس في زفراتها الأخيرة وهي تستغيث بمد يصلها بالبحر فيعانقها واعدا إياها بالرجوع، ككتاب مؤثث بالكرم … مكتوب بكحل وجعه يُغنيك بعد فقر، يروي عطشك رغم ينبوع حزن السنين في زمن بخيل. يشبه أيضا هبوب رياح الخريف العاصفة وتساقط الأوراق فتغدو الأشجار عارية كافتضاح سن الكهولة أمام المرايا، أحوج ما تكون هي إلى ذاك الغطاء الذي يلفها، يدفئها، يسترها، ليزيد من جمالها، أو تلك التي تهيئني لبرد الشتاء والقشعريرة حول نار موقد تطرد صرّ البرد فينهار فيّ حصن التجميل، أكتشف حينها مقاسي ومقاس حلمي الصحيح.

هو كصوت المطر الذي أسمعه في كل هطل بالإحساس نفسه، لا أمتعض منه ولا أتهرّب من بلله، أستمتع معه لأنّه يعطيني نفسا جديدا في التمسّك بالحياة.

هو محطة وموسم فاصل بين عمرين، لكلّ منهما لونه وشكله الثلاثي الأبعاد مع اختلاف زاوية الرؤية…. هو صكّ غفران مقدّم من راهب يعلن بما يشبه الوثوق التام رؤية بديلة لبداية جديدة، لعمر آخر، ومن يعطيك عمرا آخر لا يشبه سابقه فقد أهداك بداية لكل البدايات.

قد تكون تجربة مجنونة، فعالم الجنون هو المجهول الذي لم تطأه يوما قدماي، أين سوف أبدأ، حيث ينتهي حدود العالم المعروف.

بقدر من اليقظة أرتدي عباءة الجنون، أتعطّر من قنّينة الحماقة علّني أظهر مختلفة، زادي وجبة من دهشة التغيير، بروح تنفض عنها بائد الاعتقاد وقلب منعتق من شرّ اللّعنات، برغبة جامحة في أن أكون ناهلة من نبع الحياة بعد ما مللت كوني ينبوعا يوزّع الحب على الآخرين.

أيٍّا كان، فهو تغيير، وفي التغيير حكمة.

أجهل الغد … ومع ذلك لا بدّ من الاستعداد له مع عدم ضمان ولادة ذلك الغد …  يتعبني كثيرا إدراكي لجهلي وعيبي في قُصور الفهم لبعض ما حولي، لكني أدركت أن الحماقة فسحة، ونحن من يختار تلك الفسحة لتتنفس أرواحنا غير آبهين لا بالزمان ولا بالمكان، قد لا تغيّر الخارج، لكنها تحرّك مكامننا فتتغيّر فينا بعض الأشياء. كل يوم أزداد اقتناعا أننا مجرد أحجار على رقعة شطرنج تحركنا الظروف والمعطيات، وأن فسحة الحماقة منفردة لا حدود للذّتها، ولها فضلا في حصول دهشتنا بنكهة رواية يصحبها إحساس منعش خارج عن كل إطار، تترنّح حروفها على اهتزاز الأوتار فنقف أمامها مذهولين، عكس الذكاء الذي أحيانا يسبّب لنا كثيرا من تعاسة لا تعويض لها ، نشقى وتبقى الصدمة رفيقة متحكّمة في انفعالاتنا لعقود، بخبث تمتصّ التّعاسة قطرات النّدى كل صباح لتسارع إذبال الوردة وتقف شاهدة على نهايتها، ولكي تطمئن أكثر تحمل بخطوات متلاحقة رفات الوردة بعيدا لترضى عنها الريح وتعترف بشرعيتها.  هو فصل آخر بنكهة رواية عنوانها أفكار حيّة اندهشت لها ذواتنا.

أتساءل أتوجد دهشة أكبر من دهشة خطواتنا للطريق التي سلكناها؟ أتوجد دهشة أكبر من دهشة أعيننا لصورتنا في لحظة تحامق رسمتها أيدينا على لوحة؟ صورة غطست طويلا في يقظة العقل، فجأة سرقت من الرّوح رداءها وخرجت في رحلة بسحر البرق.

تساؤلات ترهقنا ونحن لا نكفّ عن التساؤل دون كلل أو ملل، وحياتنا دائما مرتبطة بضرورة السؤال. لا توجد دهشة أكبر من دهشتي حين أدركت حجم حماقات أفكار حشوت بها رأسي لسنوات … أفكار حمقاء دُست عليها عندما رمى القدر بمحض المصادفة في طريقي حبّا … من الحماقة ألا أنظر لتلك المصادفة أنها فرصة ضائعة منّت بها الحياة على قلبي، والفرص الضائعة لا تعوّض . من الحماقة ألا أشعر بلفح هبوب ذلك الحب في أعماقي عند تعثّري فيه وأنّ الحياة مدّت لي يدها.  وكأنّ القدر قبضني ولا مفرّ من قبضته … شعور رفعني، أصبحت مدمنة على قرب حبيبي ومستعدّة لفعل أيّ شيء لملء النقص وترميم صدع جدار سدّه. حرصت على بقائه سرّا، تكسوه مشاعري بالقداسة، يحجبه صمتي، فالحب له صوته الخاص، إن سمع تتصحّر مساحة الأوراق وتموت الأشجار، فكل مشاهد الطبيعة المغرّدة تتعانق وتلتحم بصمت، أحافظ على بقائه سرّا في مغارتي الشبيهة بمغارة علي بابا المليئة بالكنوز، صمتها معبد يضج بالحكايا…. لها حياة وتاريخ أربعون لصّا، لكن مغارتي بلصّ واحد روحه زاخرة بتناقضات الأربعين لصّا.

ياسمين خدومة

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية Hejmara (21) a Kovara Şermola Derket

  صدور العدد (21) من مجلة شرمولا الأدبية   صدر العدد (21) ...

السهل الممتنع في ديوان “للحبر رائحة الزهر” للشاعر نصر محمد/ بقلم: ريبر هبون

وظف نصر محمد الإدهاش مغلفاً إياه بالتساؤل مقدماً اعترافاته الذاتية على هيئة ...

شعاراتٍ العربْ / بقلم: عبدالناصرعليوي العبيدي

فــي  شعاراتٍ العربْ دائــماً تَــلقى الــعجبْ . رُبّما  المقصودُ عكسٌ لستُ أدري ...

 القراءة :النص بين الكاتب والقارئ/ بقلم مصطفى معروفي

من المغرب ــــــــــــ بداية نقول بأن أي قراءة لنص ما لا تتمكن ...

جديلة القلب/ بقلم: نرجس عمران

عندما تضافرتْ كلُّ الأحاسيس في جديلة القلب أيقنتُ أن رياحكَ هادرة ٌ ...

على هامش تحكيم مسابقة تحدي القراءة / فراس حج محمد

من فلسطين تنطلق مسابقة تحدي القراءة من فكرة أن القراءة فعل حضاري ...

نســـــــــــــرين / بقلم: أحمد عبدي 

  من المانيا “1”   توقف البولمان  في المكان المخصص له  بعد ...

أناجيكَ ياعراق / بقلم: هدى عبد الرحمن الجاسم

أناجيكَ بين النخلِ والهورِ والنهرِ وأشكو لكَ الإبعادَ في الصدِِّ والهجرِ إلامَ ...

واحة الفكر Mêrga raman