الرئيسية / مقالات / ضدا على الشيخوخة / بقلم: إبراهيم أقنسوس

ضدا على الشيخوخة / بقلم: إبراهيم أقنسوس

هو موضوع طريف ودقيق ، يعالجه الأستاذ الكبير ، الكاتب والروائي المغربي عبد الكريم غلاب ، بلغة أنيقة ، تجمع بين الحكي عن الذات ، وبين التأمل العلمي والفلسفي ، في هذه الفترة العمرية ، التي تسمى الشيخوخة (1) . وعلى امتداد هذا البحث ، يبدو الكاتب مصرا على رفض هذه الشيخوخة ، بالمعنى السائر والمتعارف عليه بين الناس ؛ فلا وجود للشيخوخة حقا إلا في شعورنا ، (إنك شيخ بقدر ما تشعر بذلك) (ص: 164) ، ويبدو الأستاذ غلاب ، مهتما بإعادة كتابة تعريف جديد ، لهذه المرحلة العمرية من حياتنا ، مؤكدا أن الشيخوخة الحقيقية ، هي شيخوخة الفكر، (ص: 5) ، ولا علاقة كبيرة لها بالسن ، ولذلك قد يشيخ الإنسان وهو بعد شاب ، وهو في ميعة الصبا ، بلغة الكاتب (ص: 6) ؛ فالشيخوخة في رأي غلاب ، هي حالة فكرية ، للسن دور فيها ، ولكنه ليس حاسما في صنعها (ص: 44) ، فلا معنى للشيخوخة لمن يريد المعالي ؛ وكثير من الشيوخ كانوا مثالا للشباب في مواقفهم ، ويستشهد الكاتب بأحداث من تاريخ المغرب الحديث (ص: 52_53) ، في هذا المعنى ؛ فالشيخوخة لا تقاس بعدد السنين ، يقول الكاتب : (لا أذكر عام ميلادي إلا حينما أطالب بتسجيل معلومات شخصية في ورقة رسمية ، لا أكتم نفسي أن ذلك يفاجئني أحيانا ، فلا أكاد أصدق … أزعم لنفسي صادقا أنني أصغر من سني ، سعيد بذلك ) (ص:62) ؛ كل هذا لأن الشيخوخة لا تعني العجز ، بالنسبة إلى الكاتب ، ولا تعوقه عن كل أنشطته التي يزاولها ويحبها ، فهو يحضر العروض المسرحية (ص:76_77) ، ويتابع أجمل الإبداعات السينمائية ، حضوريا ، في نهاية الأسبوع ، كما يحضر مرة في السنة سهرة لأم كلثوم ؛ ولا يفوت الكاتب هنا أن ينعطف قليلا ، ليدلي برأيه حول معنى المسرح والسينما والموسيقى ، كما يراها (ص: 77_78_79) ، ثم يعود ليؤكد أنه مع كل هذا ، كان لا يفتر عن ممارسة أنشطته السياسية ، ولا يعتبر الشيخوخة مانعا لذلك (ص:89) ؛ فالشيخوخة عنده ضد الموت ، بعكس الإعتقاد السائد ، وهي فضاء للحب وللتواصل الفكري ، (بين الذين فكروا قبل خمسة آلاف سنة ، لأنهم كانوا أحياء ، والذين سيفكرون بعد خمسة آلاف سنة ، لأنهم سيكونون أحياء) (ص: 122) ، ويتوقف  الكاتب عند رؤيته للموت ، في علاقة بموضوع الشيخوخة ، ويحكي مصابه في العديد من أصدقائه وأساتذته (ص: 123 …147) ، ويستدعي أزمنة كان للشيوخ فيها حضور وأعمال يعرفون بها ، ويعرض لنماذج من هؤلاء الشيوخ ( ص: 150 …155) ، ويذكر جده من بينهم ، وما كان يتمتع به من قوة وإصرار(ص: 159) . يقارب الأستاذ عبد الكريم غلاب ، موضوع الشيخوخة ، في معرض تقديمه لفصول من سيرته الذاتية ، بما يعضد قراءته لهذه المرحلة الدقيقة من عمر الإنسان ، فيورد مجموعة من الأمكنة التي مر بها ، (ص: 47) ، وبعض أصدقائه الذين سعد بصحبهم ، كما حزن كثيرا لفراقهم (محمد بن عبود ، عبد الكريم  ثابت ، أحمد بن المليح ، عبد المجيد  بن جلون) ، (ص:125 إلى ص145) ، وكذا بعض أساتذته الكبار الذين تتلمذ عليهم (طه حسين ، أحمد أمين ، أمين الخولي ، محمد مندور، لويس عوض…) (ص: 146) ؛ كما يورد الكاتب في ثنايا حديثه عن سيرته الذاتية ، بعض الأحداث التي كانت تعيده في كل مرة إلى الشيخوخة ، بالمعنى القيمي للكلمة ؛ شيخوخة الفكر والنفس والقلب ، كما يقول (ص: 49) ، ومن هذه الأحداث ، ضياع فلسطين وسيناء ، (ص: 57) ، هزيمة مصر أمام إسرائيل (ص: 58_59) ، فساد العملية الإنتخابية التي شارك فيها ، (ص: 91) ، ويتوقف الكاتب عند تأثره الصحي بهذه الأحداث ، ومطاردة الشيخوخة ، النفسية والفكرية لكيانه ، غير أنه لا يتنازل عن موقفه الذي يبدو مبدئيا ، من هذه الشيخوخة ، التي يصفها بالظالمة ، بالرغم من كل الصعاب والمطبات التي صادفها . إن الشيخوخة بالنسبة إليه تشكل بداية الحياة ، لا بداية الموت (ص:164) ، يقول مؤكدا هذا المعنى : (لا أعتبرها بداية الموت ، إلا عند الذين يريدون منها أن تكون كذلك ، تستجيب لهم لأنهم نفسيا يرفضون الحياة ، ويعانقون الموت قبل أن يعانقهم ) (ص: 165) ، ويردد مع الأستاذ علال الفاسي قوله وإصراره 🙁 لن أموت قبل أن أموت) (ص:168) ، ويجمل الأستاذ غلاب كلامه ، بوصف الشيخوخة بكونها (أجمل مرحلة في الحياة) (ص: 173) ، ويعاتب الذين (لايخططون لشيخوختهم ، ويكتفون بانتظار الموت) (ص:178) ، وينتقد بعض التصرفات المرتبطة عند الكثيرين بمرحلة الشيخوخة ، كاحتجاز القبور ، وبناء المساجد ، وكأن الشيخوخة تعني الموت ، ليس إلا ، الشيء الذي يرفضه الكاتب (ص:178) ، مؤكدا في النهاية أن الشيخوخة هي (أسعد مرحلة من مراحل الحياة… وأن الذين يكرهون الشيخوخة لا يعرفون كيف ينعمون بمفاتنها… ويصفها في الختام ، بزهرة العمر (ص:180) .

                                                                      

_(1) (الشيخوخة الظالمة) ذ.عبد الكريم غلاب _ مطبعة النجاح الجديدة _ط1 _ الدار البيضاء .

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

على نكْءِ الجراحِ أرشُّ مِلحاً / بقلم: عبدالناصر عليوي العبيدي

ولــي قــلبٌ تعاندُهُ الصّروفُ ونــهرُ الــحادثاتِ بــه يحوفُ – إذا تــركَ الــرَّبيعُ ...

غزة غزوات / بقلم: عصمت شاهين دوسكي

منى النفس غزواتها وحدها على كبد شروخها راع الصدود عادة حملت الوهن ...

غزة الأمة وأمة غزة/ بقلم: خالد السلامي

منذ نكبة فلسطين في ١٩٤٨ تلك السنة العجفاء بل وقبلها حين بدأ ...

الظل والقرين/ بقلم: فاطمة معروفي

قصيدة من ديوان “نفس الماء” ضوضاء الصمت…… من حولي تكبل نقطي تمسح ...

أسمال الفزاعة البالية للشاعر بادماسيري جاياثيلاكا / ترجمة : بنيامين يوخنا دانيال

هايكو ( 1 ) أسمال الفزاعة البالية يسحب الحباك خيوطها * من ...

في الجهة الأخرى من الخديعة / بقلم: سالم الياس مدالو

  في الجهة الاخرى من الخديعة تفرك الغربان باجنحتها الشوك العوسج والحنظل ...

حلبجة الجريحة / بقلم: عصمت شاهين الدوسكي

  هلموا اسمعوا هذا الخبر نبأ اليوم قد تجلى حضر من قريب ...

واحة الفكر Mêrga raman